من قصاصات بروكسل/محمدالأمين محمودي

الزمان انفو _ قصاصات_ابروكسيل
الخامسة

نظريا كل قادم الى هذه البلاد سيبحث عن وضع قانوني يسمح له بالبقاء اما بالبحث عن عمل رسمي او بالزواج من بلجيكية او باللجوء، وبما انني مضايق في بلدي ولأسباب كثيرة سأعود اليها بالتفصيل في هذا السرد فتقديم ملفي للجوء السياسي سيكون افضل من اي اجراء آخر..لكنني لست قلقا ولست في عجلة من امري مادامت تأشيرتي تسمح لي بالبقاء ومادامت لالوفيير جنة صغيرة فصلت على مقاس قلبي ومايشتهيه ويسعده..كان صديقي يشتغل بدوام كامل مايجعلني وحيدا في السكن،وكان علي ان استيقظ يوميا وأخرج لأكتشف المكان والشخوص،جميعهم اكتشفوا انني جديد على الحي، لكن ذلك لم يمنعهم من ان يبشوا في وجهي كلما صادفت احدهم،تعرفت على مركز الهاتف العمومي لصاحبه الكونغولي “ايف” وكان يظهر لي الود انطلاقا من انني قريب للشريف المقيم منذ سنوات هناك والناشط في الحزب الاشتراكي البلجيكي، وهو على تماس يومي بالسكان واصحاب المحال التجارية والمكاتب..اكتشفت بعد يومين مقهى “لاسافان”.
دخلت المقهى، طلبت قهوة بدون حليب كما رأيتهم يفعلون،كانت تجربتي الأولى مع القهوة في المقهى وبدون حليب وخبز وزبدة.
سألني الشاب المغاربي عن محل سكني فأخبرته فقال: انت قريب الشريف وخييرت! قلت كيف تعرف الكلمة؟
قال: انا موريتاني..ضحكت.. المقهى عبارة عن “سناك” يبيع الوجبات الخفبفة لكنه خاص جدا فجميع رواده من طلبة الثانوية المقابلة وهي اكبر ثانوية في “لالوفيير”..يمضي اليوم كاملا في التنافس والتسامي مابين الفتيات بعرضهن للموضة من ثياب ونصف ثياب ووشم وحلق معدنية في الأنف او السرة او في اماكن اخرى..بعد ايام ادمنت الجلوس على نفس المقعد،صرت أحن الى الوجوه الغائبة وانتظرها بلهف..واتمايل في قرارة نفسي على موسيقى اغنية “سيرخي” لفرقة “لاس كيتشوب” الاسبانية..سيرخي اهي اهي..الجو لطيف والناس طيبون ولاتحس بأنك غريب بينهم.
تقليديا يطلب مني احمد ان اجلب له بعض الدباء والملفوف من عند الخضار ضحى كل يوم فبدا كأنني اشتغل معه، ما منحني الألفة و بعض الاحترام،فمن لايعمل لامكان له في حلق الناس وعلاقاتهم، بل إن له فلكا آخر عليه ان يسبح فيه..احمد فتى من “عين تركز” بالمغرب وامه اسمها السالكة منت احمد لعبيد امرأة من موريتانيا اصلا لكنه لايعرف موريتانيا ولا المغرب الا من خلال الاسم..باختصار هو شاب بلجيكي ناجح ايما نجاح، وتتحدث الصحف المحلية ك “لاغازييت” عن مطعمه وعن خدماته السنوية التي يقدمها لفرقة راقصي “سيلين ديون” فقد جرت العادة ان يتمرن افراد فرقتها(يزيدون على المائتين) في شركة لمالكها “ادراكون” وهو رجل من “لالوفيير” وحين تكون الفرقة في المدينة يوفر هو الطعام والشراب كخدمة بموجب عقد دائم، حتى اصبح معروفا بقربه من الفنانة وعملاق الانتاج دراكون..احمد يريد تعلم العربية والقرآن تماما كاخوته وفي اول لقاء بيننا قال لي إنه يحسد الشريف على عربيته..
خلال ايام تعرفت على جميع الطلبة وعلى نادلة “دولشي فيتا” الايطالية وعلى ايف وعلى رشيد العربي الذي كنت اظنه من لبسه وسيارته ابن اسرة بورجوازية فاتضح انه لص انيق يسرق اموال عشيقاته ويجلس معنا كل يوم في لاسافان بكل احترام..تعرفت على اصدقاء من العرب وكلهم ولدوا كبلجيكيين..الجو ليس باردا فنحن في مايو ويونيو لكنه يمنحك ذاك الشعور الجميل بالتنمل والقشعريرة اللذيذة،قطرات تأتي من السماء فتتحول في الطريق اليك الى زخات حتى لاتزعجك،و في الليل تعرف ماذا ستلبس في الغد بفضل النشرة الجوية الدقيقة والصادقة..تقريبا لا التقي صديقي الا في السهرة التي تمتد حتى قبل الفجر بقليل،شاي على شريط وحيد من ول انكذي وذكريات مشتركة نكررها ونعيد تدويرها لتصلح لمجلس آخر..في الصباح سيذهب الى عمله وسأستيقظ ضحى حتى لا افوت حيوية لاسافان..ويحدث ان تمر امامي في الساعة الخامسة دوروتي تلك السيدة الأنيقة البدينة قليلا ثم تتوقف وبكل وقار وأدب واتيكيت وكأنها في كل مرة تراني لأول مرة: سيدي هل اجد لديكم مقدحة؟
اشعل سيجارتها، ترفع عينيها لتخبرني ان ناري سرت في التبغ، ثم تقول وهي تنفث غيمة دخان:شكرا سيدي..وتنصرف ورغم اللبس والأدب والجمال والهدوء الا انها مجنونة رسميا ويعرفها الجميع كمختلة.
في البلدة التحية الوحيدة هي القبل الجانبية، والقبول بهذه التحية هو اول مظاهر الاندماج،ستلاخظون لاحقا ان الاندماج كلمة سحرية تستخدم كثيرا في احاديث المهاجرين والسياسيين الغربيين، وتعني الذوبان، وكلما ذاب الانسان في المجتمع هناك كلما كان ذلك مفيدا في تقييمهم له..حين يعود صديقي الى البيت لينام مباشرة حتى الثامنة استغل الوقت في جلسة مع احمد واخوته والسيدة تينا وابنيها ماكسيم وانطوان.”.تينا” سيدة ايطالية تعشق الجلسة العربية الافريقية وتربي اولادها على حب الأفارقة والعرب وقد استفادوا فعلا من علاقتهم بأحمد..لأحمد اخت تعمل في القاعدة العسكرية ب”مورلنواي” وعي قاعدة امريكية تتبع للناتو وقد اخبرتني ان معها عريفا امريكيا من اصل موريتاني..لم اصدق بادئ الأمر فقلت إن الأمر التبس عليها، لكنها بعد ايام جلبته الى المقهى وتبادلنا التحية فلاحظت انه موريتاني فعلا وانه اما يتعمد تغيير لكنته او انه فعلا من اصل موريتاني لكن لا يعرف موريتانيا..كنا نتحدث عن حروب بلاده وكيف يوفق بين عقيدته وخدمة الجيش الذي يحارب المسلمين في بلدانهم وكان يرد تماما كبوش:نحن نحارب الارهاب.. الى آخر الاسطوانة، وحين تقدم بنا الحديث بدأت افكك مظاهر الكبر على وجهه وأعدته بأعجوبة الى طفولته ثم تذكرته.
قلت: انت وانا درسنا في نفس الابتدائية اسمك فعلا مولاي واختك لالة عيشة!!
قال : صحيح هي اختي فعلا.. وبدأ يتذكر اسماء تلاميذ الفصل لكنه لم يتذكرني..مولاي بعد الابتدائية انضم الى طلبة ثانوية “شمس الدين” الحرة لكنه في نفس السنة عاد الى آمريكا التي ولد فيها اصلا، اذ كان والده مولاي الحسن سفيرا هناك او موظفا امميا..لا اذكر..المهم انه انضم للجيش واصبح سيرجينت(لا أعرف هل ترجمة عريف لسيرجينت دقيفة)..زارنا مرات بعد ذلك قبل انتقاله الى السيلية بقطر ثم العراق..اخبرني ان موريتانيين يقاتلون في تلك الأيام ببغداد كمارينز وفعلا اعرف احد من صبوا الحمم على العراقيين وهو من اصول موريتانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى