سامحينا، يا أمعاء العبيد/محمدفال سيدي ميله
يقال في ثقافة احتقار الحمار ان “جلده للعذاب ولحمه للكلاب”.. مقولة تنطبق جدا على ثقافة الإقطاع الجديد بخصوص الحمّالين: جلدهم لعصي وهراوات الشرطة، ولحمهم لدود مقابر أحياء الصفيح.. هكذا “نتصور” وهكذا هو الواقع.
مسكينة هي أمعاء الحمّالين، تبكي يوميا لحال أصحابها وهم يحملون على أكتافهم آلاف الخنشات المليئة بمواد يحتاجون، يوميا، لمجرد حفنة منها! ومع ذلك لا يحصلون إلا على روائحها وغبارها وأثقالها ونصف أوقية لا يعرفون هل يجعلونه في دهان لعضلاتهم المرتخية، أم يجعلونه في لقمة صغيرة يطفئون بها جوع أبناء يتكدسون كالقمامة والقــُـمّـل في عريش أقرب إلى الزنزانة النتنة منه إلى أي شيء آخر. مسكينة هي أمعاء الحمالين! ترثي، خنسائيا، لحال أصحابها وهم يحملون على أكتافهم الأرز، ويعيشون على العلف!.. يحملون على أكتافهم الذرة، ويعيشون على الغثاء! يحملون اللبن ويشربون الماء الوسخ! مسكينة هي أمعاء الحمالين، تنظر إلى أكتاف أصحابها، ثم تلتفت لتنظر إلى أكتاف الجنرالات، فترى على هذه خنشات الطحين وترى على تلك الأنجم والنياشين، فتتـثنى في حزن مريع متسائلة: متى سيَخِفُّ وزنُ حملي ويَخِفُّ وزن حملهم (من أجل مصلحة هذا البلد المريض)؟..
أمعاء الحمالين لا تعرف الشكلاطه والصلاطه والبطاطس والفول (رغم أنه سوداني). المفارقة العجيبة تكمن في أن أمعاء الحمالين لا تعرف العسل والمذق وحليب “الوردة”، لكن أكتافهم تعرف كل المأكولات والمشروبات!. والمفارقة المضحكة تكمن في أن أكتاف الحمالين تعرف جميع أنواع ألعاب الأطفال، لكن أطفالهم لم يلعبوا قط إلا بعظام الجيـّـفة المرمية في قمامات الأباطرة!.
الحمالون – لمن لا يعرفهم- عبيد عصريون، يعيشون بنصف أوقية، يستغلهم زبانية الإقطاعية الجديدة المتجددة، يبيتون في أعرشة متهاوية، غداؤهم الصبر الجميل، عشاؤهم الصبر الطويل، فطورهم الصبر المرير، ثيابهم الصبر الشفاف، فراشهم الصبر الدفين، دواؤهم الصبر الحزين. وعندما يقولون “آهٍ” نـُـلقمهم القنابلَ لتــُــسكت خريرَ وصرير وموّاء وزئير وخشخشة تلك الأمعاء “المتمردة”.
معذرة، أيتها الأمعاء المسالمة “المتمردة” المبتسمة رغم أنف الجوع والعطش والمرض والتيه.. معذرة يا أمعاء العبيد، لقد أكلنا عضلاتِكم منذ الأزل، وشربنا عرقــَـــكم منذ الأزل، ولم نرحم آهاتكم ولو مرة واحدة.. سامحينا يا أمعاء العبيد؛ فلئن عشتِ خاوية، فلقد انتفخت بطونــُــنا من جهد أمهاتٍ هلكــْـنَ تحت شجر الشيح والقيصوم والطلح بحثا عن معزاة ضالة أو علكة يابسة..
سامحينا؛ فلئن غدَوْتِ نحيفة جافة، فلقد شربنا الشـوْبَ والشايَ بجهد آباءٍ ماتوا بين التلال وفي الوهاد بحثا عن عيس وشياهٍ وحبة خمخم.. سامحينا يا أمعاء العبيد؛ فقد جعتِ من أجل أن نشبع وظمئتِ من أجل أن نرتوي.. سامحينا، فأنت الإسهالُ من فرط الجوع ونحن التخمة من فرط الشـّـبَـع.. سامحينا يا أمعاء العبيد، فإن نصف أوقية لا يمثل اعتذارا عن ماضينا المتغطرس، لكنه جهالة أخرى نضيفها إلى قاموس الظلم في انتظار أن يولد من رحم المأساة وطن رؤوف بالأكتاف، رحيم بالأمعاء.