وقفات مع سورة النمل / محمد الأمين ولد الفاضل
سنحاول في هذه الورقة من أوراق تنموية أن تتحدث عن بعض القضايا الشائكة والتي تعتبر من أهم عوائق التنمية في بلدنا بصفة خاصة وفي العالم الإسلامي بشكل أعم.
ورغم أن هذه القضايا التنموية الشائكة قد أثارت نقاشات وكتابات وأحاديث بلا أول ولا آخر، إلا أن الجديد الذي ستحاول هذه الورقة أن تضيفه إلى تلك النقاشات والكتابات
هو التحدث عنها من خلال تدبر سورة من سور القرآن العظيم، وهي سورة كغيرها من سور القرآن الكريم زاخرة باللآلئ والجواهر النفيسة. سنتحدث في هذه الورقة عن موضوع التخلف من خلال تدبر سورة النمل. تلك السورة التي تشير إلى حقيقة كثيرا ما تغيب عنا، وهي أن هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم، والذي ننبهر بما وصل إليه من تقدم وتطور بعد ظهور دول تمتلك قوة عظيمة، هو نفسه العالم الذي شهد منذ آلاف السنين ملكا عظيما، لم ولن تعرف له البشرية مثيلا، حيث انقادت فيه الريح والشياطين والحيوان والإنسان لسلطان ملك واحد هو سليمان عليه السلام. ونحن اليوم إذ نفتخر بأننا نعيش في عصر ثورة الاتصال، حيث أصبحت صورة الحدث تأتينا في بيوتنا من مكان الحدث نفسه ساخنة ومباشرة، خلال ثواني معدودة حتى ولو بعد عنا آلاف الكيلومترات. فعلينا أن لا ننسي أن هناك من كان يأتيه الحدث لا صورته في مدة تطول لو حسبت بالثواني، فعرش بلقيس لا صورته جيء به إلي سليمان عليه السلام في أقل من طرفة عين . لذلك وبعد هذه المقارنة السريعة فإنه يحق لنا القول بأنه إذا كان من الحكمة أن نتعلم ونستفيد من تجارب بعض هذه الدول القوية التي تقود عالم اليوم، فإنه من الحكمة أيضا – بل هو الحكمة بعينها – أن نتعلم ونستفيد من ” مملكة آل داوود العظيمة ” ما يعيننا علي بناء دولة إسلامية قوية ومعاصرة، وذلك من خلال العودة إلي هذه السورة الكريمة التي قدمت لنا تلك المملكة العظيمة . ومن الأهمية بمكان أن أقول – وهو ما سأشير له من خلال لقطات خاطفة – بأن كل النماذج المعاصرة والتي استطاعت أن تبني قوة عظيمة سواء كانت اقتصادية، أو عسكرية، أو علمية، إنما تمكنت من ذلك من خلال الاستفادة – حتى ولو تم ذلك بغير وعي – من أربعة أسس لبناء دولة قوية قدمتها هذه السورة الكريمة سأعرضها بعجالة في هذه الورقة من خلال أربع وقفات : الوقفة الأولي :- العلم أولا :- إن من يتدبر هذه السورة الكريمة سيجدها كغيرها من سور هذا الكتاب العظيم قدمت دعوة صريحة وقوية للتعلم، فلا يمكن الحديث عن أعظم مملكة في تاريخ البشرية دون التحدث عن العلم. وتاريخ البشرية يشهد بأنه لم يستطع شعب جاهل أن يؤسس دولة قوية. لذلك نجد أنه في كل هذه السورة الكريمة لم ترد كلمة الجهل – وبكل مشتقاتها- إلا مرة واحدة، جاءت ليصف بها الحق سبحانه وتعالي قوم لوط الذين عُرفوا بأخس الأعمال وأنكرها، في حين أن كلمة العلم بمشتقاتها تكررت في هذه السورة ثلاثة عشر مرة . وقد جاء ذكر هذه الكلمة في اسم من أسماء الله الحسني ورد في مقدمة هذه السورة، وتحديدا في الآية السادسة : ((وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم)). والحكيم العليم عندما أراد أن يذكر ما أنعم به علي آل داوود – وهو الذي أنعم عليهم بنعم كثيرة وعظيمة – لم يذكر إلا نعمة العلم : ﴿(ولقد ءاتينا داوود وسليمان علما )﴾، وسليمان عليه السلام لما أراد أن يعدد نعم الله عليه، ذكر نعمة منفردة وهي نعمة العلم، وبدأ بها، في حين أجمل بقية النعم الأخرى، وجعلها في مرتبة ثانية بعد نعمة العلم. ((وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)). فالعلم هو الذي يجعل المستحيل ممكنا، فسليمان عليه السلام عندما طلب أن يؤتي إليه بعرش بلقيس، قُدمت له عروض كان أقواها وأسرعها من حيث التنفيذ العرض الذي قدمه من وصف بالعلم في الآية الأربعين من هذه السورة الكريمة : ((قال الذي عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)). لذلك فنحن لسنا بحاجة لأن نطيل الحديث عن العلم والتعلم. كما أننا لسنا بحاجة لأن نؤكد هنا بأنه لا يمكن الحديث عن أي تنمية، ولا عن أي دولة إسلامية قوية، مادامت الأمية تنتشر في عالمنا الإسلامي، حيث زادت نسبتها علي50٪ في بعض دول أمة النبي صلي الله عليه وسلم، والذي كان أول ما أنزل إليه من القرآن العظيم :((اقرأ باسم ربك)). الوقفة الثانية :- لابد من مشاركة الجميع :- في هذه المملكة العظيمة والسورة الكريمة ذكر الله تعالي مخلوقين صغيرين ضعيفين، أحدهما كان سببا في نجاة أمة من الناس من هلاك أخروي مبين، وثانيهما كان سببا في إنقاذ أمة من الحشرات من هلاك دنيوي محقق. “سبق صحفي” جاء به هدهد:((أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين﴾) و”صفارة إنذار” أطلقتها نملة : ((قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)). مع أنه كان من الأولي، وفق المنطق السليم، أن يأتي بهذا ” السبق الصحفي ” و أن تطلق “صفارة الإنذار” تلك بعض المخلوقات القوية في هذه المملكة العظيمة، كالجان أو الريح مثلا. لقد أطلقت صفارة الإنذار تلك، نملة نكرة، قد تكون من العساكر، وقد تكون من الوصيفات أو الشغالات،لا يهم، فالمهم أن الحكيم العليم لم يعرفها بل تركها نكرة وهو ما يمكن أن نستخلص منه أن إنقاذ أمة ، أية أمة، لا يقتصر فقط على نخبها وقادتها وزعمائها، بل قد يأتي من نكرة من الناس، تماما كما أنقذت نملة نكرة أمتها. وفي ذلك “السبق” وفي تلك “الصفارة ” إشارة واضحة وجلية بأنه لابد أن يشارك الكل صغارا وكبارا، ضعفاء و أقوياء، في بناء الدولة القوية التي نحلم بها. وهنا لابد من الإشارة إلي أننا – وفي أغلب بلدان العالم الإسلامي – نعاني من ظاهرة تناقض تماما هذه الصور الإيجابية التي قدمها لنا الهدهد والنملة. فأغلب حكومات العالم الإسلامي ما تزال عاجزة عن إشراك ودمج نسب هامة من شعوبها في معركة التنمية، فلا يمكن الحديث عن تنمية في بلد لم يزل نصفه، أو ثلثه، أو ربعه، عالة عليه. لابد من إدماج الشرائح المستضعفة والمقصية في مسيرة التنمية وذلك من خلال تعليم الأميين، وخلق مصادر للدخل في الأوساط الأكثر فقرا، حتى تتمكن هذه الفئات الواسعة من المشاركة في بناء الدولة بدلا من أن تظل عالة عليها. والاهتمام بهذه الفئة ودمجها يبقي واحدا من أهم أسرار نجاح التجربة الماليزية، والتي تبقي هي بدورها نموذجا فريدا في عالمنا الإسلامي. ومع أن الحكومات مطلوب منها – وهذا مطلب ملح جدا – أن تخلق بيئة مناسبة لإحداث تغيير في الأوساط الفقيرة، يمكن الفقراء من المشاركة في بناء الدولة، إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأن قرار التغيير لا يمكن أن يتخذه في النهاية إلا الفقراء المستضعفون أنفسهم . ولهؤلاء المستضعفين أقدم مثالين واضحين من عالمنا اليوم لما يمكن أن يفعله “الصغار” لصالح بلدانهم، وذلك بعد أن قدمت مثالين من سورة النمل لما أنجزه “الصغار” في مملكة سليمان عليه السلام . المثال الأول اخترته من الهند، ومن أيام الاستعمار البريطاني، ويتعلق بأقدم أصغر جهاز مخابرات عرفه العالم. هذا الجهاز أسسته طفلة صغيرة، كانت تقود مجموعة من الأطفال الذين يتظاهرون باللعب قرب مواقع الجيش البريطاني، وهم في حقيقتهم يجمعون معلومات قيمة عن هذا الجيش ودون أن يشعر الإنجليز بذلك. ولقد عُرفت الطفلة التي أسست هذا الجهاز الصغير فيما بعد “بانديرا غاندي” .أما المثال الثاني فأقدمه من أمريكا التي كانت قد بهرت العالم منذ أعوام بانتخابها ـ ولأول مرة ـ لرئيس أسود. إن تضحيات الأمريكيين البسطاء هي التي أوصلت رئيسا أسود إلى البيت الأبيض، ومن بين أولئك البسطاء، سيدة سوداء اسمها ” روزا باركاس” رفضت أن تترك مكانها في القطار، كما كان يفعل السود دائما عند حضور البيض . ولقد صرخت يومها تلك السيدة بعبارتها المشهورة : ” لن أترك مكاني، لقد سئمت كل هذا “. الوقفة الثالثة :- العمل ثم العمل ثم العمل :- لم يكن “المؤسس الأول” لهذه المملكة العظيمة يأكل إلا من طعام يده. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :(كان داوود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده) رواه البخاري.فأي دعوة للعمل أبلغ وأشد صراحة من هذه الدعوة التي تركها لنا داوود عليه السلام، ذلك النبي الذي لا يأكل إلا من عمل يده مع أن الله تعالى قد خصه بأن جعل الحديد لينا بين يديه كعجينة الطحين، وقد مكنته هذه المعجزة من أن يؤسس ما يمكن أن نُطلق عليه بلغة العصر، أول مصنع للصناعات الحربية. وقد يكون من الضروري هنا، أن أقدم قصة أعتقد أنها تختزن أشياء كثيرة من أسرار نهضة اليابان التي بهرت كل دول العالم . لقد كان هناك ياباني حلمه الوحيد أن يصنع أول محرك ياباني صغير. ولقد حقق ذلك الياباني حلمه بعد سنوات، وعندما أدار ولأول مرة هذا المحرك أمام الإمبراطور الياباني، علق الإمبراطور قائلا : ” صوت هذا المحرك هو أفضل موسيقى سمعتها في حياتي “. ففي أول سطر من النهضة اليابانية، كان هناك مواطن إيجابي، وسلطة إيجابية. وكانت هناك صناعة، واحفظوها جيدا كانت هناك صناعة، كما كان في “مملكة آل داوود ” صناعة . أما نحن في العالم الإسلامي فأغلب حكوماتنا سلبية، وأغلب مواطنينا سلبي، ولا توجد في بلداننا صناعة، لذلك فلا يمكن أن نتحدث عن نهضة جادة، لأن السماء لا تمطر ذهبا كما قال الفاروق رضي الله عنه، وهي كذلك لا تمطر نهضة، ولا تنمية. نحن هنا لا نطالب بصناعات حربية – وإن كان يشرع لنا ذلك – وإنما نطالب بأن نصنع قليلا مما نستهلك. فأمتنا تأكل مما يزرعه الآخر، وتلبس مما ينسجه الآخر، وتنام علي ما تستورده من الآخر، وحديثا قيل من يصنع لك يصنعُك. لقد ترك لنا داوود عليه السلام دروسا كثيرة سأكتفي هنا بذكر درسين من تلك الدروس: أولهما لفقراء الأمة، وثانيهما لأغنيائها، ولابد من العمل بهما معا لتحقيق أي تنمية. لفقراء الأمة – وما أكثرهم – أقول لا تهجروا العمل، ولا تتكبروا عليه، فقد كان داوود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده. ولأغنياء الأمة أقول: لا تنغمسوا في حياة الترف، والبذخ، وجياع أمتكم كثر، وأعلموا أن داوود عليه السلام –وهو من أنعم الله عليه بنعم كثيرة – كان يصوم يوما، ويفطر يوما. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :(إن أحب الصيام إلي الله صيام داوود وأحب الصلاة إلي الله صلاة داوود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما) متفق عليه. الوقفة الرابعة :- في عالمنا اليوم والذي كثرت فيه الكوارث والأزمات والحروب تقدم لنا هذه السورة الكريمة نموذجين في غاية الروعة للتعامل مع الأزمات. وما قدمته هذه السورة في هذا المجال هو ما يدندن حوله أهل الاختصاص في عالمنا اليوم. النموذج الأول جاء من “مملكة سبأ” والتي استدعت ملكتها أهل الرأي للمشاركة في جلسة ” تشاورية ” أو ” تفكيرية ” لدراسة أفضل السبل للتعامل مع ذلك التهديد الخطير الذي ظهر فجأة من خلال رسالة شديدة اللهجة جاء بها هدهد. الملكة شاورت، وحاورت ، وقدمت سيناريو لما يمكن أن يحدث :((قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)). هذا الأسلوب المتميز مكن الملكة من أن تدير أزمة خطيرة، بطريقة مثلي، جنبت شعبها خسارة دنيوية وأخروية محققة. أما النموذج الثاني فقد جاء من “واد النمل” وهو نموذج يختلف تماما عن النموذج الأول، ففي ” واد النمل” كانت الكارثة وشيكة جدا، وكان الموقف حرجا جدا، ولم يكن هناك متسع من الوقت للتشاور والتحاور. فلو أن النملة التي شعرت بقرب الخطر أخذت تتشاور وتتحاور مع بقية النمل لهلكت وأهلكت معها النمل، لذلك كان من اللازم أن تصدر قرارا عاجلا، دون أن تتشاور مع البقية : ((يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون )). و لقد برأت النملة سليمان وجنوده عندما قالت : ((وهم لا يشعرون))، وكأنها بذلك لا تريد أن تفتح مجالا للنقاش في غير وقته، وهو نقاش قد لا ينتهي إلا بعد هلاك النمل. فلو لم تكن تلك النملة حاسمة في تبرئتها لسليمان عليه السلام لاشتغل النمل بالحديث عن الخطر و عن دوافعه، وربما تحدث النمل عن ” المؤامرة ” التي خطط لها جند سليمان عليه السلام ضد وادي النمل البريء المسالم, وربما هلك النمل ـ وهو يتبارى في الكلام ـ كما يحدث اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية، والتي تواجه ـ عادة ـ التهديدات والأخطار بالمفرقعات الصوتية، وبالقنابل الخطابية، وذلك في الوقت الذي تستسلم فيه لفكرة المؤامرة التي تستحيل مواجهتها. وكخلاصة لهذه الوقفة فيمكن القول بأن الأزمات والكوارث إما أن يكون خطرها لا يزال بعيدا نسبيا، لدرجة تسمح بالتشاور والتحاور، فهنا تكون ” الأيام التشاورية والتحاورية ” هي أفضل السبل لاتخاذ القرار المناسب كما فعلت الملكة “بلقيس”. وإما أن يكون الخطر قد أصبح وشيكا فهنا يجب إطلاق صفارات الإنذار واتخاذ القرار العاجل كما فعلت النملة في وادي النمل. ولأننا في العالم الإسلامي – وهذه واحدة من مصائبنا الكثيرة – لا نشعر بالأزمة أو الكارثة إلا بعد أن يكون خطرها قد أصبح وشيكا، مما يعطي لأصحاب القرار المبرر لاتخاذ قرارات عاجلة، دون أي تشاور أو أي تحاور كما فعلت النملة في وادي النمل، ولأننا كذلك، فمن الضروري أن نشير إلى أن النملة قد اتخذت قرارها العاجل، لأنها كانت تعلم أن هناك نظام وقاية وحماية أعد سلفا، وهو نظام متكامل وفعال ضد الكوارث الطبيعية والتهديدات الخارجية. والنملة عندما طلبت من النمل أن يدخل في مساكنه كانت تعلم سلفا بأن في وادي النمل توجد مساكن كافية وقادرة لأن تكون ملاجئ واقية ضد الخطر القادم.أما في عالمنا الإسلامي فليست هناك بنية تحتية يمكن اللجوء إليها في ساعة الخطر، كما أنه لا توجد أنظمة وقاية أو حماية ضد التهديدات الخارجية ولقد أثبت تعاملنا مع الكوارث والأزمات تلك الحقيقة المرة. وعموما فعلي حكوماتنا وشعوبنا أن يتعلموا من النمل دروسا أخري غير الانفراد باتخاذ القرار في أوقات الكوارث والأزمات، ولو أن حكوماتنا وشعوبنا تعلموا من النمل القدرة على ” التخطيط”، و ” التضحية “، و”روح العمل الجماعي “، و ” القدرة العالية علي التنظيم “، و” الإصرار والمثابرة مع القدرة علي الاستمرار” لكان حال عالمنا الإسلامي يختلف تماما عن حاله اليوم. ويكفي أن نعرف بأن النمل يمتلك قدرة عجيبة في تحديد الجهد اللازم لإنجاز أي عمل، فهو لا يبذر الطاقات من أجل انجاز عمل تافه. كما أنه لا يبخل بتلك الطاقات عندما يكون أمام عمل عظيم يستحق أن تبذل من أجل الجهود. ففي تجربة مثيرة لأحد دارسي النمل، تمت تغطية قطعتين من مادتين مختلفتين بالسكر، وكان وزن إحدى القطعتين يضاعف وزن الثانية ثلاث مرات، في حين أن الحجم كان متساويا. لقد جاءت النملة التي اكتشفت القطعتين بتسع من النمل لحمل القطعة الخفيفة، وبسبع وعشرين نملة لحمل القطعة الثقيلة!!! فليتنا تعلمنا من النمل هذه الخاصية، فكم من أمور تافهة استنفرت لها الدول الإسلامية وبُذِّرت من أجلها الطاقات والجهود؟ وكم من أعمال عظيمة بُخِل عليها بتلك الطاقات والجهود؟ وعلى الشعوب في الإسلامية أن تتعلم من النمل ضرورة محاسبة ومعاقبة كل من يعطي وعودا زائفة، سواء كان من يعطي تلك الوعود الزائفة سياسيا أو حاكما. لقد ذُكر أن رجلا وضع قطعة من الحلوى على طريق نملة فلما رأت النملة قطعة الحلوى سارعت إلى إرسال إشارة إلى باقي النمل كي يأتي ليشاركها في هذه القطعة،ولكن ما كاد النمل يقترب من قطعة الحلوى حتى قام الرجل بسحبها. بحث النمل عن القطعة، ولكنه لم يجدها، فما كان منه إلا أن غادر المكان، ولكن النملة التي جاءت بالبشرى بقت في المكان للحظات، وهي لحظات استغلها الرجل ووضع قطعة الحلوى من جديد، فرحت النملة بذلك وزفت البشرى من جديد للنمل الذي جاء مسرعا، ولكن الرجل كرر فعلته، وسحب قطعة الحلوى من قبل وصول النمل إليها. عاد النمل وبقت النملة في المكان محتارة من الأمر. وللمرة الثالثة أعاد الرجل القطعة لمكانها، وللمرة الثالثة زفت النملة البشرى للنمل، وللمرة الثالثة جاء النمل مسرعا ولكنه لم يجد شيئا، ولكن النمل في هذه المرة، وبدلا من يعود من حيث أتى، اتجه إلى النملة التي خدعته لثلاث مرات ليهجم عليها وليقتلها شر قتلة. وفي ختام الحديث عن مملكة آل دواود العظيمة فلا بد من الإشارة إلى أن هذه المملكة العظيمة كان قد تم خرابها ـ بعد عام من موت سليمان عليه السلام ـ على يد نملة من النمل الأبيض (الأرضة ) المعروف بفساده وإفساده، وربما يكون في ذلك إشارة إلا أن الدول العظيمة قد يأتي خرابها بأفعال بسيطة من أعداء صغار لم يكن يحسب لهم أي حساب. يقول الله تعالى في سورة سبأ : ((فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)). فلولا تلك النملة التي خربت العصا التي كان يستند عليها سليمان عليه السلام، لما سقط سليمان عليه السلام، ولما علمت الجن والشياطين بموته، وبنهاية ملكه. وقد لا يكون من المناسب أن أختم هذا الحديث دون أن أعود إلي مقارنة عجيبة وعميقة تركها لنا سليمان عليه السلام، وهو الأولي من غيره بأن يقوم بتلك المقارنة. لقد قارن هذا الملك النبي بين أعظم ملك دنيوي، وأبسط عمل أخروي: لتسبيحة واحدة في صحيفة المسلم خير مما أوتي آل داوود. ولقد صدق سليمان عليه السلام فقد زال ملكه العظيم، وبقيت تسبيحاته في صحيفته فسبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم ، سبحان الله العظيم . ـــــ * هذه الورقة تم نشرها في أوقات سابقة، وأعدتُ نشرها في هذه المساحة استجابة لتعهد سابق بتخصيص جزء من هذه المساحة لمقالات تنموية وأخرى في العمل الخيري