شارع الأربعين عالما ظاهرة فريدة في “وادان” الموريتانية
المعلوم محمد الحضرامي
في أقصى هضبة آدرار على بعد حوالي 180كلم شمال شرقي مدينة أطار (عاصمة ولاية آدرار)، تقع مدينة وادان التاريخية، التي تم تأسيسها عام 536هـ ـ 1142م، على يد ثلاثة حجاج هم: الحاج عثمان الأنصاري والحاج يعقوب القرشي والحاج علي الصنهاجي، ثم التحق بهم رابعهم الحاج عبد الرحمن الصائم ومجموعات أخر في ما بعد. فكان أول عمل شرعوا فيه بناء المسجد الجامع، والسعي في رأب ثأى سكان المنطقة المتناحرين.
موقع وادان الجغرافي المتميز وما عاشته من أمن استمدته من سورها العجيب، جعلها تكون ممرا للقوافل التجارية العابرة للصحراء؛ فشهدت ازدهارا منقطع النظير على الصعيدين الاقتصادي والمعرفي، حتى نافست المدن العلمية الكبرى. ومهما خاض الباحثون في أصل تسمية مدينة وادان ووجودِ تسمية أخرى سابقةٍ على الاسم الحالي، يبقى ما حدّث به الشيخ الطالب أحمد بن اطوير الجنة في “رحلة المنى والمنة” عن شيخه العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم من أن “أصل اشتقاق وادان تثنية واد من العلم وواد من النخيل” وجيهاً، تُعضّده قرائن الأحوال من باسقات النخيل وغُرر المكتبات: وقلّما أبصرتْ عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكَّرْتَ في لقبهْ ما كان وادي العلم أقلّ مِيرة لأهل وادان من وادي النخيل الذي تجبى إليهم ثمراته كل عام، ففيه أُلِّف أول شرح محلي لمختصر خليل (“موهوب الجليل” للشيخ محمد بن أحمد بن أبي بكر الوداني)، و إليه ترجع سائر الأسانيد الفقهية في المحاظر الشنقيطية. أثمر ذلك الوادي متتاليةَ علماء من أربعة علماء مؤسسين إلى أربعين عالما فأكثر وأكثر، وظلت تلك المدينة قلعة علم شامخة، فمنذ زمن قديمٍ ـ كما يذكر ابن اطوير الجنة ـ “العلمُ فيها كثير جدا، والعلماء فيها كثيرون جدا، حتى إنك لتجد أربعين دارا متوالية في كل واحدة منها عالم، فكيف بعالمين أو ثلاثة بينهما دار وداران، ونحو ذلك”. ولعل كلام ابن اطوير الجنة هذا ـ وخصوصا قوله: “إنك لتجد أربعين دارا متوالية في كل واحدة منها عالم” ـ كان بداية إرهاصات إطلاق تسمية “شارع الأربعين عالما”. “شارع الأربعين عالما” أو “شارع العلماء” ظاهرة فريدة امتازت بها مدينة وادان التاريخية عن نظيراتها من مدن موريتانيا التاريخية، بل عن سائر الحواضر العلمية العربية والإسلامية في ما يبدو[1]؛ يمتد ما بين المسجد العتيق الأول والمسجد العتيق الثاني، وتقع عليه منازل ثلاثة من الحجاج المؤسسين. حظي ذلك الشارع بين قدامى السكان المحليين لوادان باحترام خاص، تجلى في خلع المارين به منهم نعالهم حتى يتجاوزوه تبركا وتعظيما، وعرف عندهم بـ “لمسـﮕـم” ـ بواو فميم ساكنة فجيم معقودة مشددة ـ، أي المستقيم، وعلى الاستقامة والتقوى شيدت المدينة من أول يوم. لا يعني إطلاق تسمية “شارع الأربعين عالما” أنه لا يوجد في المدينة علماء آخرون في هذا الشارع وفي غيره من شوارعها، لكنه اختص بالتسمية لتقارب دور الموجودين فيه من العلماء وتواليها الواحدة تلو الأخرى، مع موسوعيتهم وتبحرهم في سائر الفنون، بحيث لا يُتجاوز أحدهم إلى غيره ابتغاء تدريس نص. إذا أراد الطالب شرح درسٍ ما يمر مع هذا الشارع، وكلما وصل أحدهم شرح له الكلمة التي بلغ في درسه، ثم يمر على الذي بعده فيشرح له الكلمة الموالية؛ يجد كل واحد منهم جالسا في دربه[2]، فيفسر له، وهكذا…، حتى ينهي درسه دون أن يجلس. وربما انتهز البعض فرصة مروره من هذا الشارع وهو في طريقه إلى البساتين أو بعض حوائجه الأخرى، فشرح درسه اليومي. لم يَضَعْ علماء ذلك الشارع نصب أعينهم غير هدف واحد هو بث العلم ابتغاء وجه الله تعالى، دون تشوف إلى مرتبة أو جاه دنيوي، يشي بذلك برنامجهم اليومي المتمحض للعبادة صلاة وذكرا وتدريسا، ففي في منح الرب الغفور يذكر العلامة المحجوبي أن الشيخ السالك بن الإمام إمام قصر وادان في عصره “كان لا يخرج من المسجد بعد أن يصلي الصبح فيه حتى يصلي الضحى، وفي تلك المدة الوجيزة يقرأ ورده؛ وهو: تلاوة كل اسم من أسماء الله تعالى اثنا عشر ألف مرة ـ من غير اعتبار أوراده الكثيرة ـ، فإذا صلى الضحى خرج من المسجد إلى زيارة قبور الصالحين، ثم يرجع إلى منزله ويجلس للتعليم إلى قرب الزوال، ثم يذهب إلى بيته للطهارة، ثم يذهب إلى المسجد ويمكث فيه إلى أن يصلي العشاء، ثم يخرج إلى داره ويرسل إلى عماله ويسألهم عن ما فعلوا في ولايتهم”. في ذلك الجو العلمي كان “طالب العلم بوادان يجلس في الطريق لتلقي العلم على يد أول خارج من المسجد بعد الصلاة”، كما هو مأثور مشهور، وربما اكتفى البعض ـ والحالة تلك ـ “بالأخذ عن أبيه وأبوه عن أبيه إلى هلم جرا”، كما يغلب ـ حسب ابن حامد في جزء الثقافة من موسوعته ـ “في الأوساط العلمية من قبائل الزوايا، بحيث يكاد كل بيت منهم يكون مدرسة يتعلم منها بنوه وأقاربه”. وفود الطلبة إلى أعلام ذلك الشارع زرافات ووحدانا من شتى الأصقاع، ظل ظاهرة صحية معروفة، يشهد معها كل من المسجدين المطلين على الشارع عمرانا طلابيا معتبرا. ومن الأموال التي يتطوع بها أهل المدينة ـ تعاونا على البر والتقوى وتشجيعا للعلم وأهله ـ يهيأ لأولئك الغرباء السكن وينفق عليهم من المنائح والأوقاف المخصصة لطلبة العلم، فمن أهل المدينة من يوقف بساتينه على الطلبة فيستفيدون من محصولها من التمر والشعير والقمح وكل ما يحرث فيها، ومنهم ـ كأهل البادية ـ من يمنحهم الأغنام والآبال للاستفادة من درها ووبرها ولحمها. ضيق هذا الشارع من حيث المساحة، يقابله اتساع في شتى فروع معارف ذلك الوقت، أضاء من خلال التدريس والتأليف شوارعَ أخرى أوسع بكثير وحواضر علمية محلية وإقليمية ذات شهرة عالمية، فأُثر عند غير الوادانيين المثل السائر: “العلم واداني والتمر فزاني”، وحدث خواص طرابلس وعلماؤها وأئمة جوامعها وعوامها الشيخ الطالب أحمد بن اطوير الجنة “أنهم لم يزالوا يسمعون خلفا عن سلف قديما وحديثا” ذلك المثل. طيلة شهر ربيع الأول/ شهر المولد النبوي لم تكن قراءة المديح النبوي تتوقف في هذا الشارع والمسجدين المطلَّيْن عليه؛ بعشرينيات الفزازي مع تخميس ابن وهيب، ومديحيات البوصيري، ولا سيما همزيته وميميته المشهورتين، ومن شدة اعتنائهم بتلك النصوص المديحية كانوا يقومون بتخميسها. اعتاد أهل المدينة القديمة ارتياد هذا الشارع للاستماع إلى لقرآن الكريم، فلم يكن يخلو من طلبة يجوبونه جيئة وذهابا يتلون آيات الله آناء الليل وأطراف النهار. وقد لاحظت خلال تجولي في هذا الشارع إبان الاستعدادات لنسخة وادان من مهرجان المدن القديمة السنوي وجود أجهزة مبرمجة في عدة نقاط من هذا الشارع، تُسمع المار منه آيات الذكر الحكيم وتدريس بعض المتون المحظرية المسجلة فيها، ولعله من وضع وزارة الثقافة، محاولة لاستذكار الحالة التي كان عليها الشارع أيام عمرانه بأولئك الأعلام الأفذاذ وطلبتهم الأنجاب. ورغم الجهود المبذولة من طرف وزارة الثقافة والسكان المحليين والمنظمات في المحافظة على نظافة هذا الشارع وكافة معالم المدينة القديمة، فإن الزائر لا يعدم خلال تجوله بعض المظاهر المحزنة، كالمتبولين في جنبات الشارع والمدخنين به كلما خلت لهم الطرقات دون رادع ديني أو أخلاقي! هذا بالإضافة إلى فعل عوامل الطبيعة التي ـ كدأبها ـ أثّرت على مباني الشارع، فأسقطت جدرانَها التي كانت ـ يوما ما ـ لطولها تحجب أشعة الشمس عن المارين فيه.