“أوراق بنما” بدأت بمكالمة هاتفية غريبة

بدأت فضيحة “أوراق بنما” التي ما زالت اصداؤها المدوية تتردد في أنحاء العالم بمكالمة هاتفية قال فيها صاحبها مجهول الهوية “هلو، هذا جون دو. هل تريدون معلومات؟”.  كان متلقي المكالمة الصحافي الالماني باستيان اوبرماير الذي لم يتأخر في الرد بالايجاب. وما اعقب هذه المحادثة المقتضبة يكاد ان يكون عصيًا حتى على الخيال. إذ بدأ “دو” يرسل ملفات بالبريد الالكتروني بلغ محتواها في النهاية 11.5 مليون وثيقة، أو ما يعادل 40 سنة من الملفات الرقمية المحفوظة في مكاتب شركة موساك فونسيكا البنمية للمحاماة، المتخصصة بتأسيس شركات للأثرياء خارج بلدانهم.

   واطلقت الملفات التي أرسلها “دو” الى اوبرماير في عام 2014 مشروعًا تعاونيًا فريدًا من نوعه بين صحافيين من انحاء العالم. وتكلل المشروع بتوزيع الملفات على اكثر من 100 مؤسسة اعلامية بدأت تنشر تقارير عن “أوراق بنما” تباعًا.  

الكشف مستمر 

وتبين الوثائق كيف استخدم زعماء سياسيون ومشاهير وأثرياء أفراد شركات في الخارج لإخفاء ثرواتهم واحيانا لابعادها عن أعين السلطات الضريبية في بلدانهم، أو تمويه نشاطات غير قانونية.   ويمكن أن يستمر كشف الأسماء سنوات ولكن الموجة الأولى من التقارير أدت حتى الآن الى سقوط رئيس الوزراء الايسلندي.   ومن بين آلاف الأشخاص الذين وردت اسماؤهم الرئيس الاوكراني بيترو بوروشينكو وأفراد عائلة الرئيس الصيني شي جينبنغ واصدقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووالد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي اعترف بأنه كان يملك اسهمًا في شركة والده الراحل وحقق دخلاً من بيعها، والنجم الكروي الأرجنتيني ليونيل ميسي.   وبعد اكثر من اتصال اجراه دو بالصحافي اوبرماير وزميله فريدريك اوبرمير في مكاتب صحيفة زودويتشة تسايتونغ الالمانية في ميونيخ، ما زال الصحافيان لا يعرفان شيئًا عن مصدرهما أو لماذا اختارهما أو اختارتهما أو ربما اختاروهما.   ولكن لحماية هوية “دو” والحفاظ على سلامته يحرص الصحافيان على توخي الحذر بشأن ما يعرفانه عنه. وقال اوبرماير لصحيفة واشنطن بوست “نحن لا نستطيع ان نكشف عدد الاتصالات التي اجراها دو، بطبيعة الحال، أو ما إذا كنا ما زلنا على اتصال به. ولكننا اتصلنا مرات عديدة بطرق مختلفة، كلها مشفرة. وفي بعض الأيام، كنتُ اتحدث مع المصدر أكثر مما اتحدث مع زوجتي. إذ كان لدينا الكثير مما نتحدث عنه”.   ويشير القليل الذي جمعه الصحافيان الى دافع المصدر للاقدام على خطوته الجريئة حيث نقل عنه اوبرماير القول “أُريد منكم الحديث عن هذه المادة وكشف هذه الجرائم علنًا”. واكد الصحافيان أن المصدر لم يطلب مكافأة أو تعويضًا ماليًا بالمرة.   38 ألف كتاب!  ولتكوين فكرة عن حجم الوثائق التي سربها المصدر من شركة موساك فونسيكا فإنها إذا طُبعت ستقع في 38 الف كتاب من الحجم المتوسط. لذا قرر الصحافيان الالمانيان التوجه الى مكتب الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، الذي يوجد مقره في واشنطن، طلبًا للمساعدة.   وكان الاتحاد عمل مع الصحيفة الالمانية ومؤسسات اعلامية اخرى في السابق وتولى في عام 2015 تنسيق العمل بين صحافيين من 45 بلدًا للتحقيق في ملفات سُربت من شركة مصرفية سويسرية خاصة أخفت مئات ملايين الدولارات عن السلطات الضريبية.   ولكن الحجم الهائل لأوراق بنما التي تحوي آلاف الأسماء والكيانات في انحاء العالم طرح على الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين تحديًا اكبر بكثير.   واوضح كبير محرري الاتحاد مايكل هدسن ومديرة المشروع مارينا ووكر أن الاتحاد شكل فريقًا من 370 صحافيًا يمثلون أكثر من 100 مؤسسة اعلامية عملوا عملوا تدريجيًا من منطقة ثم أخرى.  وكان الهدف ايجاد صحافيين محليين يعرفون المنطقة.   وقال هدسن ان الاتحاد قرر الاستعانة بصحافيين على الأرض في المنطقة ذات الصلة بدلاً من ارسال صحافييه اليها. ولاحظ هدسن “ان الكثير من أهم التقارير اليوم معقدة وعالمية بحيث ان الصحافي الذي يعمل منفردًا على الطريقة القديمة كما فعل بوب وودورد وكارل برنشتاين [اللذان فجرا فضحية ووترغيت] لا يستطيع ان يؤدي المهمة بجهوده وحدها”.  

“مشروع بروميثوس” 

وتطلب المجهود، الذي أُطلق عليه داخليًا اسم “مشروع بروميثوس”، درجة استثنائية من التعاون بين مؤسسات إعلامية عادة تتنافس في ما بينها. وتعين على كل مؤسسة اعلامية ان تتفق مع الكل وألا تنشر شيئًا قبل موعد النشر الجماعي في 3 نيسان (أبريل).  

وجرى تحديد التفاصيل والاتفاق عليها في سلسلة من الاجتماعات التي عُقدت في واشنطن وميونيخ وجوهانسبرغ العام الماضي.   واقتضت مخاطر حدوث خرق أمني من الصحافيين أن يلتزموا جانب الصمت بشأن المشروع طيلة اشهر متواصلة. فإن اجراءات الحماية الرقمية رائعة ولكن الحلقة الأضعف تكون احيانًا “الحلقة البشرية”، على حد تعبير مديرة المشروع مارينا ووكر. وكشفت ووكر أن توجيهات صدرت الى الصحافيين بألا يتركوا كومبيوتراتهم مفتوحة وألا يفتحوا واي فاي في مقهى، ومن يفقد هاتفه يجب ابلاغ العاملين في المشروع فورًا.   وكانت هذه الاحتياطات ناجعة على ما يبدو.

فإن أول إشارة عامة إلى المشروع لم تظهر إلا عندما ندد مسؤولون روس اتصل بهم صحافيون للتعليق، بالأسئلة التي طُرحت عليهم واتهموا الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين بالعمالة للحكومة الاميركية.   وقال الصحافي اوبرماير إن العبرة قد تكون في القول المأثور بأن “الاتحاد قوة”. 

 

إيلاف

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى