ولو بشق تمرة (2/5) / محمد الأمين ولد الفاضل
لقد أصبح الكثير من المسلمين يعتقد بأن العمل الخيري بصفة عامة، والإنفاق بصفة خاصة عبادة تخص الأغنياء دون الفقراء، ونظرا لذلك الاعتقاد فإنه قد يكون من المهم التوقف مع حادثتين أو مشهدين في سيرة رسولين من أولى العزم من الرسل. المشهد الأول يأتينا من مدين، أما الثاني فإنه من مكة.
المشهد الأول: يتعلق بلحظة قدوم موسى عليه السلام إلى مدين وهو خائف يترقب، في تلك اللحظة كانت جموع من الناس قد اجتمعت عند بئر مدين. وكان موسى عليه السلام يعاني لحظة قدومه إلى مدين من الجوع والخوف والغربة، وكانت همومه في ذلك اليوم لا تقاس بهموم غيره، إلا أنه ورغم ذلك لم يتوقف عن البحث عن المهمومين والضعفاء لكي يعينهم، وكأنه بذلك قد أراد أن يعقد صفقة مع رب العالمين، وهي صفقة لا يمكن لها أن تكون بأي حال من الأحوال صفقة خاسرة، لا في الدنيا، ولا في الآخرة. فماذا لو عقدنا ـ الفقراء من قبل الأغنياء ـ صفقات مشابهة، وتركوا مثلما فعل موسى عليه السلام همومهم الخاصة لرب العالمين، لينشغلوا قليلا بهموم غيرهم من المستضعفين ، حتى ولو كانت تلك الهموم أقل إلحاحا من همومهم الخاصة؟ قال الله تعالى في سورة القصص ((وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24). صدق الله العظيم. المشهد الثاني : بعد نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب النبي خديجة بعد نزول الوحي (والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). بهذه الكلمات ردت أمنا خديجة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم لما حدثها عن الملك الذي نزل عليه بغار حراء، ولما عبر لها عن خشيته فقال عليه الصلاة والسلام : ((لقد خشيت على نفسي)). وما قالته خديجة رضي الله عنها، يؤكد أن النبي صلي الله عليه وسلم ومن قبل أن يوحى إليه، كان مشغولا ـ رغم فقره ـ بالعمل الخيري و بمد يد العون للغير. فولم يقتصر الإنفاق في أوقات الشدة والفقر على الأنبياء فقط. فقد قدم الصحابة دروسا رائعة في مجال الإيثار: مجاهدون في سبيل الله وفي رمقهم الأخير يتدافعون شربة ماء ، كل منهم يريد الآخر أن يشرب أولا ، حتى استشهدوا الثلاثة. فقير آخر من الصحابة يبادر بالتصدق قبل أغنياء الصحابة، وآخر يستدعي الضيوف إلى بيته رغم أنه لم يكن يملك من الطعام إلا ما يسد به رمق أبنائه. أما أمنا زينب بنت جحش رضي الله عنها، فكانت تعمل بيديها الشريفتين لكي تَكْسِبَ مالا تتصدق به على الفقراء . فلم يكن غريبا إذاً أن يُنافس فقراء الصحابة أغنياء الصحابة في الإنفاق، لأنهم كانوا يعلمون أن أعظم الصدقات أجرا، هي تلك التي يتصدق بها المتصدق وهو يخشى الفقر. ولأن البعض قد يقول بأن تلك القصص الرائعة، في مجال الإنفاق التي قدمها الصحابة رضوان الله عليهم، لم يعد بالإمكان تقديمها في عصرنا الحاضر. لأولئك أقدم مثالا أحب دائما أن أتحدث عنه، وهو ليس بالمثال اليتيم ولا بالمثال القديم جدا: ذكر “أورخان محمد علي” في كتابه “روائع من التاريخ العثماني” قصة أغرب اسم جامع في العالم. وهو جامع صغير في منطقة “فاتح” في اسطنبول اسمه باللغة التركية : “صانكي يدم” أي: “كأنني أكلت” أو “افترض أنني أكلت”. ووراء هذا الاسم الغريب، قصة غريبة طريفة، وفيها عبرة كبيرة. يقول “أورخان” : كان يعيش في منطقة “فاتح” شخص ورع، اسمه “خير الدين كججي أفندي” ، وكان صاحبنا هذا عندما يمشي في السوق ، وتتوق نفسه لشراء فاكهة، أو لحم، أو حلوى، يقول في نفسه : صانكي يدم.. كأنني أكلت.. ثم يضع ثمن تلك الفاكهة أو اللحم أو الحلوى في صندوق له. ومضت الأشهر والسنوات، وهو يكف نفسه عن كل لذائذ الأكل، ويكتفي بما يسد رمقه فقط . وكانت النقود تزداد في صندوقه شيئا فشيئا، حتى استطاع بهذا المبلغ الموفر القيام ببناء مسجد صغير في محلته. ولما كان أهل المحلة يعرفون قصة هذا الشخص الورع الفقير، وكيف استطاع أن يبني هذا المسجد، أطلقوا على الجامع اسم : جامع صانكي يدم، أي كأنني أكلت، أو أفترض أني أكلت وهذا الجامع لا يزال موجودا حتى الآن. الملاحظة الثانية : إن الكثير من أوجه العمل الخيري قد لا تحتاج أصلا إلى المال، مما يفتح المجال واسعا للفقراء. فمن بين أولئك الذين دخلوا الجنة بسبب عمل خيري ، كان هناك من قدم عملا لا يحتاج لمال، فكنس مسجد، أو إزالة جذع شجرة عن طريق المسلمين، أو وسقي كلب ، هي من الأعمال التي لا تحتاج لإنفاق مال. حفظ الله موريتانيا..