اروقة العدالة (الحلقة 1)
مرة أخرى، أعود إلى مرافعاتي من أجل عدالة مستقلة. أعود إلى كفاحي الأبدي من أجل عدالة منصفة، لأن الاستقلالية والإنصاف يشكلان المبدأين الأساسيين لأي نظام قضائي. إنهما يضمنان للمتقاضين أنّ فعل المقاضاة لا تحدده إلا الأدلة خارجا عن كل ضغط وكل حكم مسبق.
إن التزامي الدائم لصالح عدالة ذات مصداقية يعد طموحا لدولة القانون من أجل سيادة الحق الذي يعتبر وضعا قانونيا يجد فيه كل إنسان حقوقه وأيضا واجباته التي تفرض عليه الانصياع لاحترام القانون، وذلك بدءًا بالانسان العادي وانتهاء بالقوة العمومية (عادة ما نقابل مفهوم دولة القانون مع مفهوم منطق القوة). لقد طالبت على الدوام بعدالة تضمن مكانة مركزية بحجم مهمة القاضي. أليس هو من تقتضي مهمته السامية الفصل في النزاعات وحماية المواطنين من انتهاك حقوقهم وحرياتهم ضد أي تغطرس من السلطات العمومية؟ ألا يعتبر الحامي الطبيعي للحريات الفردية في مواجهة السلطات العمومية بوصفه واحدا من أهم آليات إقامة دولة القانون بتجسيده لهيئة محايدة سياسيا ومستقلة هيكليا ونزيهة أخلاقيا؟. لقد وجهت هذه الدعوات العلنية من أجل إرادة سياسية جلية تعمل على إقامة عدالة مستقلة ومحايدة وذات مصداقية عمليا، وليس فقط نظريا. والحقيقة أنه لا يوجد، تقريبا، دستور في البلدان الإفريقية لا يعتمد اليوم جهازا قضائيا مستقلا نظريا. حتى ولو اعتـُـبر تارة أقل أهمية من السلطات الأخرى (التشريعية والتنفيذية) إلا أنه يحظى بالاعتراف به كجهاز ضروري لكل نظام ديمقراطي. إذا كانت حججي الدائمة، المتمثلة في إبراز مزايا العدالة الحقة في مجال الاستقرار والسلم الاجتماعي والديمقراطية، لم تستطع إطلاق مسلسل إصلاح عدلي طال انتظاره، فسأستخدم، لبلوغ نفس الأهداف، حججا أخرى: اقتصادية هذه المرة. أذكـّر السلطات العمومية أن إصلاح العدالة وضمان استقلاليتها وفعاليتها ونزاهتها وحيادها، يعتبر اليوم أفضل وسيلة لضمان التنمية الاقتصادية في البلاد. والحقيقة أن التنمية الاقتصادية لأي بلد ترتبط أكثر فأكثر ببيئته القضائية وحكامته. فمن أجل تنمية اقتصادياتها، لم تعد الدول بحاجة لمصادر طبيعية أو للعون، بل يكفيها اليوم مناخ سياسي واجتماعي وأمني هادئ، وبالأخص مناخ قضائي مُطـَـمْــئن لجلب التمويلات. هناك ما ندعوه اليوم بـ”التمويلات المبتكرة” التي لا تتطلب أكثر من بيئة قانونية حامية. يتعلق الأمر، من بين أمور أخرى، باستثمار رأس المال. فاستثمار رأس المال، الذي يعد نشاطا أساسيا لكل اقتصاديات السوق بغية تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، يعتبر أيضا شراكة في القطاعين العام والخاص. هذه الشراكة عبارة عن نمط تمويل تلجأ فيه السلطة العمومية إلى خصوصيين من أجل تمويل وتسيير جهاز يضمن أو يساهم في الخدمة العمومية. إن هذه الأنماط من التمويلات تنحو اليوم إلى أخذ الأسبقية على العون العمومي. والدول التي أطلقت، بنجاح، إصلاحا في نظامها القضائي أصبحت اليوم وجهة مفضلة للتمويلات. متى، إذن، سيبدأ إصلاح العدالة في موريتانيا؟ وكيف أن أية مبادرة لإصلاح هذا القطاع لم تر النور منذ سنة 2008؟ ليست القضايا المتعلقة بخراب قطاع العدالة وتبعيته بالجديدة طبعا، بل إنها تتكرر. لكنه آن الأوان لإقناع السلطات العمومية بضرورة أن تقوم بعمل ما في هذا الاتجاه، وأن تتخذ مبادرات معينة، لأن العدالة المتعطلة أصبحت ظاهرة قائمة لا يلوح لها مخرج في الأفق القريب. الأستاذ أحمد سالم ولد بوحبيني