قصة”اباه”

الزمان أنفو _ كتب صلاح الدين الجيلي قصة رجل نادر عاش ردحا من الزمن بليبيا، وحباه الله بأخلاق رفيعة وكرم عجيب، ورزقه صبر أيوب ليصبر على المرض الذي يقعده الآن في فراشه..
وكتب عنه صاحبنا القصة المؤثرة، التي ننشرها لقراء”الزمن” بعد إذن الكاتب:

ابَّاه..

إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

ترددتُ كثيرا و لسنوات في الكتابة عن هذه الشخصية، هي شخصية لا تُشبهُ أحدا عرفته أبدا، رجل قد يمر عمرك كاملا دون أن تلتقي أمثاله.

بدأت معرفتي أو معرفة عائلتنا بهذا الرجل في صيف عام 1992 كان ذلك بعد أيامٍ قليلة من نزولنا في ضواحي طرابلس، أذكر جيدا كيف أن دارنا التي لا يعرفها أحد بعد، أضحت مليئة بالزوار، الكل جاء يبحث عن “ابَّاه” ينزوي بأحدهم جانبا لسويعة ثم التالي و التالي و هكذا.
سأعرف فيما بعد أنهم أصحابُ حوائج، و أنَّ هذا ديدنُ الرجل منذ قدومه لليبيا، و عمله حفارا في شركة نفطية برازيلية، سأعرف أن كل نقوده تذهب بين مساعدة الأسر الموريتانية الضعيفة، فهذه أسرة هجرها والدها، “و ما أكثر الأسباب هناك” فيقوم هو بشراء تذاكر سفر لكامل أفراد العائلة لتعود للوطن، و هذا مسن يعيلُ عائلة، أقعده المرض عن شؤونها، فيكون تدخل “أبَّاه” صائنا لها و حافظا لماء وجه الوالد، و هؤلاء طلبة لم تمنحهم الدولة، لكنه يقتطعُ من راتبه الشهري رواتبا صغيرة، ستصل لكل واحد منهم، دون تأخير أو منٍّ، و هكذا..
“أباه” كان حينها في الأربعين من عمره أو تزيد قليلا، رجل بكامل صحته، للتو بدأ الشيبُ يُداعب شعره الأسود الفاحم، يدهُ سخية بشكل لا يُوصف، يُعطي بغير سؤال، فعطاياهُ أنسامٌ لا تنتظر محفزا لتغدو أو تروح.
كنتُ من أقرب إخوتي منه، كان صديقي الذي يُسر لي بكل شيء، و يبتعثهُ في مهماته “الخاصة” ظرف مغلق لتلك العائلة، حقيبة ملابس لذلك الشيخ العجوز مع ظرف مغلق، تذكرة سفر لطالب وصله خبر بمرض أحد والديه في الوطن، أما المرضى فكان له معهم شأن آخر، “أبَّاه” لم يكن في حاجة لأن يكون على معرفة بالمريض، يكفي أنه موريتاني في المستشفى، ذلك يكفي لعيادته و مساعدته.
في ليلة من ليالي شتاء 2002 أنزلته و قريب له، سيارة الأجرة التي أقلتهما من تونس في الطريق الزراعي المؤدي لبيتنا، سارا قرابة المائة متر، و فجأة وقفت أمامه سيارة سوداء صغيرة، نزل منها أربعة رجال مقنعين و مسلحين بالمسدسات، خاطبه أحدهم:
يا موريتاني، الموضوع كالتالي، نحن نتابعك من اللحظة التي خرجت فيها من بنك الأمان في تونس، أخرج النقود التي بحوزتك، و لا داعي لأن تتأذى أنت أو رفيقك!!
هنا حاول رفيقه التقدم للاشتباك معهم، لكنه أمسك بيده و جذبه بعيدا، قائلا:
الأمر بسيط، و الله موجود.
أخرج النقود من حقيبته الصغيرة، و مدها لهم، كانت حوالي خمسة عشر ألف دولار، أخذوا النقود و رحلوا.

عمَّ الخبر صباحا كل الجالية، كان الجميع غاضبا، إلا “أبَّاه” كان يقص الحكاية و كأنها تعني شخصا آخر، بل كان يُمازح قريبه، قائلا:
هذا ابروسلي كان لاهي يكتل راصو اعلَ سبَّت اشوي من الفظة!!
مضى من العمر ما مضى و عدنا جميعا للوطن، أصيب “أبَّاه” بالسكري و اعتلت صحته كثيرا، لكن اليد السخية لم تعتل، بل زادت في إنفاقها و بذلها.
ذاتَ يومٍ كان يُعالج مسمارا في قدمه، ارتأى عليه قريب له، أن يُعالجه بالكيِّ، من هنا بدأت حال القدم تسوء، و يوما بعد يوم، قرر الأطباء أن لا خلاص للساق إلا ببتر القدم، لأن الغرغرينا تملكت منه، فكان جوابه غاية في الإيمان بالله و قضائه و قدره:

لقد سرتُ عليها ستين سنة، و إذا شاء الله أنَّ ذلك يكفي، فهو بالفعل يكفي!!
بُترت رجله، و عاد للبيت رغم آلامه ضاحكا مستبشرا، كان هو الذي يُواسي عائديه، كان هو الذي يرفع من معنوياتهم، طوال أكثر من ثلاثين سنة، لم أسمع لهذا الرجل شكوى و لا تذمرا أبدا، بل كان رغم حاله، مستعد لمساعدة كل محتاج، بماله و علاقاته، و اتصالاته، بهاتفه الصيني الكبير، الذي يُسميه باسما، بحلاَّلْ المشاكل.
في صيف 2014 خرجتُ معه و رفقة معنا، لبوادي باسكنو، نزولا عند نصيحة الأطباء بتعرضه لمناخ حار، كنا نصطاد الأرانب و الطيور، تفاجأتُ حين عودتي من مكان قريب، حين وجدته حاملا بندقية الصيد، يُصوبُ نحو السماء، أشار عليَّ بن أخته بالصمت، فوقفتُ و كلي دهشة، كيف سيصيب طائرا محلقا، و كانت الدهشة كبيرة حين أسقطه من الطلقة الأولى، بل كانت دهشتي أكبر، حين أخبروني أنه لا يعرف الرماية إلا على متحرك، و لو لم أُشاهد ذلك لما صدقته.
لِأبَّاه جانب آخر لن أروي فيه الكثير، فكثير منه أخذ مني عهدا أن لا أخبر به أحدا، و هو جانب روحاني و أمور خاصة بينه و بين ربه، لكن حادثة شهدتها و أبناء أخته في رحلتنا تلك، كانت غريبة جدا، أُسجلها هنا و ربي شاهد عليها.

في ليلة حالكة السواد قرب “انبيات اجنادرة” و بعد ريح قوية، قمنا بإعداد مكان لنومنا على أديمٍ منبسط، لا أدري كم من الوقت مضى، حين استيقظتُ على همهماتٍ و ضجيج، قبل أن أستوعب الأمر، أحسستُ بشيء ما يسري في جسدي كله، ثم أحدهم يصرخ بي:

صلاح، كُوم اخليت!!
اعتدلتُ واقفا، و إذا بالحصير كله و قد امتلأ بأمواجٍ من الأرضة، التي فرشنا قرب آلافٍ من مساكنها دون أن نراها، أخذنا في الابتعاد عن بعضنا، ليستطيع أحدنا التحرر من ملابسه كاملة، فقد دخلت الأرضة بيننا و ملابسنا، حين عدتُ أولا، هالني المشهد:
فراشي و فراش عبد الرحمن و محمد أبناء أخت “أبَّاه” لا أكادُ أتبينُ أشكاله، من أعداد الأرضة الهائلة، وحده فراش “أبَّاه” الذي يغطُ في نوم عميق، و لا أرضة واحدة اعتلتهُ، و لا واحدة، و ربي شاهد على ذلك، بل لم يشعر حتى بصراخنا و حركاتنا، أقسمتُ عليهم أن لا يُوقظهُ أحد، و وقفنا نتفرج، كنتُ أراقبُ أرضةً ما تندفع حتى تلمس حافة فراشه ثم تُغير اتجاهها، راجعة من حيث أتت، هالني و محمد الموقف، وحده عبد الرحمن أكبرنا، كان يردد:

“أبَّاه ألاَّ أبَّاه”.
و لعبد الرحمن معه قصة في دولة الإمارات غريبة جدا جدا، ربما يأتي وقتها لاحقا.

يؤلمني حد البكاء، أن “أبَّاه” اليوم، طريح الفراش في باسكنو، و يؤلمني أكثر أنني لا أستطيع الوصول إليه، و ربما يكون في أشد الحاجة لي، دائما عند “ابَّاه” من القصص ما يخصني به وحدي، و أجزم بأني الوحيد، الذي يجعله يضحك و يضحك، متجاوزا حد ابتسامته المطمئنة.

“أبَّاه” رجل عرف الله، و وفقه الله لفعل الخيرات و المسارعة فيها، رجل صبر على المرض، على الابتلاء، على الشدائد، لا شكوى و لا تذمر، و لا أزكي على الله أحدا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى