من قصاصات ابروكسيل/محمدالأمين محمودي

الزمان انفو:

#قصاصات_ابروكسيل
الأولى
* الصورة من احدى سهرات العمل في صحيفة “القلم”

منذ اول يوم من عام الفين واثنين كان الاحباط قد بلغ ذروته لدى الجميع فنظام ولد الطايع تحكم حتى في جرعات الأمل التي تقدم للمواطنين،وضعية كارثية على جميع المستويات اترك الحديث عنها للسادة السياسيين.
على المستوى الشخصي كان مديري واخي حبيب ولد محفوظ قد رحل عن عالمنا والى الأبد وكان من الصعب على صحيفة القلم العربية ان تواصل بذات الألق،تقريبا وجدت نفسي في الشارع فلا انا اجد في صاحبة الجلالة مايسد مسغبتي ويحل مشاكلي اليومية كشاب حالم ولا انا قبلت بأن امارس مهنة التعليم، وإن كنت خضت تجارب بعضها افادني من بائع ادوية في الصيدلية المركزية الى عداد في الميناء.
في الثانية عرفت مع اصدقائي معاناة الحمالة وكيف يحملون على ظهورهم طعام البلاد وشرابها ليحمله الآخرون في بطونهم دون ان يمنحوهم حتى الفتات ..كنا نقضي الليل بأكمله نراقب تفريغ البواخر ومن ثم نحسب الشاحنات ونراقب ونعد حمولتها على مدار الدقيقة،،حين تكون الحمولة بعض المواد الغذائية لن تتأثر انوفنا ولن نسعل لكننا سنتألم لأننا نحمل اسفارا لن نقرأ منها ولافيها، اما حين يفرغون الاسمنت فتأخذ سحناتنا لونا رماديا ويتصلب شعر كل واحد منا..بعد ثماني ساعات يرميك اترانزيتير الاقطاعيين بشطيرة ساندويتش قادمة في احسن احوالها من مطعم الاسلام (بالعربية والسلام بالفرنسية) ويطغى عليها غالبا البصل والمرق،لاحاجة تقضى الا في الملأ ف” جميعكم رجال”، هكذا يستدعي المشرف الرجولة فينا حتى لانعطل جشعه، والحقيقة اننا جميعنا عبيد لشخص غالبا لم يزد علينا الا بأنه ولد في المكان الصح ونحن ولدنا في المكان الخطأ..مقابل الفي اوقية يشتغل احدنا عدادا ومراقبا من الساعة الخامسة مساء وحتى السابعة صباحا على ان تقلنا الشاحنات مع الحمالة المنهكين الى مفترق طرق مدريد حيث نقفز ونحن نيام من الحوض الكبير لنتخذ طرائق قددا لاستهلاك اليومية قبل العودة مساء الى نفس النقطة وكل واحد منا يمسح قذى النوم اذ سنبدأ الرحلة من جديد كسيزيف الذي لايتعظ،احد الأصدقاء مات بعدها بأعوام بعد ان اصيب بمرض في رئتيه ولا اعرف ما اذاكان لمرضه ذاك علاقة بمزاولته لأعمال السخرة تلك..هناك تعرفت على عالم آخر يرقب اهله ويحملون ويعدون كل مستهلكات البلاد اما هم بحمالتهم وعداديهم فأقل من يستفيد من المواد الاستهلاكية اذ في السوق تتنكر لهم هذه المواد وكأن الأرز لم يحمل على ظهورهم والقمح لم يمزق عضلاتهم او ان الحليب لم يلق الرعاية والحرص من اعينهم الساهرة ذات ليال باردة.
في الصيدلية عرفت فنانين وصحافيين وساسة يتعاطون الأدوية كمخدرات ولأول مرة ارى سيدة تبكي لأنني رفضت بيعها حبات من منوم لايحق لها اخذه بدون وصفة حديثة وعليها توقيع واضح..بكت بحرقة حتى جاء الخبير فحاورها وطيب خاطرها ونظرتني بالنظرة الشزراء: انت غبي لم تعرف بعد كيف تتصرف!
مرة جاءت احداهن وقالت ان حذاءها الضيق سبب لها رضوضا في القدم وانها تريد ان تعقم الالتهاب، وهي خدمة نقدمها عادة بصفة مجانية وضعت القنينة الى جانبها ودخلت لأجلب القطن فوجدت ان القنينة اختفت،سألتها فردت بارتباك واضح: لم تحضر قنينة،ايضا جاء “احمد سيك” الخبير الصيدلاني واخرج القنينة من صدريتها..لاحظت انتشارا غريبا لتناول الحبوب المنومة كمخدرات وفعلا كان طاقم الصيدلية المركزية وهي الأكبر يومها في موريتانيا،كان طاقمها يخوض حروبه مع البغايا ومدمني المخدرات،تجربة لم تدم اكثر من سنة على ما اعتقد لكنها علمتني للأسف التداوي الذاتي وخبرة قد تكون مهمة في الادوية..
ومع كل هذا انا صحافي وانشر زاوية شطحات واعمل على التحقيقات واتذاكى مع غيري على المادة ١١ وفي نهاية الاسبوع احصل في احسن الأحوال على وثيقة تتحول الى خمسة آلاف حين اقدمها لعمال شركة التوزيع “ام بي سي” وهم امزجة واشخاص لكنهم خدموا الصحافة والصحافيين خلال سنوات الشدة المادية..
لم يكن في الأفق مايغري بالبقاء،اذ على المستوى السياسي والنضالي كان تنظيم ضمير ومقاومة يزعج النظام ويربك حسابات ولد الطايع وكنت مع بعض الرفاق فيه نقوم بأدوار مختلفة،فبينما يقوم بعضنا بالكتابات على الجدران يقوم آخرون بجمع المعلومات السرية التي غالبا تكون مادة لوثيقة كبيرة ستقدم على موائد الأوروبيين لتزيد من حنقهم على النظام،وكنت قد اعتقلت مرات في هذا الاطار،وفي الأشهر الأخيرة كان الأمر مزعجا،تعتقل في امر لايعنيك لساعات،انهم يتخبطون،وفي الأخير يطلق سراحك دون ان يصنف الوقت الذي استدعوك فيه او جلبوك خلاله بالقوة الى مكاتبهم.
اخبرت زميلتي ومديرتي الجديدة هند بنت عينين عن نيتي الخروج فأعدت لي رسالة الى السفارة الفرنسية باسم القلم،كان ذلك في مارس من عام الفين واثنين،وفعلا منحوني التأشيرة وأخفيت جوازي،وتركت الأيام والهواجس تقرر هل اخرج ام لا ،قضيت اياما وانا في حالة شرود كامل،حتى افراد عائلتي لم اخبرهم ،افكر واخاف واحزن وارتبك..هل اترك بلدي لأنني عجزت عن رفع الظلم والجوع والاضطهاد والعنصرية والاسترقاق عني وعن اخوتي فيه؟!
هل اسافر فأضحي بذكرياتي واهلي واصدقائي؟!
من سأكون٫وكيف سأكون،وهل حقا تطيق وداعا ايها الرجل؟
لايخيفني السفر في حد ذاته بقدرما يخيفني انهم قد يحرمون علي بموجبه العودة الى البلاد نهائيا،فأن تكون مع جمال ولد اليسع اوجماعة ابروكسيل في تلك الفترة وتظن انك ستعود فذلك مستحيل، اما ان تكون من ضمير ومقاومة في انواكشوط فاعتقالك لن يكون الا اذا شاركت في عمل وغالبا لايكون هذا العمل خطيرا..
مافائدة البقاء بلا امل،الصحافة طبعا بلا امل، فاما ان تكون متسولا او تابعا لبعض اركان النظام اي ان تشاركهم بطشهم ولن تكون في النهاية غير تابع رخيص،او ان تظل تكتب وتكتب وتزعجهم بكتاباتك فأقصى احلامك ان تكون محمدفال ولد سيدىميلة،اي ان تظل رجلا طويل الوجه، تدخن سجائر “الكونغرس” الرخيصة وتذرع الشوارع على قدميك وان كنت فعلا تحس ويحس الآخرون بأنك متصالح مع ضميرك وذاتك والتاريخ..هذا كله لن يقدم لك مابه قد ترد بعض بعض كد والديك عليك كما انه لن يسمح لك يوما بتأسيس بيت واسرة ككل البشر..
نجحت ذات مرة في امتحان شرطة الامارات،اسمي يظهر في جريدة الشعب وترتيبي ثمانية وستون من سبعة عشر الف مشارك،لكنهم رفضوني في تقييم النظر،خرجت منهم وانا اضع النظارات الطبية..لم اكن اعلم!
(كان الأمر ليظل جرحا مفتوحا لو انني نجحت وسافرت الى الامارات وعينت حارسا لصحيفة او للتلفزيون الذي اعمل فيه الآن)
في دفعة “جي اي جي ان” الخاصة بالدرك اخبروني بعد نجاحي في الامتحان بأنني محظوظ لأنهم هذه المرة اشترطوا ان لايقصر الناجح عن طول متر وخمس وثمانين،نجحت وكنت من بين القلائل الذين استجابوا لهذا الشرط لكن لم يظهر اسمي بعد التقييم الشخصي،هل انا مجنون؟ لم اكن اعلم!
كنت سأرسل الى مرسيليا لتعلم الغوص في تكوين مدته سنتان، اذ كنت سأشتغل مع شركة بحرية،لم يحدث آخر لحظة!
نجحت معلما لكنني احبطت حين لاحظت حال المعلمين من اصدقائي..
يجب ان اخرح..نعم يجب ان اخرج..
لكن من جديد: هل تطيق وداعا ايها الرجل؟!
يتواصل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى