عفا الله عنك يا دكتور..!!/محمد الأمين ولد الفاضل
عفا الله عنك يا دكتور فَلِم قبلت بأن تكون ضيفا على برنامج الاتجاه المعاكس؟ ولم قبلت أن تسيء إلى نفسك، و إلى الشعب الموريتاني، وإلى كل العقلاء من القوميين العرب، بل وإلى كل العقلاء في العالم، بالدفاع عن رئيس باطش، متوحش، همجي، بائس، تائه، تافه يقتل الشيوخ والأطفال من أجل البقاء على كرسي ما كان ليحلم بالجلوس عليه، لو لم يكن قد وُرِّث له؟.
لِمَ يا دكتور أظهرت الشعب الموريتاني لمشاهدي قناة الجزيرة ـ وهم الذين يعدون بالملايين ـ وكأنه شعب يعشق ذبح الأطفال، ويتلذذ بسفك الدماء، ويفتخر بتدمير المآذن، ولا يتألم عندما يشاهد سوريا يعذب عذابا فظيعا لأنه لم يسجد لصورة أو تمثال هُبَل سوريا.
ألسنا ـ يا دكتورـ شعبا مسالما نكره سفك الدماء؟ ألسنا شعبا مسلما يموت قبل موته عندما يشاهد مئذنة تدك، أو نُصُب دكتاتور يسجد له من دون الله؟
عفا الله عنك يا دكتور، لقد ظلمتنا كثيرا، وأسأت إلينا كثيرا، وأحرجتنا كثيرا أمام الشعب السوري البطل.
أعرف أنك يا دكتور ما كنت بِدْعا في ذلك، ولن تكون، فالجزيرة لا تفكر في ضيف موريتاني إلا إذا أعياها الحصول على مدافع عن نظام عربي بائس، لم يعد أحد من العقلاء في البلدان العربية الأخرى يقبل بالدفاع عنه، ويبدو أنه قد أعياها هذه المرة الحصول على ضيف يدافع عن نظام الإجرام في سوريا فبحثت في دفتر عناوينها عن ضيف موريتاني..فكنت أنت يا دكتور هو الضيف المختار.
عفا الله عنك يا دكتور، فالدكتاتور الذي تدافع عنه قد تخلى عنه الكثير من أركان نظامه، وتخلى عنه الأصدقاء والأقارب، حتى أخته الوحيدة تخلت عنه رغم أنها تشترك معه في الاسم (بشار وبشرى)، وفي التخصص (طبيب عيون، صيدلانية)، وفي العائلة ( الأب الواحد والأم الواحدة). حقيقة لا أدري ـ يا دكتور ـ ما الذي سحرك به بشار، حتى استطاع أن يقنعك بالدفاع عنه، وأن يجعل منك ومن حزبك طابورا ثانيا خلف طابور “الصفويين الجدد”، والذين يعدون اليوم من أهم المدافعين عن دكتاتور سوريا.
ألم تكن إيران ـ وحتى وقت قريب ـ هي العدو الأول للأمة العربية؟ أليس “الفرس” ـ وفق أدبيات البعث وبيانات الصواب ـ هم أكثر عداءً للعرب وللمسلمين من العدو الصهيوني، ومن أمريكا، ومن كل الأشرار على كوكبنا الأرضي، إن لم يكن من كل الأشرار في مجرتنا؟
فما الذي حدث في الأشهر الأخيرة يا دكتور؟ وهل تبدل الفُرس وأصبحوا غير الفرس الأعداء؟
أتذكر يا دكتور بأني كنت قد كتبت مقالا أثار غضب مناضلي حزبكم، وكان تحت عنوان “أين الصواب في بيانات حزب الصواب؟”، كتبته بعدما لاحظت أن حزب الصواب أصبح يخصص جل وقته، وأغلب بياناته لتتبع رحلات أحمدي نجاد وللتنديد بها، وكأن كل مشاكلنا كموريتانيين وكعرب قد اختزلت في تلك الرحلات. فما الذي حدث بعد ذلك المقال لحزب الصواب حتى جمعه بأحمدي نجاد حب واحد، وعشق واحد، وليلى واحدة؟
الغريب في الأمر ـ يا دكتور ـ هو أنكم تقولون بأنكم بدفاعكم عن بشار إنما تقفون ضد أمريكا ومخططاتها في المنطقة، والحقيقة أنه ما أهلك هذه الأمة وضيعها إلا أولئك الذين يخاصمون أمريكا بألسنتهم، ويناصرونها بأفعالهم، وما أكثر مثل أولئك في صفوف قوميي الألفية الثالثة.
اسمعوا هذه يا دكتور: إن من يدعم أي دكتاتور عربي في زمننا هذا، هو أكبر عميل لأمريكا. فما الذي تريده لنا أمريكا غير أن نظل دولا ضعيفة؟ وما الذي يبقينا دولا ضعيفة غير أن نقبل بالخضوع لدكتاتوريين يديرون شؤون بلادنا بعقولهم الصغيرة، وبمزاجهم المتقلب؟
لقد سقطت نظرية المستبد العادل، وتبين أنها ما كانت إلا خرافة صدقها الناس برهة من الزمن، ولكنها لم تعد اليوم لتجد من يصدقها غير قلة من القوميين تعيش العقد الثاني من الألفية الثالثة بعقلية الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
واسمعوا أيضا هذه يا دكتور : إن الرجعيين حقا هم أولئك الذين يريدوننا أن نُحْكَم في العام 2012 بعقلية الستينات والسبعينات، كما يحاول عبثا أن يفعل بشار.
ذلك زمن مضى يا دكتور، ولن يعود أبدا، والرجعي حقا هو الذي يريد للعرب أن يعودوا إلى ذلك الزمن، الذي تجاوزه العالم كله، زمن “القائد الملهم” الذي يحق له أن يدمر بلدا بكامله دون أن يتجرأ أي مواطن على محاسبته، وإن تجرأ أحدهم على قول كلمة في “القائد الملهم” أتهم في عروبته، وطبع على ناصيته بأنه عميل لأمريكا وإسرائيل.
لقد انتهى ـ يا دكتورـ زمن القائد الأوحد الذي يسير شؤون البلاد بعقله الصغير، وبمزاجه العابث. ولقد بدأ ـ يا دكتور ـ زمن دولة المؤسسات، حتى وإن كان قد تأخر كثيرا في بلداننا العربية، لذلك فالرجعي حقا هو الذي يطبل لدولة الفرد، ويحن لها في العقد الثاني من الألفية الثالثة.
أكاد أجزم يا دكتور بأنه لو بُعِث عبد الناصر ـ وهو الزعيم الذي كان يهمه حقا أمر العرب ـ في أيامنا هذه، لوصف ناصريي 2012، وكل قوميي 2012 بأنهم هم عملاء الاستعمار، وأنهم هم من يمثل حقا الرجعية في البلاد العربية.
وأكاد أجزم أيضا بأنه لو أتيح لعبد الناصر أن يحكم مصر في هذه الفترة لما حكم بنفس الطريقة التي حكم بها في الخمسينات والستينات، بل أزعم أنه لو ظهر في أيامنا هذه لكان من أول المطالبين بدولة المؤسسات.
واعلم يا دكتور بأن هذا الزمن لم يعد زمن الشعارات الجوفاء التي يرفعها الدكتاتوريون لخداع شعوبهم، ولبسط سلطانهم ونفوذهم، لم يعد هذا الزمن ذاك الزمن يا دكتور، فعيشوا الحاضر من فضلكم، و إلا فاذهبوا إلى المقابر وحدثوا الأموات بخطاب الستينات، وارفعوا لهم شعارات الستينات، ثم امنعوهم بعد ذلك من حرية إبداء الرأي، كما كان يفعل معهم القادة العرب، وكما يفعل بشار في أيامنا هذه.
كان حافظ الأسد رئيسا لسوريا، وكان قوميا بعثيا، وكان يرفع شعارات كبيرة. وكان صدام حسين رحمه الله رئيسا للعراق، وكان قوميا وبعثيا، وكان أيضا يرفع الكثير من الشعارات العظيمة، ولكن ـ وفي هذه مفارقة كبيرة ـ لم يحدث أن تخاصم رئيسان عربيان ملهمان كما تخاصم الرئيسان القوميان البعثيان، واللذان حكما في الفترة ذاتها أعظم دولتين عربيتين. كان بإمكان سوريا، كما كان بإمكان العراق ـ لو لم يبتليهما الله بقادة مستبدين ـ أن تكون كل واحدة منهما اليوم أكثر تقدما وقوة من دولة “الفرس” ومن دول “الأتراك”، نفس الشيء ينطبق ـ بطبيعة الحال ـ على مصر، وعلى السودان، وعلى الجزائر.. إنها فاتورة الاستبداد التي لا زلنا حتى اليوم ندفع أقساطها المدمرة.
فَلم تخاصم القائدان الملهمان واللذان كانا ينهلان من معين واحد؟ ولِمَ كبرت الأحقاد بين القائدين الملهمين؟ ألا يعني ذلك أن أحدهما ـ على الأقل ـ إنما كان يرفع تلك الشعارات العظيمة لصالحه الخاص لا لصالح الأمة العربية كما كان يدعي؟
فلو كان حافظ الأسد يدافع حقا عن القومية، ولو كان يمثل مزاج الشعب العربي السوري لما قبل إطلاقا أن يشارك جنوده مع الجنود الأمريكيين في حرب الخليج الأولى لتدمير العراق. كان حافظ الأسد لا يهمه إلا كرسيه، لذلك شارك في تدمير العراق.
ولو كانت مصلحة العرب والمسلمين هي المحرك الأول لتصرفات صدام حسين رحمه الله، لما انحرف صدام بحروبه و”بقادسياته” إلى إيران، وإلى الكويت من قبل أن يتوجه رأسا إلى فلسطين لتحريرها، وإلى إسرائيل لتدميرها، وهي التي دمرت المفاعل النووي العراقي، وأعطت لصدام حسين رحمه الله المبرر الكافي لتدمير نصفها الجنوبي، كما أعطت ـ من قبل ذلك ومن بعده ـ لحافظ الأسد ولابنه كل المبررات بعد أن احتلت أرضهما، ورقصت طائراتها ـ أكثر من مرة ـ فوق قصريهما بشكل مستفز ومهين.
ولو كانت المصلحة العربية والإسلامية هي المحرك الأول لتصرفات صدام حسين لأدخر هذا القائد كل خيرات العراق العظيم، وكل قدراته للعدو الصهيوني، بدلا من تبديدها في حروب طائشة لم تستفد منها إلا أمريكا والعدو الصهيوني، وربما “العدو الفارسي”. والله ما ضيع هذه الأمة إلا الشعارات الجوفاء التي كان يرفعها مستبدون لا تهمهم إلا كراسيهم.
ومن المثير للاستفزاز بأن كل قائد عربي كان يقول بأن ما حل ببلده من دمار وخراب إنما كان بسبب دفاعه عن قضايا العرب، وخاصة عن قضيتهم الأولى: فلسطين. هذا كلام أسخف من أن نرد عليه.
دعنا ـ يا دكتورـ نتحدث بعيدا عن العاطفة، ودعنا نطرح السؤال التالي: ما هي مواصفات النظام الذي تكرهه أمريكا حقا، والذي يقلقها حقا، والذي يهدد مصالحها حقا؟
كانت أمريكا وحتى وقت قريب تريد أن تُحدث فوضى خلاقة في عالمنا العربي والإسلامي، ولكن أمريكا اكتشفت بأن تلك الفوضى الخلاقة، لن تسلم هي من أثارها السلبية رغم أنها ستحقق لها هدفا عظيما بالنسبة لها، وهو إعادة العرب والمسلمين مئات السنين إلى الوراء.
تعرف أمريكا بأن الشعوب العربية والإسلامية تكرهها بسبب ما ارتكبت من ظلم ضد العرب والمسلمين، وتعرف أمريكا بأنه كلما حدثت “فوضى خلاقة” في أي بلد عربي أو إسلامي، وغابت عنه السلطة، كلما أدى ذلك إلى تعرض مصالح أمريكا للخطر.
فغياب السلطة المركزية عن أي دولة عربية أو إسلامية سيجعل مجموعات من شعب تلك الدولة تفكر في تصفية الحساب مع أمريكا، بعد أن غابت السلطة التي كانت تلجم تلك المجموعات وتحول بينها وبين تصفية حسابها مع أمريكا، والأمثلة هنا أكثر من أن تحصر: أفغانستان، الصومال، جنوب لبنان، العراق بعد احتلاله حيث تم قتل الآلاف من الأمريكيين. أما في ظل معاداة القادة العرب لأمريكا فلم يحدث أن تعرضت مصالح أمريكا لأي خطر حقيقي (لاحظوا أنه لم يقتل من الجنود الأمريكيين خلال حربي الخليج الأولى والثانية إلا العشرات، ولا حظوا أن حافظ وابنه بشار ليس في سجلهما أي جندي أمريكي واحد قتلوه).
لذلك فأمريكا اليوم لم تعد تسعى لإسقاط الأنظمة الحاكمة، لأن تلك الأنظمة هي وحدها التي بإمكانها أن تلجم شعوب المنطقة، وأن تحمي مصالح أمريكا في العالم، وبطبيعة الحال فإن أمريكا تفرق بين تلك الأنظمة، وترتبها حسب مدى استفادتها منها.
فهناك أنظمة تخدم أمريكا في السر والعلن، وهذه هي أفضل الأنظمة عند أمريكا، ومن أمثلتها (نظام حسني مبارك، نظام زين العابدين، ملوك وأمراء الخليج، وإن بدرجات متفاوتة طبعا).
وبعد هذه الطائفة تأتي أنظمة أخرى تناصب أمريكا العداء في العلن، ولكنها تخدمها في السر (القذافي، علي عبد الله صالح).
أما الطائفة الثالثة، فهي أنظمة تناصب أمريكا العداء في العلن، وربما في السر أيضا، ولكن تلك الأنظمة ترتكب من الأخطاء داخل دولها التي تحكم ما يجعلها من حيث المحصلة النهائية أكثر خدمة لأمريكا من كل الأنظمة التي حصرناها في المجموعتين الأولى والثانية، وتضم الطائفة الثالثة : نظام صدام حسين رحمه الله الذي دمر العراق بشكل كامل، نظام البشير الذي قسم السودان، نظام بشار الذي يدمر الآن سوريا.
ويمكن القول بأن كل هذه الأنظمة كانت تخدم أمريكا، بطريقة أو بأخرى، ولكن النظام الذي تخشاه أمريكا حقا، فهو ذلك النظام الذي يفرزه المزاج الشعبي الكاره لأمريكا بالفطرة، أي أنها تخاف من كل نظام عربي منتخب من طرف شعبه، وبالتالي له القدرة إلا أن يقود ذلك الشعب لما فيه مصلحة العرب والمسلمين، أي إلى تنمية حقيقية، وإلى مواجهة ـ ذات نتائج ملموسة ـ مع العدو الصهيوني، ومع داعمه الأول أي أمريكا.
إن أي رئيس عربي أو إسلامي يريد أن يخدم القضية الأولى للعرب وللمسلمين عليه أولا، وثانيا، وثالثا أن يتصالح مع شعبه، وأن يحدث تنمية حقيقية في بلده، لأنه لا يمكن أن ننصر فلسطين بشعوب عربية مهدورة الكرامة، وخائفة من الدكتاتوريات التي تقودها أكثر من خوفها من العدو الصهيوني ومن أمريكا.
وفي الأخير، فأعلم ـ يا دكتور ـ بأن أمريكا تفضل ألف بشار يصرخ في الصباح وفي المساء بألف شعار معادي لها، عن رئيس سوري يمكن أن يظهر مستقبلا، إن نجحت الثورة السورية، رئيس ينتخبه الشعب السوري، لأن مثل ذلك الرئيس هو الذي يهدد حقا مصالح أمريكا وأمن إسرائيل..
تصبحون وأنتم قوميون حقا…
ملاحظة : نشرت أجزاءً من هذا المقال على صفحتي الشخصية، ومن قبل أن يكتمل، كرد سريع على حلقة الاتجاه المعاكس، ولقد كان العنوان الأصلي للمقال: تعليق على حلقة لم أشاهدها.
محمد الأمين ولد الفاضل
رئيس مركز ” الخطوة الأولى” للتنمية الذاتية