ضرورة إجراءات مصاحبة للقانون في محاربة الفساد
إن الفساد ظاهرة اجتماعية قديمة جديدة، وهي تنتشر حديثاﹰ بقوة غير مسبوقة، و قد بدأت تنتشر في موريتانيا منذ ما بعد التأسيس و الاستقلال بفعل عدم خضوع السلطات السياسية و الإدارية لقوانين واضحة و ضوابط معلنة تمكن من ممارسة الرقابة عليها و بسبب جهل المواطن حيثيات الدولة الحديثة و متطلبات سيرها إلى المدنية و المؤسسية و قيام دعائم القانون> أو خوفه في سياقات استحدثتها تطورات لاحقة منها الانخراط في حرب الصحراء الضروس 1995 و أحداث 1989، أو سبب انعدام الحرية العامة و الخاصة لضعف تجربة النضج و إن أطرها الانفتاح على العالم المحيط و الخارجي و ما كان من تأثير الحركات التحررية التي اجتاحت العالم قبل و أثناء الحربين الكونيتين و ما أعقبهما من بناء العقل على أسس جديدة جدا اختلفت فيها الرؤى و التوجهات و الوسائل و الأهداف و إن اجتمعت كلها في دائرة الرفع من شأن الإنسان و تحرير عقله من قيود الماضي الظلامية و تبصيره بحقوقه كاملة و واجباته الموازية. و بالطبع فإن للفساد تكلفة اقتصادية باهظة و هو يؤخر عملية التنمية و يعيق تحقيق الرفاهية للشعب و يقوض الديمقراطية و يعطل عمل المؤسسات ويقلص مجال دولة القانون، مما يجعل وجوب محاربته مسألة اجتماعية شاملة تمس جميع القطاعات و تضم الوسائل الممكنة كافة على خلفية تحديد مسؤولية السلطات الرسمية فيما لها من دور دستوري و قانوني في مقارعة أشكال الفساد الاداري و المالي الذي هو استخدام الموظف السلطة العامة لتحقيق منافع خاصة، ويأخذ صوراﹰ عديدة أخرى كالمتاجرة بالوظيفة، واستغلال النفوذ الوظيفي، والوساطة، والمحسوبية، والرشوة، والاختلاس، وهدر المال العام واستخدامه في منافع شخصية، و المتاجرة برخص التنقيب و البحث عن النفط و المعادن و الثروة السمكية و غير ذلك من الصور الشائنة. و اليوم انتبهت الدولة إلى أن الفساد قد وصل في البلاد نقطة الخطر، على أيدي قلة من القبليين و الإقطاعيين الضالعين في الممارسات الماضوية و الخبيرين بشأن قبض أثمانها، و من الجهويين المحنكين و المتمرسين ، و من الارتستقراطيين الاثنيين باعة التوازن الاضطراري ، و من الدعاة الجدد للدفاع عن حقوق الإنسان بثمن بخس، و من العصابات الـ”مافيوزية” و رجال الأعمال الميتي الضمائر ذات الصلة بكل هؤلاء، و في حمى بعض الضباط السامين و السياسيين “المكيافيليين” و علما أن هذا الفساد إنما هو نتيجة تراكم استثنائي في شبه المنطقة حفظ استمراه و قوى شوكته و صنع معاناته التي شلت كل جهد تنموي حيث لم تبرز إلى الوجود أية بنى تحتية كشبكات طرق رابطة بالانسيابية المطلوبة أجزاء التراب كلها، أو موانئ دولية تجبي من سفن العالم رسوم المرور و التوقف الفني و التزود أو التفريغ والإيداع، و لا مطارات تتوقف بها لتأمين خطوطها و أمن مسافريها، أو سكك حديد تضمن التبادل الداخلي بأحجام الطلب و تسرع نبض التنمية و البناء. و من أجل مكافحة هذه الظاهرة التي أصبحت في موريتانيا واقعا معاشا ينخر جسم الدولة و يزيد اتساع الهوة بين المفسدين و المرتشين و بين عامة الشعب التي تشعر بالغبن و غياب العدالة، قامت الدولة مؤخرا بسن ترسانة من القوانين القيمة التي تهدف إلى معقبة المرتشين و المفسدين و حماية المخبرين بالأدلة عنهم في قطاعاتهم و دوائرهم و في حيثيات مشاريعهم المنقلبة على الالتزام و النزاهة و الإخلاص و الوطنية. ترسانة قانونية و إن لم تكن الأولى إلا أنها الأقوى و الأكثر وضوحا و غنى بالمواد الرادعة إن طبقت فإنها ستخفف من وطأة هذا الداء العضال علما باستحالة القضاء عليه مطلقا لكن إذا تقلص إلى حد الابتعاد عن الإضرار بمسار التنمية و البناء و سكة دولة القانون في إفشائها العدالة و صونها السلم الاجتماعي بالعدل و المساواة، فإن هذه الترسانة تكون فعالة و رادعة. و لكن تطبيقها ليكون هذا الهدف في المتناول و قابلا للتحقيق لا بد من اتخاذ جملة مستعجلة من الإجراءات المصاحبة التي منها في غير ما حصر و لا ترتيب منهجي: · المحاربة الفعلية من خلال التبليغ، كما هو الحال عن المرتشي و المفسد، عن حالات الوساطة ذات الطابع القبلي و الجهوي و العنصري و الإثني و السياسي و الحقوقي في كل جزئياتها الصغيرة و الكبيرة التي تهدف إلى الإيثار و المجاملة و إسداء الخدمة “الغرضية” و تكريس واقع مختل، · الحد من التعيينات السياسية في المناصب الفنية المتخصصة اللهم إذا كان المعينون من أصحاب الاختصاصات و الكفاءات المطلوبة، · منع التدخل لصالح المرتشين و المفسدين من أي شكل أو طابع يكون و عزلهم بعد التحقيقات و ثبوت التهم و الإيداع في السجن إلى غاية محاكمتهم العادلة و الصارمة، · التصريح للإعلام عن الحالات الثابتة من الفساد و الرشوة و أسماء أصحابها و حيثيات الحالات المسجلة ضدهم، · جباية الغرامات التي يطالب بها القنون و تحويلها فورا إلى الخزينة العامة للدولة، · السجن الفعلي حتى نهاية فترته في الظروف المترتبة دون إخلاء لا ينص عليه القانمون.
و إنه بالأخذ فقط بهذه الإجراءات المصاحبة و العملية و غيرها قد تجد هذه الترسانة القانونية الجيدة طريقها إلى التطبيق بشفافية و دون عوائق لصالح الحفاظ على المال العام و عملية التنمية لبلد تخلف كثيرا عن الركب و بقي سجين عقليات مدمرة تنتمي قلبا و قالبا لزمن ظلامي ولى من حوله إلى غير رجعة.
الولي ولد سيدي هيبه