من يحمي ذاكرة كسمار
يعد اليوم العالمي للمباني والمعالم التاريخية الذي يحل في 18 أبريل من كل سنة والذي أقرته الأمم المتحدة سنة 1982 بهدف المساهمة في الحفاظ على الموروث الثقافي المادي للشعوب وحماية المآثر من الاندثار..
فهذه المناسبة العالمية من الواجب علينا كباحثين في التراث والتنمية وإيمانا منا بضرورة الحد من عدم الإكتراث وكذا إتساع رقعةالتهميش الذي يعانيه تاريخنا المحلي ونفض الغبار عنه بالأقاليم الجنوبية المتجسد في موقع “كسمار” كنموذج الذي يدخل في خانة التراث المبني الكونيالي ولما له من دور في تاريخ أهل الصحراء خلال أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كذلك لمكانة وقيمة هذا المعلم الحضاري في الوقت الراهن والإهمال والضياع بقصد أو بغير قصد الذي تعرض له وتغاضي السلطات المعنية والمصالح الوصية على الثقافة والتراث على حمايته وصيانته وترميمه لحفظ الذاكرة الجماعية وليكون مصدر من مصادر تنمية الجهة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا .
لقد شهدت معلمة كسمار أو مرفأ فيكتوريا التاريخي إن صح القول برأس جوبي أحداثا ووقائع تاريخية بالغة الأهمية الذي أسسه التاجر والرحالة والمهندس دونالد ماكنزي يوم 12 ديسمبر سنة 1879 م بطرفاية حاضرة الصحراء حسب الأرشيف البريطاني هذا الانجليزي عقد اتفاقا لتبادل التجاري مع الشيخ محمد ولد بيروك التكني بهدف بناء هذا المركز التجاري وكذا استغلال التجارة الصحراوية والمناطق المجاورة لها بمؤازرة نائب القنصل البريطاني أنذاك بجزيرة لانزروطي المتواجدة بجزر الكناري حيث شيدت فوق جزيرة رملية تتكون من طابق أرضي يضم 8 غرف وطابق علوي يحتوي هو الآخر على 8 غرف لتخزين المواد الاستهلاكية المستوردة والمصدرة من المنطقة صوب مدينة مانشستر الإنجليزية بالإضافة إلى ست خزانات أرضية للمياه الصالحة للشرب وميناء للشحن ورسو السفن والزوارق التجارية كذلك تحصينه بالمدافع الحربية تفاديا لأي هجوم محتمل من طرف القبائل المحلية الصحراوية بكاب جوبي إلى حدود الانتهاء الكلي من انجاز هذا المشروع سنة 1882 م ( أنظر الوثيقة أسفل)، إلا أنه في حقيقة أمر هذا المركز الذي كان يحمل بين طياته رؤى مستقبلية توسعية استعمارية من طرف اإنجلترا للتوغل داخل المجال الصحراوي بالجنوب المغربي مادامت مشاريع هذه الشركة الوافدة مبدئيا ستعتمد على ما هو استراتيجي عبر تشييد الموانئ والطرق والسكك الحديدية من أجل استغلال ثروات المنطقة .
وعلى إثر هذا الاتفاق المبرم بين ماكنزي والشيخ محمد دون استشارة السلطة المركزية في شخص السلطان الحسن الأول من جهة وقبائل الساقية الحمراء بطرفاية خصوصا إحدى قبائل تكنا المجاهدة إزركيين بحكم تواجد هذا المركز ضمن مجالهم الجغرافي من جهة أخرى أدى إلى الهجوم عليه لخطورته وطرد الشركة البريطانية منه التي ظلت تطالب بإلحاح الدولة المغربية بالتعويض عن خسائرها سنة 1895 م في حدود 50.000 جنيه إسترليني والانسحاب الكلي من المرفأ التجاري حسب نص الاتفاقية المبرمة بين الطرفين ونقل هذه الوكالة التجارية إلى الديار البلجيكية نظرا للخسائر التي تكبدها ماكنزي وبروز منافسين جدد خاصة التجار الإسبان ناهيك عن تسيير هذا المركز التجاري من طرف قبيلة إزركيين عقب خروج الإنجليز منه سنة 1910 م هذا ما أكده الباحث الفرنسي كيد كانديني في كتابه Guide J.Gandini ,- les pistes du maroc- , tome III paris , p 132.
بعدسقوط هذا المشروع التجاري كسمار أو دار البحر من طرف القبائل الصحراوية تم تعيين قواد من قبائل تكنا سنة 1883 م وغيرها من القبائل الأخرى يمثلون السلطان الحسن الأول على رأسهم القائد حمادي الشباني قائدا للحماية العسكرية بطرفاية وقواد من قبائل تكنا لا للحصر يتزعمهم كل من القائد براهيم بن امبارك بن الطالب التكني و محمد بن أحمد بن البلال وسليمان بن بوجمعة بن الجيلالي سنة 1887 م .
ومن هنا نستنتج أنه في حالة قبائل الصحراء لم يكن هدف السلاطين من تعيين بعض قوادهم من تكنا الحصول على مكاسب محلية بقدر ما هو الهدف الاستراتيجي المتمثل في التصدي للتوغل الأجنبي وحماية ومراقبة السواحل والشواطئ الصحراوية عبر المراسلات والظهائر السلطانية من طرف السلطان مولاي عبد العزيز سنة 1887 م (أنظر الوثيقة).
و خصوصا القضاء على مشروع دونالد ماكنزي لما كان يشكله من خطر ودور تجاري على الصعيدين الداخلي والخارجي حيث يشير لنا الرحالة والمستكشف الفرنسي بول صوليي في إحدى تقاريره:
paul soleillet – Rapport A Monsieur le Ministre des Travaux public sur le Voyage de saint Luis a Adrar – , décembre 1879 mai 1880, paris p64.
بمنطقة الصحراء الأطلسية الغربية أن الأمير التروزي علي بن محمد الحبيب أحد أمراء الترارزة بجنوب موريتانيا أبدى تخوفه من مركز تجاري أقامه الانجليز في منطقة الساقية الحمراء برأس جوبي لأن هذا المرفأ سيعمل عل القضاء على المبادلات التجارية بين واد نون وسان لوي السنغالية كذلك تجارة آدرار نحو بلاد السودان بالإضافة إلى حرمانه من أداء ضريبة حق العبور على القوافل التجارية المارة بإمارة الترارزة كذا الدور الفعال في منافسة التجارة الفرنسية بالغرب الإفريقي وميناء موكادور التجاري بالصويرة بل تعدته نحو الجنوب المغربي من خلال تجارة واد نون ، كما ساهم هذا المرفأ بشكل كبير في إنعاش وتطوير تجارة الصحراء الأطلسية وجزر الكناري في أواخر القرن 19 م .
وعلى ضوء هذه الوضعية الحالية المزرية والخطيرة التي تعانيها معلمة كسمار بسبب غياب الاهتمام اللازم والفعلي بها وأي تدخل إستعجالي لإنقاذها وإنصافها وحمايتها من الانقراض منذ إنطلاق المشروع المزعوم سنة 2008 من طرف وكالة تنمية الجنوب بهدف ترميم المعلمة دون إنجاز أي شيئ يذكرعلى أرضية الواقع إلى حدود كتابة هذه الأسطر ، وللأسف باعتبارها ثروة ثمينة من شأنها أن نرد لها الاعتبار لها كموروث ثقافي وتاريخي وتأهيلها وتثمينها من أجل المساهمة في تنمية السياحة الثقافية الجهوية شريطة إحترام معايير الترميم الأصلي الأركيولوجي للموقع دون تشويه لصون ذاكرتها من الزوال مما يستدعي منا جميعا أن تكون كذلك محط عناية وإعتبار ليس فقط من قبل المؤسسات الحكومية بل وأيضا من قبل الجماعات المحلية والهيئات المنتخبة بالجهة والباحثين والدارسين في المجال وأفتح القوس هنا لأشكر المجلسين الإقليمي و البلدي لمدينة طرفاية وكذلك كل الفاعلين الجمعويين و العاملين في مجال التنمية المستدامة هناك على العمل و المجهود الجبار لرد الإعتبار لها ، فالشراكة الحقيقية والتعاون الفعال بين مختلف هؤلاء الفاعلين سنتمكن من إنقاذ وحماية التراث بشقيه المادي والغير المادي قبل فوات الأوان خاصة و أن وثيرة التدهور في تسارع متزايد.(أنظر الصورتين أسفل) .
مرفأ فكتوريا التجاري
لنخلص على أن الأمم التي لاتدقق في حقائق تاريخها ليست جديرة بحياة راسخة ولا طويلة ليبقى التساؤل مطروحا من يحمي ذاكرة طرفاية من التهميش ؟ وهل هناك من إجراءات عملية إستعجالية لحماية كسمار التي تعتبر شاهدة على مرحلة مهمة من تاريخ الجنوب المغربي ؟.
بقلم حيمداها لارباس : باحث في التراث الأثري ـ رئيس جمعية أساتف لحفظ الذاكرة والإشعاع الحضاري