ولاتة.. قوة المبتدأ وضعف الخبر/الولي ولد سيدي هيبه
احتضن فندق وصال مساء الأربعاء 11 مارس 2016 في نواكشوط تظاهرة ثقافية تضوعت بعبق التاريخ المجيد وفاحت بعطر الماضي التليد، وحركت أحاسيس الاعتزاز وألهبت مشاعر الانتماء الشنقيطي الجياش.
ولما أن المحاضر الدكتور عبد الودود ولد عبد الله الملقب “ددود” أحد الباحثين المجيدين في حقل التاريخ، قد أصل للموضوع باستعراض تاريخ و أسباب تأسيس مدينة “بيرو” و تشكل ملامح “إيولاتن” و إشعاع “ولاتة” وذكر بكل خطوات البحث المرهق الذي قيم به في جهد مشترك مع المرحوم الدكتور الراحل و الألمعي الفريد “جمال ولد الحسن” لتحقيق كتاب “فتح الشكور” الذي كان مؤلفا ولاتيا بامتياز على نسق يختلف بعمقه وتنقيح ما يعتريه من التناقضات و الأخطاء و المغالطات الواردة لأسباب مختلفة منها الموضوعي البين، و منها الذي ينتابه ويلفه الغموض فقد أفصح عن أن الكتاب انطوي على تاريخ حاضرة عريقة بأبعاد ثلاثة هي:
الزنجي حملت معه اسم “بيرو”،
· والصنهاجي الذي دعاها “ايولاتن”،
· والعربي و لقبها “ولاتة” الإسم الذي استقر عليه الحال حتى اليوم. وأوضح المحاضر أن متن المؤلف “المرجع” احتوى أيضا على عديد تراجم رجالاتها المشهورين وذكر علمائها المرموقين وأدوارهم البارزة في إحياء علوم الدين والعربية ومساهمتهم في التبادل والإشعاع العلمي. وأبرزت بعناية فائقة أهمية الكتاب البالغة في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية ضمن منطقة كانت، على تصحرها ونأيها عن نقاط الإشعاع العلمي أنذاك، منارة إشعاع فريد على الرغم من تأخر ميلادها عن مدن “شنقيط” و “وادان” و “تيشيت” حيث رأت النور عام 625 هـ/1224م على أنقاض “كمبى صالح” كمحطة متقدمة في التجارة مع بلاد السودان على الطريق الغربي من المحور الأوسط المار بتغازه فتوات.
و اشتمل الكتاب على ما يقارب المائتي ترجمة لعلماء عاشوا في المنطقة مدة تناهز مائة وستين سنة (1056-1215هـ/1650-1800م)، تراجم تُقدم فيضا من المعلومات القيمة لفائدة الباحثين و المهتمين عن مراكز العلم أيام إشعاعها وتكشف النقاب عن الموضوعات والكتب التي كانت تدرس فيها وعن العلاقة التربوية بين المشيخة والتلمذة و كذاك بين الأجيال، والتأثير بينها و المراكز الاشعاعية المختلفة في تلك المرحلة، وأسماء كتب التراث العربي التي كانت موجودة في المنطقة و كان أهل العلم يستفيدون منها، وأسماء مؤلفات بعض علماء “التكرور” الذين ساهموا بمتونها القيمة في إثراء المحصول الكبير من المؤلفات العربية الاسلامية عبر القرون في مختلف أرجاء العالم. ولا شك أن مدينة “بيرو” أو “إولاتن” أو “ولاتة” العتيقة من أهم روافد التاريخ الشنقيطي وأنها وإن اختلفت الروايات بشأن تاريخ تأسيسها فقد اشتهرت بوصفها محطة من محطات القوافل وظلت منارة علم ومعرفة قبل أن تعزلها عاديات الزمن ويصيبها الوهن نهاية القرن 12هـ/18م. ولعل أقرب تلك الروايات إلى الحقيقة كما سلف هي تلك القائلة إنها تأسست فى 625 هـ/1224م على أنقاض (كمبى صالح). و قد ذاع صيتها التجاري ثم الثقافي في تلك الفترة و جاء أول ذكر لها من خلال النشاط التجاري لأبناء المقري الذين استقر اثنان منهم بها (عبد الواحد و علي)، في حين تمركز أبوبكر ومحمد بـ”تلمسان” وعبد الرحمن بـ”سجلماسة”. وتذكر مصادر التاريخ أن ابن بطوطة زارها أثناء رحلته وأقام بها قرابة خمسين يوما ووصف أهلها وجوانب الحياة فيها وتحدث عنها بوصفها مركز إشعاع ثقافي بالمنطقة وبوابة فريدة في العلاقات مع بلاد السودان، رابطا بين ازدهار الحركة التجارية بها وتنوع الحضور البشري.
ولكن مداخلات عديد الباحثين والأكاديميين والمؤرخين والمهتمين التي أعقبت المحاضرة كانت رصدت جملة من الإشكالات التي بدت وكأنها نقاط لفها الغموض فاحتاجت مزيدا من البحث وتسليط الضوء ودقيق التمحيص لما كشفت عنه من اختلالات في محتوى بعض التراجم حيث كانت ناقصة وشبه إقصائية لعديد الشخصيات التي تذكرها وتذكر بعض آثارها مراجع ودراسات أخرى، وكأن الجهد ما زال ناقصا في هذا المنحى والإحاطة ما زالت تتطلب إمعانا في الجوانب المثيرة للاستغراب كاحتواء الكتاب ترجمة مؤلفه وذكر وفاته وإغفال تراجم العلماء من السكان الأصليين فيما غيرهم و إن من نفس الفضاء الشنقيطي وجدوا ركنا مكينا و مستقر خلود في متن الكتاب، و لا ريب أنه فيما وصلت إليه مدن تيشيت ووادان و شنقيط ـ التي لعبت أدوارا ريادية وعميقة في النسيج المعرفي الشنقيطي
ـ بعض من إشعاع و خيوط نور معرفي قادم من “ولاتة” جعل صيتها كلها يتجاوز ربوع بلاد الملثمين أو “البيظان” إلى كل ديار الإسلام من مراكش حتى إسطنبول مرورا القيروان و القاهرة و الديار المقدسة.