من قصاصات بروكسيل6

الزمان انفو _ محمدالأمين ولد محمودي في الحلقة
السادسة من قصاصات ابروكسل:

وجاء اليوم المنشود فقد عقدت العزم على تقديم طلب اللجوء،استيقظت الساعة الثالثة صباحا،ربما لم انم فالكوابيس تطاردني مذ وطئت اقدامي ارض اوروبا،الخوف،الرهبة،الدهشة،الاحساس بالغربة والذعر من المستقبل اللايقيني، وهذه المرة هو كذلك لأننا جاهلون واحرار في نفس الوقت..لبست بنطال جينز وقميصا وسترة وحملة بعض اغراضي.في ابروكسيل حيث أقام محمودي وزملائه
فتح صديقي عينا ليفتح الباب ويودعني مع بعض التوصيات كعدم التناقض وقول الحقيقة ولاشيئ غير الحقيقة :فملفك قوي والمنظمات الدولية ستشهد لك،كلام النائم هذا لم يخرجني من جو القلق الذي تغشاني منذ اتخذت القرار.
خرجت الساعة الرابعة تقريبا فالقطار يتوجه الى ابروكسيل كل ساعة..خطوت متثاقلا وانا احمل ملزمتي كالمترنح رغم ان الجميع في الشارع استيقظوا للتو وهم في كامل نشاطهم،”صباح الخير،صباح الخير”،جميعهم يرددونها رغم الظلام المضاء ورغم الهدأة التي تطالعك في اماكن الجلوس النهارية من مقاهي وساحات عامة.
في موقف السكة وقفت وحيدا بين مجموعات العمال الذين يعرفون بعضهم بعضا..جلست في المقصورة الخلفية ويبدو انني نسيت قطع التذكرة.
بعد دقائق جاءت سيدة يبدو من وجهها انها استيقظت قبل ساعات ورتبت زيها المهني ووضعت مايجب ان تضعه على وجهها من طلاء واصباغ.
صباح الخير
صباح الخير
اين بطاقتكم او اشتراككم؟
-سيدتي لابطاقة لدي ولست مشتركا فأنا لاجئ في طريقي لتقديم ملفي وفعلا نسيت ان اقطع التذكرة
-هل لديك الثمن؟
-نعم
-سأقطع لك حتى اجنبك الغرامة
فعلت، وسلمتني التذكرة وابتسمت ثم اضافت:مرحبا بك في بلجيكا التي يقطع فيها الناس التذاكر ايحصلوا على خدمة النقل..لابد انها يمينية!
لم اعرها اهتماما رغم ابتسامها فعقلي وقلبي يسبقان القطار الى المكتب الذي سيصدر فيه القرار بشأني،المفوضية العامة للاجئين والبدون..نزلت في المحطة الشمالية، وخرجت من البوابة الكبيرة فوجدت امامي بعض التماثيل لنسوة عاريات..لم افهم بادئ الأمر..يبدو ان التماثيل تتحرك..المرأة العارية واقفة خلف زجاجة كبيرة تبتسم وتتعامل بالاشارة مع من يطوفون بواجهات المحال..طواف يبدو انه مألوف في البلد،كل محل تقف فيه سيدة والى جانبها باب صغير،ومن يطوفون بناقشون بأصابعهم أثمان الدخول..لاحقا سأكتشف ان الزقاق محطة اجبارية للكثير من المبتعثين في مهام الى اوروبا..يشتري احدهم سيارة من السوق ،يشحنها عند “كينغ جورج” او “حمودة” ثم يؤدي طواف الانتهاء حتى لا اقول الافاضة بمحال المحطة الشمالية، يبدو انني خرجت من الشارع الخللفي للمحطة الشمالية وهو زقاق الهوى واللهو والجنس..
عدت ادراجي فالطريق الذي اخبروني عنه “ليس ورديا” بهذه الدرجة..دخلت الرواق الكبير للمحطة واشتريت كوب قهوة ثم خرجت من باب الواقع فرأيت الناس ينزلون وكلهم نشاط وحيوية،ويتفرقون مابين الأزقة ووسائل النقل..نظرت غير بعيد فرأيت العمارة التي يتحدثون عنها،عمارة من زجاج تلتمع فجرا كأنها مصابيح نثرت في الغيوم..هنا سيتحدد مصيري ربما..واصلت سيري،احتسي الدخان والقهوة مراوحة،واتوقف لأفكر فمازال بالامكان العدول عن القرار والعودة الى صديقي ومن ثم الى موريتانيا بدون مشاكل..الخطوات تتبع بعضها بدون استئذان وانا اقترب من المبنى حتى وجدتني بين آلف شخص وربما اكثر بكثير..طوابير طويلة..لاأعتقد انني سأوفق في الدخول حتى بعد عشرين سنة؟ ماهذا بحق السماء؟
اناس من مختلف الألوان والطبقات،يصلحون لكل دور ضحايا حروب امراض سجناء سابقون شعراء من العصر الأوروبي الوسيط انقلابيون فاشلون ووزراء رؤساء افارقة افل نجمهم فنزعت صورهم ونزعوا من القلوب..اطفال..مسنون..بداة متخلفون..غجر وعرب من لبنان وفلسطين.وقفت في مؤخرة احد الطوابير وطبعا ابتعد عني قليلا الأوروبي الشرقي فأنا مغاربي ولاشك انني سأثير المشاكل بعد حين..يتقدم الطابور وئيدا وئيدا..اتمدد و اتثاءب و اجلس..اخرج من الطابور لأدخن ثم اعود لمكاني واخيرا وجدتني في قاعة كبيرة اعطوني رقم 717..نمت قليلا او استسلمت لاغفاءة خفيفة ويدي على ملزمتي فلاشيئ فيها اذ تركت جواز سفري واوراقي..في السابق كان عليك ان تخفي جواز سفرك لأن القانون يفرض عليك ان تتقدم بطلب اللجوء في اول بلد اوروبي وطئته قدماك وفي حال قدمت جواز سفرك فسيطلبون منك الذهاب الى بلد الدخول وهنا ستكذب..نعم ستكذب وتختلق سفرا بحريا وقصة باخرة تم تهريبك عبرها..وتنتهي قصتك بأنك جئت عبر ميناء آنفيرس وبدون وثائق ولأن القانون يحيط اجراءات اللجوء بالسرية فيحرم عليهم البحث عن تأشيرتك او اسمك لدى السفارات الغربية في بلادك او لدى وزارة الداخلية او الخارجية في بلجيكا مثلا..ادخلوني وسجلوا معلوماتي الأولية واعطوني قصاصة توجهت بها الى الطبيب..فحص واحد بالأشعة للصدر واعطوني خارطة: ستكون في هذا المركز حتى ندرس ملفك..خرجت الساعة الثالثة تقريبا..سيجارة وخارطة في يدي ونظرات باهتة تبحث عن احد نزلاء المركز او احد الذاهبين اليه..فتحت الخارطة..لم افهم طبعا..سألت احد المشاة فوجهني الى الشارع الكبير،سرت ميلا او اثنين ثم وجدتني امام البوابة الكبيرة للمركز المسمى بالقصر الصغير..اجراءات امنية في البوابة ثم وجهوني الى المرشدة الاجتماعية جينييفير..كنت رقما امامها..خائر القوى منهكا لدرجة لاتتخيل..تبدو لطيفة شابة في بداية عقدها الثالث مستبشرة وتخرج ملفا من اضبارة عن يمينها،:هذه بطاقة المطعم،وهذه بطاقة لزيارة المركز الصحي وفي الغد سيعطونك بطاقة دخول البوابة لابد انك لم تتناول طعاما سأصطحبك الى مخدعك وسيجلبون لك الطعام..
وانا اطوي السلالم لاهثا خلفها سمعتها تضحك وتقول:طبعا خدمة الغرف لليوم فقط وبعدها ستكون في المطعم مابين السابعة والتاسعة صباحا ومنتصف النهار والسابعة مساء..قلت لابأس لاحاجة لأن يجلبوا الطعام فبعد نصف ساعة تقريبا سيكون العشاء جاهزا.
فتحت العنبر فاذا بثماتي اكشاك يسمونها بالغرف بسطت الستائر واعطتني قفل خزنة رقمي وانصرفت..سرير لشخص واحد وخزنة حديدية على عادة السجون في عنبر شيشاني النزلاء.
اتكأت قليلا ثم بعد حمام دافئ وجدتني احث الخطى الى المطعم..الطابور قصير هذه المرة تمر بصحنك امام مجموعة مناولين وفي الأخير تجد نفسك جالسا وامامك سلطة ومرق ونقانق وتفاحة وأشياء عليك تحديث معدتك حتى تألفها..لاحظت وجودا مكثفا للجزائريين كما لفت انتباهي وجود اسر مشرقية من بلاد الشام.
بعد ايام تعرفت في الساحة على سليمان اليمني الذي يعيش معاناته كمولدي وقبله لم اسمع عن المولدين وهم يمنيون يعانون لأنهم من امهات اثيوبيات او صوماليات..تعرفت على “امير العرب” عبد الرزاق الذي كان يقود عصابة مخدرات في هولندا وتلقى طلقا ناريا في ساقه قبل ان يفر لينتهي به المطاف مقيما ابديا في القصر الصغير..عبد الرزاق قوي بشكل لايتخيل اعتقد ان العضلات نمت حتى على حافتي لسانه..جمجمته كمقدمة شاحنة كم هو مرعب وتلمس ذلك في طاعة الجميع له..طاعة عمياء وتنسيق واشياء سيكشفها الزمن..قبل كل صلاة يصيح عبد الرزاق على من في الساحة فنخرح مطأطئي الرؤوس خلف الأمير باتجاه المسجد الذي يوجد خلف المركز ولايتبع له..علينا ان نقبض ونحن نصلي حتى لايقبض عبدالرزاق ارواحنا..كنا بلااستثناء نطيعه وينظم العلاقات فيما بيننا ويتصل على كل واحد منا ويستنفرنا في حال نشوب خلاف مع قومية اخرى..عرفت الحرب في ليبيا بعد ذلك والسجن في موريتانيا واشياء اخرى لكن لم يخفني احد بدرجة عبدالرزاق.. لقد اعاد فوبيا الذعر التي لازمتني في طفولتي من “جيو”الهندي…عبدالرزاق وهو مقبل كجيو وهو يهوي بسكينه على ضحيته في المقبرة وعينا “توم سويير” مفتوحتان وشفتاه تتحركان بسرعة..عبدالرزاق يتناول المخدرات في ساحة المركز ولايخشى الا الله لأنه مؤمن موحد..
يتواصل
*الصورة من باحة المركز حين نقضي جل اوقاتنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى