مقتطف من رواية لكاتب شهير

الزمان انفو –

محمد الأمين ولد الفاضل –

لا زلت أتذكر ذلك اليوم الذي رافقت فيه جدتي، رحمها الله تعالى، متوجها إلى معلم اللوح الجديد، والذي تقرر أن أتعلم عليه، بدلا من مواصلة الدراسة عند معلمة عجوز كانت لها طريقة رائعة في التدريس، إلا أن مشكلتها عند الآباء، أنها كانت لا تضرب الأطفال إلا قليلا، واعتقد بأن ذلك كان هو السبب الوحيد لتحويلي إلى المحظرة الجديدة.
كان منزل معلمنا الجديد يتكون من عريش واحد، يقع في أقصى جنوب المدينة، وكان من عادة تلاميذ المحظرة أن يستيقظوا في الثلث الأخير من الليل، ويتوجهوا بعد ذلك فرادى، ومثنى، وفي بعض الأحيان في جماعات صغيرة، إلى مكان الدرس.
في الثلث الأخير من كل ليلة، كانت تحدث منافسة شديدة بين التلاميذ، فكان كل تلميذ يسعى لأن يكون هو القادم الأول إلى المحظرة، لأن من يأتي أولا، كان يكتب أولا، وبالتالي فقد كان يغادر مكان الدرس أولا.
ولأن التلاميذ كانوا يأتون للمحظرة من قبل استيقاظ شيخها، فقد ابتدعوا طريقة ذكية يضبطون بها تسلسل وترتيب قدومهم، فكان أول القادمين من التلاميذ يتجه مباشرة إلى حيث ينام الشيخ، ليتمدد بجواره، دون أن يترك فراغا بينه مع الشيخ، مخافة أن يستغله أحد التلاميذ المتحايلين، وعندما يأتي تلميذ ثان فإنه يتمدد بجنب التلميذ الأول، ودون أن يترك هو بدوره أي فراغ، وهكذا. وعند استيقاظ الشيخ لصلاة الفجر، فإنه يقوم بإيقاظ التلاميذ، معلنا بذلك بداية يوم دراسي جديد، وأثناء عملية الإيقاظ تلك، يقوم الشيخ بضبط ترتيب قدوم التلاميذ، حسب ترتيبهم في الصف الذي يبدأ بالتلميذ الأقرب إلى فراش نوم الشيخ، أي بأول تلميذ وصل إلى المحظرة، وينتهي بآخر تلميذ يصل إليها، والذي يكون هو الأبعد من مكان نوم الشيخ.
هذا ما سمعته من التلاميذ الذين كانوا يشاركون في تلك المنافسة، أما أنا فلم أكن استيقظ إلا متأخرا، وكنت أجد صعوبة شديدة في الذهاب إلى اللوح من قبل تناول الفطور، ولذلك فلم أكن أصل إلى المحظرة، إلا بعد طلوع الشمس، وبعد أن يكون أغلب التلاميذ قد أوشك على أن ينهي درسه، وبدأ يفكر في العودة إلى المنزل.
وبسبب وصولي المتأخر للمحظرة، فقد تعودت أن يستقبلني شيخها مع طلوع شمس كل يوم دراسي، بعقوبة ثابتة، لا تتغير أبدا، فيها توبيخ، وضرب، وحبس. ولم يستطع المعلم رغم تكرار عقوبته تلك، أن يفرض عليَّ المجيء إلى المحظرة قبل طلوع الشمس، ولو ليوم واحد.
وبمرور الأيام، تحولت العقوبة الصباحية التي كان يستقبلني بها المعلم، إلى شيء عادي في حياتي. وكان أول شيء أقوم به بعد وصولي إلى المحظرة، هو أن أمد ذراعي الأيمن للمعلم ليقوم بقرصه ثلاث مرات بطريقة مؤلمة ومزعجة جدا، وكان قرص الذراع، يمثل الجزء الأول من العقوبة، في حين كانت تمثل عملية الحبس لبعض الوقت، الجزء الأخير منها.
ولقد تعود معلمنا أن يذهب في ضحى كل يوم، بعد نهاية الدرس، إلى سوق المدينة، وكان يتركني في العريش مقيدا بسلاسل من حديد، رفقة تلميذ آخر، لم يكن سجنه بسبب التأخر في الحضور، وإنما كان بسبب صعوبة في النطق، كان يعاني منها في صغره.
لم أفكر أنا ورفيقي، في أن نستغل فرصة غياب الشيخ، وأن نفك عنا القيود أثناء غيابه، وأن نعيدها قبل عودته بدقائق، وقد كان توقيت عودته معلوم لدينا.
لم نفكر في ذلك، إلا بعد أن زارنا في محبسنا طفل أكبر منا سنا، معروف بالشغب والطيش، وكانت له مشاكل سابقة مع شيخ المحظرة، انتهت بطرده من المحظرة.
حثنا الطفل الزائر على الثورة ضد معلمنا، وأبدى لنا استعداده الكامل للوقوف معنا، ودعمنا بكل ما يملك، حتى تنجح ثورتنا، وتُكلل بطردنا من المحظرة كما طُرد هو. ولقد نجح الطفل الزائر ـ وبسرعة كبيرة ـ في إقناعنا بضرورة الثورة على شيخ المحظرة، وعلى سلاسله الحديدية التي كان يقيدنا بها.
في البداية كانت مطالب وشعارات ثورتنا متواضعة جدا، ولكنها سرعان ما أخذت تتطور وتتصاعد بشكل مثير، كما هو حال الثورات العربية.
لم نكن نريد ـ وقت إعلاننا للثورة ـ إلا أن نتحرر من السلاسل الحديدية، لفترة مؤقتة، قبل أن نعود إليها عندما يقترب موعد رجوع الشيخ من سوق المدينة.
ولكن، وبعد تحررنا من القيود، قررنا أن نرفع شعار “يوم بلا تدريس”، وكانت وسيلتنا لفرض ذلك، هي أن نأخذ كل ما في صندوق شيخنا من مادة الصمغ، التي لابد منها لتهيئة مداد الدواة، هذا فضلا عن أخذ الموجود من السكر، والذي يستخدم كبديل، في حالة عدم توفر مادة الصمغ العربي.
فتحنا الصندوق، بطرقنا الخاصة، وأخذنا الموجود من المادتين، وكنا نفكر في رمي ما نهبنا من سكر وصمغ، بعيدا عن مكان المحظرة، إلا أن رؤية قطع السكر المغرية لنا كأطفال، جعلتنا نعدل الخطة قليلا. أخذنا نضع قطع السكر الكبيرة في الماء، لفترة وجيزة، ثم نبدأ بعد ذلك في مصها حتى تذوب تماما. وكانت تلك هي أسهل وأسرع طريقة لابتلاع أكبر كمية من السكر، في أقل وقت، ولكنها طريقة لم تكن تسلم من المخاطر، فهي كانت تسبب دائما لممارسيها انتفاخا شديدا في البطن، وهو ما حصل معنا، أنا ورفيقي، في ذلك اليوم العصيب، من أيام طفولتنا.
بعد ذلك تطورت المطالب وأصبح المطلب الجديد: “التلميذان يريدان تسميم الشيخ وقتله”.
في الأيام التي سبقت ثورتنا الحمقاء، تم قتل أفعى في المحظرة، وتم رميها ميتة فوق شجرة مجاورة. ذهبنا لتلك الشجرة بحثا عن الأفعى الميتة، وكنا نريد أن نضعها في القربة التي يشرب منها الشيخ، لتسميم مائها.
ومن لطف الله بنا وبالشيخ، أننا لم نعثر على الأفعى المقتولة، لذلك فقد قررنا ـ كبديل عن السم ـ أن نتبول في القربة، وأن نجمع بعض الأوساخ والقاذورات، وأن نخلطها بماء القربة، وبعد أن أنهينا عملية الخلط، عدنا لتقييد أرجلنا بالسلاسل الحديدية، وفقا لما جاء في بنود الخطة التي حددها لنا الطفل الزائر. كانت الخطة تقول بأنه علينا أن ننتظر عودة الشيخ ليفك قيودنا، وليأذن لنا بالانصراف، فذلك سيبعد عنا أي شبهة، وسيكون بإمكاننا أن نقول بأن ما حدث، قد حدث بعد مغادرتنا للمحظرة.
عاد المعلم، واتجه كعادته إلى القربة، وصب منها ماءً باردا، كان يريد أن يطفئ به ظمأه في يوم صيفي قائظ، من أيام مدينة لعيون المعروفة بحرارتها الفظيعة في فترة الصيف.
وما كاد المعلم أن يبتلع جرعة من الماء، حتى قال له شريكي في الثورة بأن ماء القربة غير صالح للشرب، وبأني أنا المسؤول عن ذلك. لقد وقعنا في ذلك اليوم في ورطة كبيرة، وكان سبب وقوعنا فيها هو أن شريكي قد خُيِّل إليه، وهو المعروف في شلتنا بجبنه، بأن الشيخ قد فطن إلى أن الماء غير طبيعي.
فما كان مني، بعد اعتراف شريكي، إلا أن حدثت الشيخ بتفاصيل ما حدث بعده، بما في ذلك عملية البحث عن السم، وقلت له بأن كل ذلك قد قام به رفيقي، وأنه كان بعون من التلميذ المطرود، وبأني كنتُ قد نهيتهما عن فعل ذلك، ولكنهما لم يستجيبا لي، بل إنهما ضرباني ضربا مبرحا، ثم أخذتُ أبكي بكاءً شديدا، ولا أدري إن كان ذلك البكاء كان من أجل إقناع الشيخ بحجتي، أم أنه كان بكاءً استباقيا لعقوبة قادمة لا محالة، كنت على ثقة كاملة بأنها لن تكون عقوبة عادية.
لم يصدقني الشيخ، الذي غضب في ذلك اليوم غضبا شديدا، ولم ينتظرني حتى أكمل، بل انهال عليَّ وعلى رفيقي، وأخذ يضربنا ضربا مبرحا، قاسيا، مؤلما، ولقد استخدم في ذلك اليوم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، فكان يستخدم في عملية الضرب كل ما تصل إليه يداه من عصي وسياط ومن أواني منزلية.
منذ تلك الحادثة، بدأت أفكر في ترك الدراسة في المحظرة، وإبدالها بالدراسة في المدرسة، والتي لابد أن التعذيب فيها سيكون أخف من التعذيب في المحظرة.
ومع الافتتاح في ذلك العام، قرر الأهل تسجيلي في السنة الأولى من الابتدائية، وكان ذلك في شهر أكتوبر من العام 1973 ميلادي. ولكن المفاجأة التي صدمتني كثيرا، هي أني تعرضت في المدرسة، ابتداءً من سنتي الثانية، إلى أنماط وأساليب من الضرب والتعذيب، جعلتني أحن كثيرا إلى معلم المحظرة، وإلى أساليبه البدائية في التعذيب.
تمكنتُ في سنتي الأولى بالمدرسة، ورغم صغر سني، من الحصول على الرقم الأول في امتحانات الفصول الثلاثة، وفي هذه السنة لم أضرب إلا قليلا، وكان معلمنا في ذلك العام يمدحني ويفتخر بي كثيرا، وكان كثيرا ما يطلب من التلاميذ، أن يصفقوا لي كلما أجبت إجابة صحيحة، وكثيرا ما كنتُ أتقدم بإجابات صحيحة، وذلك رغم أن أول يوم لي في المدرسة لم يكن مشجعا، ففي ذلك اليوم تقدمتُ بإجابة جعلتني محل سخرية واستهزاء تلاميذ القسم لفترة من الزمن.
لقد كان الكل فرحا بالافتتاح الدراسي، وقد كنتُ كغيري فرحا بالذهاب إلى المدرسة، ففي يوم الافتتاح، استيقظتُ مبكرا على غير عادتي، وأكملتُ كل الترتيبات اللازمة للذهاب إلى المدرسة، ومن قبل ذلك كنتُ أول من سُجِل اسمه في لائحة سنة أولى ابتدائي في مدرستنا في ذلك العام، ولم تسبقني في اللائحة إلا تلميذة واحدة كانت هي الراسبة الوحيدة من القسم الذي سبقنا.
لم أعد أتذكر تفاصيل اللحظات الأولى لدخولي في حجرة الدرس، وربما يكون ذلك بسبب ما أصابني من انبهار واندهاش في ذلك اليوم، ولكني في المقابل لازلت أتذكر جيدا تلك اللحظة التي بدأ فيها المعلم ينادي بأسمائنا.
ـ تاتا جالو ..
وقفت تاتا جالو ثم أجابت: حاضرةٌ يا سيدي
ثم نادى المعلم باسمي، فما كان مني إلا أن وقفتُ بنفس الطريقة التي وقفت بها تاتا جالو، وأجبتُ كما أجابت:
ـ حاضرةٌ يا سيدي
ولا أدري إن كانت الفضيحة التي أوقعتني فيها تلك الإجابة في أول يوم لي بالمدرسة هي التي ستجعلني فيما بعد أرفض أن أقلد الآخرين بشكل أعمى، ومهما كانت درجة ثقتي بتصرفاتهم وبأفعالهم. المهم أن جوابي في ذلك اليوم قد حول مسار الحصة، وقد فرض على المعلم أن يخصص أول درس له ليشرح لنا كيف نجيب إن نودي بأسمائنا، ومتى نقول حاضرٌ ومتى نقول حاضرةٌ، ومتى نقول عن تلميذ أو تلميذة ما بأنه غائب أو أنها غائبة.
ومع اقتراب الساعة العاشرة من أول يوم دق الجرس معلنا عن بدء الاستراحة الصباحية، فخرجت مع من خرج، ولكني لم أعد إلى الفصل مع الذين عادوا، بعد نهاية الاستراحة.
وفي منتصف النهار، وبعد نهاية الفترة الصباحية زارني بعض تلاميذ الفصل وأخبروني بأن المعلم قد سأل عني بعد الاستراحة، وأنهم قد قالوا له بأني غائب وبدون تاء مربوطة، مما يعني بأن زملائي في الصف الأول ابتدائي قد استوعبوا ـ وبشكل جيد ـ درسهم الأول في المدرسة.
وأخبرني زملائي، وربما يكون هذا هو ما جعلهم يزورنني في ذلك اليوم، بأن المعلم قد قال لهم بأنه سيعاقبني عقابا شديدا على غيابي، الشيء الذي جعل يومي الذي بدأ بفرح عارم ينتهي بحزن كئيب.
وباستثناء تلك الحادثة فقد خلت سنتي الأولى في المدرسة من أي مشاكل تذكر. أما في السنة الثانية فقد كان الأمر مختلفا، فبعد مرور شهر من الدراسة، حُوِّل إلينا مدير جديد لمدرستنا الابتدائية. ولقد استطاع المدير الجديد، وفي أيامه الأولى، أن يفرض نظاما صارما في المدرسة، فلم يكن بإمكان أي معلم أن يتأخر ولو لدقيقة واحدة، ولم يكن بإمكان أي تلميذ أن يأتي للمدرسة من قبل أن ينظف وجهه، ويرتب شعره، ويعطر ثوبه، وكان استخدام الماء والصابون، في أيام الشتاء عملا شاقا لم يتعود عليه التلاميذ، ولكن مع المدير الجديد، فلم يكن هناك مفر من القيام بذلك العمل الشاق، صباح كل يوم دراسي، ومن قبل الذهاب إلى المدرسة.
كان المدير الجديد فظا، قاسيا، وخبيرا في أساليب التعذيب، وكان يبتكر في كل يوم تقنيات تعذيب جديدة، وأنماط لم تكن معروفة لدينا من قبل. ولسوء حظنا نحن تلاميذ السنة الثانية، فقد قرر المدير الجديد أن يتفرغ لتدريسنا دون غيرنا.
دخل علينا المعلم الجديد ذات صباح مشهود، ليخبرنا بأنه سيدرسنا بدلا من معلمنا القديم، وقد جاءنا في ذلك اليوم وهو يحمل معه سوطا مخيفا، وعصا غليظة، وسلاسل من حديد، وأشياء أخرى سيكشف عنها في وقت لاحق.
وضع المعلم الجديد السوط والعصا وسلاسل الحديد فوق الطاولة الخاصة به، ثم أشار إلينا بالجلوس بعد أن وقفنا للحظات احتراما وتقديرا له.
خيم على الفصل صمت رهيب بعد جلوسنا، مرت لحظات بدت وكأنها دهر، لحظات ظل فيها المعلم الجديد واقفا أمام مكتبه دون أن ينطق ببنت شفة.
كان أول شيء نطق به معلمنا الجديد، هو أنه طرح علينا سؤالا فرحنا كثيرا بطرحه، لأنه من جهة كان قد قطع ذلك الصمت الرهيب الذي كان يخيم على القاعة، ولأنه من جهة أخرى كان سؤالا سهلا يمكن لكل واحد منا أن يجيب عليه.
ـ أيكم يعرف اسمي؟
رفعنا جميعا أيدينا، وكان كل واحد منا يتمنى أن يختاره المعلم الجديد للإجابة على هذا السؤال البسيط.
لم يفلح التلاميذ، الذين تم اختيارهم، في تقديم الإجابة التي كان يريدها معلمنا الجديد، وقد تبين من خلال إجابات التلاميذ المتنوعة بأن المدير، والمعلم، وسيدي، وحتى الاسم الشخصي لمعلمنا الجديد لم تكن هي الإجابة المطلوبة.
فما هو اسم معلمنا الجديد؟
ظل السؤال مطروحا، ولم يعد هناك من يرفع يده، طلبا للإجابة، ولأنه لم يعد هناك من يرفع يده، فقد قررت أنا أن أرفع يدي من جديد، فكم هو رائع أن أجيب على سؤال فشل كل التلاميذ في الإجابة عليه، خصوصا إذا كان صاحب السؤال معلما صارما وقاسيا يسعى المعلمون من قبل التلاميذ لكسب وده. ومن يدري فربما تكون إجابتي سببا لأن يرضى عني معلمنا الجديد رضا لا يغضب بعده أبدا؟
أذن لي المعلم بالجواب.
كان من سوء حظي، أني كنت قد سمعت قبل ذلك بأيام، ومن قبل أن يحول المدير الجديد لمدرستنا، من ينادي معلمنا الجديد باسمه مصغرا، فاعتقدت بأن ذلك الاسم ربما يكون هو الاسم الذي يسأل عنه معلمنا الجديد.
ـ سيدي، اسمك أَعْبَيدْ اللهِ.
لم يطلب المعلم الجديد من التلاميذ أن يصفقوا لي، كما كان معلمنا السابق يطلب منهم ذلك، ورغم ذلك فإني لم أشك في صحة إجابتي، فربما تكون لمعلمنا الجديد طريقته الخاصة في تشجيع أصحاب الإجابات الصحيحة.
اكتفى المعلم بأن طلب مني أن أقترب منه، وعندما أصبحت بجنبه، وضع يده على منكبي، بحنان مريب، ثم قال لي بصوت هادئ ووقور:
ـ يا شقي، أنا اسمي المشكلة، وستعرف الآن أنت وزملاؤك في الفصل، بأني مشكلة حقيقية، ابتليتم بها في عامكم هذا.
وما كاد معلمنا المشكلة ينهي كلمته الأخيرة، حتى أدخل يده في جيب دراعته، وأخرج حزمة من الإبر الغليظة، اختار واحدة منها ووضعها على الطاولة، بجنب العصا والسوط والسلسلة، ثم أعاد بقية الإبر إلى جيبه.
بدأت أحس بأن معلمنا الجديد يفكر في شيء آخر غير تشجيعي.
ـ يا بني اطمئن فلن نستخدم معك سلسلة الحديد في هذا اليوم.
صمت قليلا، ثم واصل بصوته الذي لم يعد هادئا ولا وقورا:
ـ سنخز لسانك الطويل ثلاث مرات بهذه الإبرة، وسنضربك على كعب كل قدم وعلى عرقوبه ثلاث مرات بهذه العصا، وسنلسعك على الظهر بهذا السوط ثلاث مرات أيضا، أما السلسلة، وكما قلت لك سابقا، فلن نستخدمها إطلاقا في هذا اليوم.
لم يلتزم معلمنا المشكلة بنص العقوبة، فقد كان أول شيء فعله هو أنه صفعني على الوجه صفعة قوية، لم أعرف لها مثيلا، لا من قبل ولا من بعد، رغم أني استقبلت في طفولتي عددا لا بأس به من الصفعات. وبعد تلك الصفعة، بدأ معلمنا الجديد بتنفيذ ثلاثياته المنصوص عليها في العقوبة، وهنا أيضا لم يلتزم حرفيا بنص العقوبة، فقد تحولت لسعات السوط إلى أربع بدلا من ثلاث.
وبعد مرور فترة من الزمن على تنفيذ تلك العقوبة، حدث في يوم من الأيام ـ وكنتُ في تلك الفترة أسكن بعيدا من المدرسة ـ أن وصلت إلى المدرسة متأخرا بدقيقة واحدة عن الثامنة صباحا، وكانت تلك واحدة من الجرائم الكبرى عند معلمنا المشكلة. وفي ذلك اليوم، ولأول مرة في حياتي، كنت ألف معصمي الأيسر بساعة جديدة، حصلت عليها، بعد جهد جهيد، وكان من المفترض أن يلتف حولي تلاميذ الفصل، في وقت الاستراحة، كما تلتف الساعة على معصمي، ليسألوني عن ساعتي الجديدة، عن سعرها، عن كيفية معرفة وقتها، وعن أسئلة أخرى كنت في شوق لسماعها من زملائي في الفصل، ولكن المعلم المشكلة ضيع عليَّ تلك الفرصة النادرة التي قد لا تتكرر أبدا.
توجهت إلى باب الفصل، وطلبت من المعلم أن يأذن لي بالدخول.
لم يكتف المعلم بأن أذن لي بالدخول، بل طلب من التلاميذ أن يقفوا احتراما لي، وكان ذلك يعني، في قاموس معلمنا المشكلة، بأن العقوبة هذه المرة ستكون مميزة، وأنها ستتناسب مع الاحترام المميز، الذي استقبلني به التلاميذ، وفقا لأوامر معلمنا المشكلة.
أخذت أبكي بكاءً شديدا، ثم قلت بصوت متقطع:
ـ سيدي سامحني هذه المرة، وأعدك بأني لن أتأخر بعد اليوم ثانية واحدة. إن ساعتي كانت هي السبب، فقد كنت أعتقد بأن وقتها دقيق، ولكن يبدو أنه ليس كذلك، فهي لا زالت تشير، حتى الآن، إلى الساعة الثامنة إلا ثلاث دقائق، وكنت قبل ذلك، قد أخرت الساعة بدقائق أربع لتبرير تأخري.
نزع المعلم الساعة من معصمي بعنف، وبدأ ينفذ عقوبته الثانية ضدي، والتي وعد بأنها ستكون في هذه المرة، عقوبة مخففة. ولم أعرف أنا، وإلى غاية الآن، ما هو الفرق بين عقوبة مخففة، وعقوبة كاملة، في قاموس معلمنا المشكلة.
ولم أفهم أيضا، وإلى غاية الآن، لماذا كنت أصر على أن أرتكب حماقات في عهد المعلم المشكلة، لم أفكر في ارتكابها في عهد أي معلم آخر؟ لقد كنت أخاف من المعلم المشكلة خوفا شديدا، لا جدال في ذلك، ولم يحدث أن عرفت مثل ذلك الخوف مع أي معلم آخر، ورغم ذلك فقد تجرأت في الأشهر التي كان يدرسنا فيها، على ارتكاب حماقات، لم أتجرأ على ارتكابها في عهد أي معلم آخر.
لقد كنت أتسلل في بعض الليالي، صحبة تلميذ آخر، إلى المدرسة، وكان التلميذ المرافق يساعدني على التسلق حتى أصل إلى فتحة، على شكل نافذة مستطيلة، في أعلى مكتب المدير، وكنت أستخدم تلك الفتحة للدخول إلى داخل مكتب المدير.
وفي داخل المكتب، كنت أصحح الواجبات، فأعطي لأصدقائي نقاطا جيدة، ولخصومي نتائج سيئة، وكنت أنزع بعض الأغلفة البلاستيكية الجديدة، من دفاتر بعض خصومي في الفصل، لأغلف بها دفاتر أصدقائي في الفصل، ممن لم تكن أغلفتهم جيدة.
ومن حسن حظي، أن تلك الجريمة البشعة، التي شغلت التلاميذ والمعلمين على حد سواء، لم يكتشف مرتكبها إلا بعد أيام معدودة من تحويل المعلم المشكلة، إلى مدرسة أخرى، وإبداله بمعلمنا ومديرنا السابق.
ولم تتوقف مصائب المعلم المشكلة حتى من بعد تحويله، فلقد اتصل المعلم المشكلة بوالدي رحمه الله تعالى، وطلب منه أن يسمح له بتحويلي إلى المدرسة التي حُوِّل هو إليها، وذلك لكي يشرف ـ وبشكل مباشر ـ على تربيتي وتعليمي، وكانت حجة المعلم المشكلة، هي أني أستحق رعاية خاصة، تتناسب مع ذكائي الخارق، وأنه هو وحده القادر على توفير تلك الرعاية.
ـــــ
تلكم كانت الحلقة الثانية من رواية “يوميات شخص عادي جدا”، وقد أعدتُ نشرها بمناسبة صدور الرواية في نسختها الورقية، والتي أصبحت متوفرة في مكتبة “جسور عبد العزيز” عمارة المامي ـ الطابق الأرضي.

حفظ الله موريتانيا.. 

محمد الأمين ولد الفاضل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى