الأمير السعيد/ترجمة أمل الرفاعي

  inShare

THE HAPPY PRINCE

 

للكاتب  أوسكر وايلد

 

ينتصب تمثال الأمير السعيد على عمود مرتفع في أعالي المدينة. كان ذلك التمثال مَطلياً بكامله بصفائح رقيقة من الذهب الصافي. عيناه من جوهرتي ياقوتٍ أزرق ساطع, وتتوهج على مِقبض سيفه ياقوتةٌ حمراء كبيرة.

كان ذلك التمثال بالفعل محطّ الكثير من الإعجاب.

حيث قال أحد أعضاء مجلس المدينة, وهو رجل يرغب بكسب سمعة أصحاب الميول الفنية:

” كم هو جميل ! يُشبه ديك الرياح” “

ثم أضاف, خشية أن يعتبر من الأشخاص غير العمليين , على الرغم من أنه لم يكن كذلك في الحقيقة:

“لكن ليست له أية فائدة .”

وقالت إحدى الأمهات الحكيمات لولدها الصغير الذي كان يبكي مطالباً بشيء يصعب تحقيقه:

” لِم لا تكون مثل الأمير السعيد؟ لم يكن الأمير السعيد يبكي لأي سبب.”

وغمغم رجل خائب الرجاء, وهو يُحدّق في ذلك التمثال الرائع :

” أشعر بالسرور لأن هناك من هو سعيد بالفعل في هذا العالم.”

وقال بعض الأطفال اليتامى, لدى خروجهم من الكاتدرائية, بثيابهم ذات اللون القُرمزي الساطع ومآزرهم البيضاء النظيفة .

“يبدو كالملاك.”

سألهم مدرس الرياضيات حينئذ :

“كيف بإمكانكم معرفة ذلك؟  فأنتم لم تشاهدوا ملاكاً قطّ.”

أجاب الأولاد “أووه , لكننا رأينا ملاكاً في أحلامنا .”

وكان مدرس الرياضيات قد قطب حاجبيه, وبدت عليه علامات الحزم, ذلك لأنه كان يستهجن أن يحلم الأطفال..

كان سنونو صغير قد حلّق  ذات ليلة فوق المدينة. كان أصدقاؤه قد رحلوا  إلى مصر قبل ستة أسابيع لكنه تخلّف عن الذهاب معهم, لأنه  أغرم بأجمل قصبة مزمار كان قابلها في مطلع الربيع بينما كان يُطارد عثّة كبيرة صفراء اللون فوق النهر. كان السنونو الصغير قد انجذب إلى خصرها النحيل إلى الحدّ الذي جعله يتوقف للتحدث إليها. وبما أنه من النوع الذي يحب الوصول إلى هدفه بشكل مُباشر سألها:

“هل بإمكاني أن أحبك؟”

أجابته القصبة بانحناءة قبول قصيرة. حينئذ حلّق السنونو حولها مرات ومرات, ملامساً الماء بجناحيه, مُحدثاً بهما تموّجاتٍ فضيّةَ اللّون … كان ذلك أسلوبه في التودّد إليها, واستمر ذلك طوال فصل الصيف.

كانت طيور السنونو الأخرى قد غرّدت وهي تقول:

” هذا ارتباط سخيف, فليس لديها أية أموال, كما أن لديها الكثير من العلاقات. في الواقع , النهر مليء بالقصبات. وكانوا قد طاروا جميعاً عندما حلّ فصل الخريف.

كان السنونو الصغير قد  شعر بالوحدة بعد رحيل الطيور الأخرى  , كما بدأ يشعر بالضجر من “السيدة حبيبته.”

حدّث نفسه ” لا تعرف كيف تتحاور معي , وأخشى بأن تكون كثيرة الدلال, كما أنها تُغازل الريح على الدوام., من المؤكد أنها سوف تنحني برشاقة كلما هبت الريح . أنا أتقبّل أن تكون أليفة, لكنني أحب السفر, وعلى زوجتي بالتالي أن تحب السفر مثلي…”

وكان في نهاية الأمر قد سألها “هل ترحلين معي؟”

لكن القصبة هزّت رأسها بالنفي, ذلك لأنها كانت مُتعلّقة جداً بموطنها.

وصاح السنونو حينئذ ” فإذن أنت كنت تعبثين بي, وداعاً , سوف أرحل إلى الأهرامات ! ” ثم طار بعيداً…

استمر السنونو الصغير في الطيران طوال اليوم , وكان قد وصل إلى المدينة عندما حلّ الليل. تساءل ” أين سأحطّ ؟ آمل أن تكون المدينة قد اتخذت بعض الترتيبات لذلك.”

ثم شاهد التمثال على ذلك العمود المُرتفع.

هتف ” سوف أحطّ هنا, هذا موقع جيّد فيه الكثير من الهواء المنعش.” وهكذا كان  السنونو الصغير قد حطّ بين قدمي الأمير السعيد تماماً . حدث نفسه  برضى وهو ينظر حوله ويستعد للنوم :

“لدي هنا غرفة نوم ذهبية .”

ولكن, وفي الوقت الذي كان فيه قد وضع رأسه تحت جناحه, سقطت عليه قطرة كبيرة من الماء. صاح

“يا للعجب! لا توجد حتى سحابة واحدة في السماء , كما أن النجوم صافية ولامعة تماماً, ومع ذلك يسقط المطر. الجو مخيف بالفعل في شمال أوروبا . كانت تلك القصبة أيضاً تُحب المطر, ولكن ذلك من أنانيتها فحسب…”

ثم سقطت عليه قطرة أخرى.

حدّث نفسه” ما فائدة التمثال إن لم يمنع عني المطر, عليّ أن أبحث عن كوز مدفأة جيّد ” وقرّر الطيران بعيداً.

لكن قطرة ثالثة من الماء سقطت عليه قبل أن يفتح جناحيه. نظر إلى الأعلى, وشاهد .. آه.. ما الذي شاهده؟

كانت الدموع تسيل من عيني الأمير السعيد على خديه الذهبيّين. كان وجهه جميلاً جداً بانعكاس ضوء القمر عليه مما جعل قلب السنونو الصغير يمتلئ بالشفقة عليه.

سأله ” من أنت ؟”

“أنا الأمير السعيد “

سأله السنونو “فلِم تبكِ إذن ؟ بللتني تماماً بدموعك”.

أجاب التمثال “عندما كنت على قيد الحياة وكان لي قلب إنسان, لم أكن أعرف ما هي الدموع.  كنت أعيش في قصر ” صان سوسي Sans Souci ” أي القصر الذي لا يُسمح للهموم بالدخول إليه. كنت ألعب مع رفاقي في الحديقة طوال النهار, وكنت أقود حلقات الرقص في بهو القصر الكبير في المساء. كانت تلك الحديقة مُحاطةً بجدار شاهق, ولم أكن أهتم على الإطلاق بالسؤال عما يكمن وراءه,  كان كل ما حولي في غاية الجمال., وكان رجال الحاشية قد أطلقوا علي اسم “الأمير السعيد”. كنت سعيداً بالفعل, هذا إن كانت المتعة تعني السعادة… وهكذا عِشت , وهكذا مِت., وها قد نصّبوني الآن وأنا ميّت  تمثالاً في هذا العلو لكي يكون بإمكاني أن أشاهد كل ما في مدينتي من قبح وشقاء,… وعلى الرغم من أن قلبي  صُنّع من الرصاص, لكن لم يعد بإمكاني الآن سوى أن أزرف الدموع.”

حدث السنونو نفسه “ماذا ؟ أليس قلبه من الذهب الصافي؟ لكن تهذيبه منعه من إبداء أية ملاحظة حول الأمر بصوت مرتفع .

استمر التمثال بالتحدّث بصوت موسيقي خافت:

” هناك بعيداً من هنا, في مكان بعيد جداً, منزل فقير في شارع صغير. إحدى نوافذه مفتوحة, بإمكاني أن أرى من خلال تلك النافذة امرأةً جالسة أمام طاولة.  لتلك المرأة وجه نحيل يبدو عليه الإرهاق , يداها خشنتان, حمراوان, ومثقوبتان من وخز الإبر, هي خيّاطة تقوم الآن بتطريز زهور الحب على رداء من الساتان سوف ترتديه أجمل وصيفات الشرف للملكة في الحفل الراقص المُقبل الذي سوف يُقام في القصر., بينما يضطجع ولدها الصغير المريض المصاب بالحمّى على فراش في ركن من الغرفة., هو يطلب من والدته عصير البرتقال, ولكن ليس لدى والدته ما تُعطيه له سوى ماء النهر, لذا فهو يبكي.. أيها السنونو, أيها السنونو, أيها السنونو الصغير, هل بإمكانك أن تحمل إليها الياقوتة التي تُزيّن مِقبض سيفي؟ قدماي موثقتان بهذه القاعدة, وليس بإمكاني أن أتحرك.”

قال السنونو ” ولكن هناك من ينتظرني في مصر. يطير أصدقائي الآن من أعلى إلى أسفل نهر النيل, ويتحدّثون مع زهرات اللوتس الكبيرة., وسوف يذهبون بعد قليل للنوم في مدفن الملك العظيم. الملك ذاته مُسجّىً هناك في تابوته المَطلي بالذهب, مُلتفاً بقماش من الكتان الأصفر اللون, مُعطّراً بالطيب, حول عنقه سلسلة من حجر اليَشم الأخضر الكريم, ويداه أشبه بالأوراق الذابلة.

قال الأمير “أيها السنونو, أيها السنونو, أيها السنونو الصغير, ألن تبقى معي لليلة واحدة, وتكون رسولي إليهما؟   ذلك الولد يشعر بالعطش الشديد, وأمه بائسة جداً.”

أجاب السنونو “لا أعتقد بأنني أحب الصِبية. فعندما مكثت بجانب النهر في الصيف الماضي, كان اثنان من الصبية الوقحين , من أولاد الطحّان, يرمياني دوماً بالحجارة. لكنهما لم يتمكنا من إصابتي بالطبع , لأن بإمكاننا نحن طيور السنونو أن نطير بعيداً بسرعة وبشكل جيّد جداً. كما أنني بالإضافة إلى ذلك أنحدر من عائلة تُعرف بخفتّها , لكن ما فعلاه  كان يُشير إلى ازدراءهم لي .”

لكن علامات الحزن الشديد بدت بوضوح على وجه الأمير السعيد, مما جعل السنونو الصغير يأسف لحاله. وبذلك قال:

” البرد شديد هنا, لكنني سأبقى معك لليلة واحدة, وسوف أكون رسولك.”

قال الأمير ” شكراً لك , أيها السنونو الصغير.”

وهكذا كان السنونو قد انتزع تلك الياقوتة الحمراء الكبيرة من سيف الأمير ., حملها بمنقاره وبدأ يُحلّق فوق أسطح مباني المدينة.

مرّ فوق برج الكاتدرائية, حيث تقع تماثيل الملائكة المنحوتة من المرمر الأبيض. ثم مرّ بجانب القصر, وسمع من هناك صوت نغمات الرقص. كانت فتاة جميلة قد خرجت إلى الشرفة مع حبيبها. قال لها حبيبها :

“كم تبدو النجوم رائعة, وكم هي رائعة قوّة الحب! …”

وكانت قد أجابته ” آمل أن يكون ثوبي جاهزاً في موعد الحفل الرسمي للمدينة. كنت قد طلبت تطريزه بزهور الحب لكن الخياطات كسولاتٍ جداً.”

ثم اجتاز السنونو النهر, وشاهد المصابيح التي تتدلى على سواري السفن,  ومرّ فوق حيّ اليهود, وشاهد كيف يزنّ اليهود العجائز المال في الموازين النحاسية, وكيف يُساوم كل منهم الآخر, إلى وصل أخيراً إلى ذلك البيت الفقير . نظر بداخله, كان الصبي يتقلّب في فراشه وهو محموم, وكانت أمه قد غفت  بجانبه لشدة التعب. وثب السنونو إلى الداخل, وكان بعد أن وضع الياقوتة الكبيرة على الطاولة بجانب كشتبان الخياطة,  قد حلّق برفق حول السرير وأخذ يرفرف بجناحيه حول جبين الصبي المريض وينشر حوله الهواء. حينئذ قال الصبي:

“كم أشعر بالانتعاش؟ يبدو أن صحتي قد بدأت تتحسن”, ثم غرق في إغفاءة  لذيذة.

 

ثم طار السنونو بعد ذلك عائداً إلى الأمير السعيد, وبعد أن أعلمه بما فعله  قال :

” الغريب أنني أشعر الآن بالدفء رغم برودة الطقس.”

قال الأمير:

” هذا لأنك كنت قمت بعملٍ صالح…”

بدأ السنونو الصغير يُفكّر , ثم خلُد إلى النوم. ذلك لأن التفكير كان يجعله يشعر دوماً بالنعاس.

وعندما طلع النهار, طار السنونو إلى النهر واغتسل فيه. وكان أستاذ علم الطيور قد شاهده وهو يمرّ فوق الجسر وقال:

” يا لها من ظاهرة مُميزة! سنونو في الشتاء؟ “

ثم سارع إلى كتابة مقالةٍ طويلة في الصحيفة اليومية حول تلك الظاهرة الغريبة., وكان الجميع قد أشادوا بها , رغم أن فيها الكثير من الكلمات التي لم يكن بإمكانهم فهمها.

وفي اليوم التالي حدّث السنونو  نفسه ” سوف أذهب

الليلة إلى مصر” وشعر بالابتهاج  بما كان يتطلع إليه.

ثم قام بزيارة جميع النُصب التذكارية , وجلس لفترة طويلة فوق قمة برج الكنيسة. كانت عصافير الدوري في كل مكان يذهب إليه , تُزقزق وتقول لبعضها البعض :

“كم هو متميّز هذا الغريب!”

وبذلك كان السنونو الصغير قد أمضى وقتاً ممتعاً جداً.

وعندما طلع القمر, طار السنونو عائداً إلى الأمير السعيد. سأله بأعلى صوته:

” هل لديك ما تُكلفني به من مهام في مصر؟ سوف أنطلق الآن”

قال الأمير السعيد:

” أيها السنونو, أيها السنونو, أيها السنونو الصغير, ألن تبقى معي لليلة واحدة أطول؟”

أجابه السنونو :

” لكنهم بانتظاري الآن في مصر. سوف يطير رفاقي غداً فوق الشلال الثاني . يضّجع هناك فرس النهر بين الأعشاب المائية, بينما يجلس الإله ميمنون على عرش كبير من حجر الصوّان  لكي يرقب النجوم طوال الليل, وعندما ستظهر نجمة الصباح وتسطع في السماء , سوف يُطلق صرخة فرح ثم يصمت , كما أن الأسود الصفراء تأتي وقت الظهيرة إلى ضفة الماء لكي تشرب. لتلك الأسود عيونٌ تُشبه الأحجار الكريمة الخضراء اللون, ولها زئير أعلى من هدير الشلال.”

قال الأمير السعيد:

“أيها السنونو, أيها السنونو, أيها السنونو الصغير, أرى الآن في عليّة أحد المباني وفي مكان بعيد من الجانب الآخر من المدينة , شاباً يافعاً مُنحنياً على مكتبٍ تنتثر فوقه الأوراق,  وبجانبه قدح بعض أزهار البنفسج الذابلة. لذلك الشاب شعْرٌ جَعد بُني اللون, وشفتان حمراوان بلون الرمان, عيناه واسعتان حالمتان., وهو الآن يُحاول إنهاء مسرحية طلبها منه مدير المسرح, لكنّه يشعر بالبرد الشديد مما يجعله يعجز عن الكتابة, فليس لديه نار ي موقده, وقد أغمي عليه لشدّة الجوع.”

قال السنونو الطيّب القلب ” سوف أبقى معك لليلة أخرى. هل آخذ له ياقوتة أخرى؟”

قال الأمير ” يا للأسف ! لم تعد لدي أية ياقوتة , لم يتبق لدي سوى عينيَّ , وهما من الياقوت الأزرق النادر الوجود, الذي تم جلبه من الهند من آلاف السنين . اقتلِع إحداهما وخذها إليه. سوف يبيعها للجواهري وسوف يشتري بثمنها حطباً لموقده, وبذلك سوف يتمكن من إكمال مسرحيته.”

قال السنونو ” أيها الأمير العزيز, ليس بإمكاني أن أفعل ذلك ” وبدأ يبكي.

قال الأمير “أيها السنونو, أيها السنونو, أيها السنونو الصغير, رجاءً , افعل ما آمرك به”

وهكذا كان السنونو قد اقتلع عين الأمير, وطار بها إلى عليَّة ذلك الطالب . كان من السهل عليه الدخول إلى غرفته لوجود ثغرة في السقف., لذا اندفع من داخلها بسرعة إلى الغرفة. كان الشاب قد وضع رأسه بين يديه, وبذلك لم يكن قد سمع رفرفة أجنحة الطائر, لكنه عندما رفع رأسه ووجد تلك الياقوتة الزرقاء الجميلة بجانب أزهار البنفسج الذابلة.

هتف بسرور :

” يبدو أنني بدأت أحصل على التقدير, لابد أنها من أحد المُعجبين من ذوي القدر الرفيع. سوف أتمكن الآن من استكمال مسرحيتي”. وكان يبدو في غاية السعادة.

وكان السنونو قد طار في اليوم التالي إلى الميناء. جلس على سارية مركب كبير وأخذ يرقب الصيادين الذين كانوا يسحبون شبكات الصيد الكبيرة بواسطة الحبال. كانوا كلما ظهرت إحدى الشبكات يهتفون “هيلا هوب! هيلا هوب!”.

صاح السنونو ” أنا ذاهب إلى مصر!…” ولكن لم يلتفت إليه أحد . وعندما بزغ القمر, طار السنونو مُجدداً إلى الأمير السعيد.

هتف بصوت مرتفع “جئت لكي أودعك.”

قال الأمير” أيها السنونو, أيها السنونو, أيها السنونو الصغير, ألن تبقى معي لليلة واحدة  أطول؟”

أجابه السنونو:

” حلّ الآن فصل الشتاء, وسوف يسقط الثلج البارد عما قريب. الشمس دافئة في مصر وهي تسطع فوق أشجار النخيل الخضراء,  حيث تستلقي التماسيح في الوحل بكسل. يقوم رفاقي الآن ببناء أعشاشهم في معبد بعل ( معبود الفينيقيين ), بينما ترقبهم اليمامات البيضاء والقرنفلية اللون وهي تهدل فيما بينها. أميري العزيز, علي أن أتركك, لكنني لن أنساك أبداً, وسوف أجلب لك معي في الربيع المقبل جوهرتين جميلتين بدلاً من الجوهرتين اللتين وهبتهما للفقراء. سوف يكون لون الياقوتة أكثر حمرة من الوردة الحمراء, وسوف تكون الياقوتة الزرقاءُ زرقاءَ بلون البحر الكبير.”

قال الأمير السعيد :

” أيها السنونو , أيها السنونو العزيز, أرى هناك في الساحة السفلية من المدينة, فتاة صغيرة تبيع الكبريت, كانت أعواد الكبريت قد سقطت منها في القناة وتَلِفت بكاملها . سوف يضربها والدها إن لم تعد إلى البيت ومعها بعض المال, وهي الآن تبكي. ليس لديها حذاء ولا جوارب, وهي حاسرة الرأس أيضاً . اقتلع عينِيَ الأخرى, وأعطها لتلك الفتاة , وبذلك لن يضربها والدها.”

أجاب السنونو:

“سوف أبقى معك ليلة أخرى, لكن ليس بإمكاني أن أقتلع عينك لأنك بذلك سوف تُصبح أعمىً تماماً.”

قال الأمير “أيها السنونو, أيها السنونو, أيها السنونو الصغير, افعل ما آمرك به.”

وهكذا اقتلع السنونو عين الأمير الأخرى, واندفع بها بسرعة إلى الأسفل. وكان بعد أن تجاوز الفتاة التي تبيع الثقاب, قد رمى الجوهرة في راحة يدها.

قالت الفتاة ” يا لها من قطعة زجاج جميلة ! ” ثم أسرعت إلى المنزل, سعيدة ضاحكةً.

عاد السنونو بعد ذلك إلى الأمير. وقال له :

” سوف أبقى معك على الدوام, فأنت الآن أعمى.”

قال الأمير المسكين:

“لا, أيها السنونو الصغير, عليك الآن أن ترحل إلى مصر.”

قال السنونو ” لا , سوف أبقى معك دوماً” ثم نام على قدمَي الأمير.

وفي اليوم التالي كان السنونو قد جلس على كتف الأمير,  وأخذ يروي له القصص عما شاهده في تلك الأراضي الغريبة. حدّثه عن طيور أبي منجل الحمراء, التي تنتشر بصفوف طويلة على ضفاف نهر النيل لكي تصطاد الأسماك الذهبية بمناقيرها. حدّثه عن “أبو الهول”, القديم قِدم العالم , الذي يعيش في الصحراء ويعرف كل شيء عن التجّار الذين يمشون ببطء بجانب جمالهم, وهم يحملون بين أيديهم حروز الكهرمان. حدثّه عن القمر ملك الجبال الأسود اللون كالأبنوس, الذي يعبد كرة كبيرة من الكريستال. حدّثه عن الثعبان الأخضر الكبير الذي ينام قرب شجرة نخيل, وكيف يوجد حوله عشرون كاهناً يُطعمونه كعكات العسل. وحدثه عن الأقزام الذين يُبحرون فوق البحيرة على أوراق نباتية مُسطّحة كبيرة, والذين هم في حرب مستمرة مع الفراشات.

قال الأمير :

“أيها السنونو الصغير العزيز, أنت تُحدّثني الآن عن أمور رائعة وغريبة , لكن ما هو الأكثر غرابة في هذا العالم ومن أي شيءٍ آخر هو معاناة الرجال والنساء. ليس هناك ما هو أكثر غرابة من الشقاء , فلتُحلّق فوق مدينتي ولتعلمني بما سوف تراه هناك.”

وهكذا كان السنونو الصغير  قد حلق فوق تلك المدينة الكبيرة الجميلة , وشاهد كيف كان الأغنياء يحتفلون بكل بهجة في بيوتهم الجميلة , بينما يجلس المُتسوّلون أمام البوابات. ثم حلّق فوق الأزقّة المُظلمة وشاهد الوجوه الشاحبة لأطفال يتضورون جوعاً وهم يُحدقون بفتور إلى الشوارع المظلمة. كما شاهد تحت قناطر أحد الجسور, طفلين مستلقيَين متعانقين طلباً للدفء. كانا يقولان “كم نشعر بالجوع!..” لكن الحارس كان قد صرخ بهما :

” لا يجوز أن تستلقيا هنا” مما جعلهما يهيمان على وجهيهما تحت المطر.

ثم طار السنونو وعاد إلى الأمير وأعلمه بما شاهده. حينئذ قال الأمير :

” أنا مَطليّ بالذهب الصّافي, عليك  أن تنزعه عني, طبقة طبقة , لكي تعطه إلى فقرائي, فمع كل أسف يعتقد الأحياء دوماً بأن بإمكان الذهب أن يمنحهم السعادة.”

انتزع السنونو ذلك الذهب طبقة بعد طبقة , إلى أن أصبح الأمير السعيد باهتاً رماديّ اللون. ثم قام  ا بعد ذلك بنقل أوراق الذهب الصافي إلى الفقراء , وبذلك كانت وجوه الأطفال قد أصبحت أكثرَ تورّداً. لعبوا وضحكوا في الشوارع وهم يهتفون “لدينا الآن ما نأكله من قوت !”

ثم جاء الثلج, وجاء بعد الثلج الصقيع. واكتست الشوارع بحلّة فَضية كانت تبدو لامعة متلألئة. كانت قطرات الجليد الطويلة  تتدلى من أسطح المنازل أشبه بسكاكين من الكريستال , خرج الجميع من منازلهم وهم يرتدون معاطف الفراء, وارتدى الأولاد الصغار المعاطف القرمزية اللون وتزلجوا على الجليد.

أما السنونو الصغير فكان قد شعر أكثر فأكثر بالبرد , لكنه لم يكن ليترك الأمير, لأنه كان قد أحبه جداً. كان يجمع فِتات الخبز من أمام باب الخبّاز في غفلة منه, وكان يحاول أن يجلب لنفسه الدفء برفرفة جناحيه.

إلا أنه شعر أخيراً بأنه سوف يموت, وكان قد تبّقى له من العزم ما مكّنه من الطيران إلى كتف الأمير مرّة أخرى. طار إليه وهمس له :

“وداعاً أيها الأمير العزيز, هل تسمح لي بتقبيل يدك؟”

قال الأمير” أيها السنونو الصغير العزيز , أنا سعيد لأنك سوف تذهب أخيراً إلى مصر.,  كنت قد مكثت هنا لمدةٍ طويلةٍ جداً, لكن عليك أن تقبّلني من شفتيّ لأنني أحبك. “

قال السنونو ” أيها الأمير العزيز , أنا لست ذاهباً إلى مصر إنما أنا ذاهب إلى بيت الموت, والموت هو شقيق النوم, أليس كذلك؟”

ثم طبع قبلة على شفتي الأمير السعيد, وسقط ميتاً على قدميه.

وفي تلك اللحظة, كان صوت تصدّع غريب قد صدر من داخل التمثال, كما لو أن شيئاً كان قد تحطم بداخله . لكن الحقيقة أن قلب الأمير المصنوع من الرصاص كان قد انشطر إلى شطرين  لشدة الحزن .

وكان من سمعوا صوت التصدع قد قالوا :” من المؤكّد أن هذا الصوت هو صوت تكسّر الصقيع القاسي .

وفي وقت مبكر من صباح اليوم التالي, كان محافظ المدينة يقوم بجولة في الساحة برفقة أعضاء مجلس المدينة, وعندما مرّوا بذلك العمود نظر المحافظ إلى التمثال, وقال:

“يا للعار! كم يبدو الأمير السعيد رثاً الآن! “

وهتف أعضاء مجلس المدينة الذين كانوا يوافقون دوماً على ما يقوله المحافظ :

” كم يبدو رثاً, بالفعل!”: ثم صعد الجميع لكي يُلقوا نظرة على  التمثال.

قال المحافظ:

” كما أن الياقوتة سقطت من مقبض سيفه, وزالت عيناه, ولم يعد ذهبي اللون. الحقيقة لم يعد شكله أفضل من مُتسوّل بقليل !”

وردّد أعضاء مجلس المدينة وراءه ” نعم ليس أفضل من مُتسوّل بقليل “

واستمر محافظ المدينة في حديثه بأن قال:

” كما أن هناك عصفور ميت عند قدميه ! يجب أن نصدر التعليمات بمنع الطيور من الموت هنا.”

وقام كاتب المدينة بتدوين ذلك الاقتراح.

وعندما شاهده مُدرس مادة الفنون في الجامعة قال:

“بما أنه لم يعد جميلَ المظهر كما كان, فلم تعد هناك أية فائدة من وجوده هنا .”

وبذلك قاموا باقتلاع تمثال الأمير السعيد . ثم قاموا بعد ذلك

بصهر التمثال في الفرن.

وكان محافظ المدينة قد عقد بعد ذلك اجتماعاً للهيئة العامة لاتخاذ القرار حول كيفية الاستفادة من المعدن المُنصهر. وقال:

” علينا الآن أن نضع مكانه تمثالاً آخر بالطبع, وسوف يكون ذلك التمثال لي.”

وكان كلّ من أعضاء مجلس المدينة قد قال ” بل لي!.. بل لي… ” ثم تشاجروا. وآخر ما سمعته من أخبارهم أنهم لازالوا يتشاجرون.

قال ناظر العمال في مَسبك المعادن ” يا للغرابة ؟ لم يذب هذا القلب المصنوع من الرصاص في الفرن.  علينا أن نرميه خارجاً. وكانوا بذلك قد رموه في كومة الركام التي كان السنونو الصغير الميت مرمياً فيها أيضاً.

وعندما قال الله تعالى لأحد ملائكته ” أحضروا لي الشيئين الأكثر قيمة في المدينة”.

كان الملاك قد أحضر له كل من القلب الرصاصي والطائر الميت.

قال الله تعالى” أحسنت الاختيار! سوف يغني هذا العصفور الصغير في جنتي إلى الأبد , وسوف يُمجّدني هذا الأمير السعيد في مدينتي الذهبية إلى الأبد…”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى