هؤلاء كانوا وراء أحداث الأمس- رأي
أحداث الأمس كانت أحداثا مقلقة، وهي تستحق منا جميعا أن نتوقف عندها بشيء من الحكمة حتى نستخلص منها الدروس والعبر. إن ما حدث يوم أمس ينذر بشر قد اقترب، ولذلك فإنه علينا أن نتعامل معه بأساليب جدية ومختلفة عن أساليبنا المعهودة.
ما حدث يوم أمس لم يكن يتعلق فقط بمحاولة اغتصاب أرض خاصة من طرف مواطنين فقراء أعقبتها عملية اعتداء على حافلات وسيارات تملكها الدولة وخواص، هذا فضلا عن الاعتداء على عناصر من الشرطة..كان هناك شيء من هذا، ولكن هذا وحده لا يكفي لتفسير ما حدث في آخر أربعاء من شهر رمضان. وما حدث يوم أمس لم يكن ـ في المقابل ـ يتعلق فقط بمحاولة ترحيل أسر فقيرة ورميها مع ممتلكاتها المتواضعة في الشارع كما حاول البعض أن يصور الأمر، ويؤسفني حقا أن بيان ميثاق لحراطين سار في هذا الاتجاه . لقد جدث شيء من ذلك، ولكن ذلك لا يكفي لوحده لتفسير ما حدث. ما حدث يوم أمس أظهر واحدة من مشاكلنا العويصة، لقد نظر كل واحد منا إلى الحدث من زاوية معينة، وتعمد ـ لسبب أو لآخر ـ تجاهل كل الزوايا الأخرى.
إن هناك جهات عديدة شاركت في صنع أحداث الأربعاء، تجب محاسبتها، ولكن من قبل تحديد تلك الجهات فإنه قد يكون من المهم أن نعيد النظر إلى تلك الأحداث المقلقة من عدة زوايا، وذلك حتى تكتمل لنا الصورة.
1 ـ إن القطعة الأرضية التي كانت مسرحا لأحداث الأربعاء هي ملكية خاصة لصاحبها، ولا يجوز بالتالي حرمانه من استغلال ملكيته، وهذه مسألة ليست محل خلاف، ولكن ذلك لا يعني بأن طريقة تملكها في الأصل كانت قد تمت بطرق شفافة، ولا يعني أيضا بأنها قد استخدمت في المشروع السياحي الذي منحت أصلا من أجله.
2 ـ إن الأسر الفقيرة والهشة التي احتلت هذه القطعة الأرضية منذ ما يزيد على عقد من الزمن احتلتها وهي تدرك بأنها ملكية خاصة، ولقد استأذنت طلائع الأسر الوافدة مالك القطعة فإذن لها بالسكن في أرضه، ولكن، ومع مرور الوقت، فقد أصبحت بعض الأسر تعتقد بأن الأرض قد أصبحت ملكا لها، أو على الأقل بأنها تسكن في “كزرة” كغيرها من الأراضي العامة “المكزورة”، ولذلك فمن حق “الكازرين” أن توزع عليهم تلك الأرض أو يتم تعويضهم عنها بقطع أرضية مناسبة، ونتيجة لتلك النظرة فقد أقام “الكازرون” محظرة في القطعة الأرضية لتعليم أبنائهم، ومصلى لأداء صلواتهم الخمس.
3 ـ على الرغم من تلك النظرة الخاطئة لدى بعض الأسر فقد ظلت جميع الأسر على استعداد لترك القطعة الأرضية لصاحبها، ولكن مقابل توفير قطع أرضية بديلة، ومقابل تعويضات مالية، وذلك بحجة أن أرباب تلك الأسر فقراء، وأن مصادر رزقهم قد أصبحت مرتبطة بالأعمال والخدمات التي يقدمونها لسكان الحي الراقي الذي توجد به تلك القطعة الأرضية.
4 ـ لقد تم استغلال الأسر الفقيرة التي تسكن في هذه القطعة الأرضية في حملتين انتخابيتين من طرف الحزب الحاكم، وتم وعد تلك الأسر من طرف مرشحي الحزب الحاكم بتوفير قطعة أرضية لكل أسرة في حالة التصويت للحزب الحاكم، ولكن ذلك الوعد لم يتحقق، على الرغم من التصويت لمرشحي الحزب الحاكم، وعلى الرغم من فوز أولئك المرشحين.
5 ـ تعرضت بعض الأسر الأكثر فقرا والأكثر هشاشة لاستغلال آخر من طرف ممثليهم، والذين كانوا يفاوضون السلطات ومالك القطعة الأرضية باسم سكان القطعة الأرضية المحتلة، ولقد تعهد مالك القطعة بمنح مساعدة مالية قدرها 12 مليون أوقية، وقد استلم ممثلو الأهالي نصف المبلغ (بعض الممثلين ليس من سكان القطعة الأرضية المحتلة)، كما منحت السلطة عددا من القطع الأرضية. ذلك المبلغ وتلك القطع الأرضية ستستفيد منه أسر من داخل المجموعة وأخرى من خارجها، في حين سيتم حرمان بعض الأسر الأكثر فقرا والأكثر هشاشة داخل المجموعة.
6 ـ ممثلو الأسر الفقيرة اتفقوا مع السلطات ومع المالك على إخلاء القطعة الأرضية مع نهاية السنة الدراسية، ولكن بعض الأسر لم تكن على علم بذلك الاتفاق، وهي لم تستفد أصلا لا من التعويضات المالية، ولا من القطع التي منحتها السلطة.
7 ـ السلطات الإدارية وصلت يوم الأربعاء لتنفيذ اتفاق كان يقضي بحصول كل أسرة على قطعة أرضية وعلى إعانة مالية متواضعة تعينها على الرحيل، هذا عن السلطات الإدارية . أما عن الأسر فإن البعض منها قد استفاد من ذلك الاتفاق بالحصول على قطعة أرضية وعلى مبلغ مالي متواضع، في حين أن البعض الآخر لم يكن على علم بالاتفاق، ولم يحصل على قطعة أرضية ولا على أي مبالغ مالية، ولذلك فقد فوجئت بعض الأسر التي لم تكن على علم بالاتفاق بالشروع في عمليات الترحيل، وهو الشيء الذي جعلها ترفض عملية الترحيل.
8 ـ بعد ذلك تدخلت عناصر من خارج المجموعة، واستغلت الموقف لإحداث فوضى يبدو أنها قد خططت لها بشكل جيد، فقامت بالاعتداء على عناصر من الشرطة، وقامت بحرق حافلات وسيارات، بل وقامت بالاعتداء على سيارات يملكها مواطنون عاديون لا صلة لهم بالأحداث سوى أنهم وجدوا في المكان الخطأ وفي التوقيت الخطأ.
هذه صورة سريعة من المشهد، ومن مختلف الزوايا، والآن دعونا نتحدث عن المسؤول المباشر عن أحداث الأمس:
أولا / السلطة : تتحمل السلطة جزءا كبيرا من المسؤولية، وذلك بسبب أنها تأخرت كثيرا في التعامل مع هذا المشكل (لما يزيد على عقد من الزمن)، وهي لم تفكر في حله لأن هناك ما يزيد على أربعمائة أسرة فقيرة تسكن بطريقة غير لائقة في حي راق، ولا لأن هناك مواطنا موريتانيا تم الاستيلاء على ملكيته الخاصة..السلطة لا يهمها أمر الأسر الفقيرة، ولا المالك الغني، ولذلك فقد تأخرت كثيرا في حل المشكل إلى أن أقترب موعد تنظيم القمة، فسارعت ـ من أجل عيون ضيوفها لا من أجل عيون مواطنيها ـ إلى أن تبعد منظرا غير لائق حتى تقع عليه نظرات ضيوفها الكرام.
ولو أن السلطة كان يهمها حال المواطنين لحلت هذا المشكل منذ سنوات، فالأمر يتعلق بأقل من خمسمائة أسرة فقيرة، لا تريد الواحدة منها إلا قطعة أرضية مع تعويض مالي قليل يعينها على تعويض الخسائر التي ستتكبدها بعد الابتعاد عن مصدر رزقها ..فلماذا لم تتدخل وكالة التضامن التي تبتلع ميزانيتها المليارات من الأوقية؟ تصورا مثلا لو أن الرئيس زار هؤلاء الفقراء في أقبيتهم، كما زار ذات يوم مقر التلفزة، وتصوروا أنه تبرع لأسرة من تلك الأسر الفقيرة بمال وطلب من رجال الأعمال وكبار الموظفين أن يتبرعوا بأموال لبقية الأسر، مثلما فعل ذات يوم مشهود لفريق “المرابطون” (بالمناسبة ماذا فعل الله بالتبرعات التي تم جمعها للمنتخب الوطني؟) . لو أن الرئيس فعل شيئا من ذلك لكانت كل أسرة من تلك الأسر الفقيرة تمتلك اليوم قصرا مشيدا من صدقات الرياء التي سيتنافس فيها رجال الأعمال وكبار الموظفين.
السلطة أيضا تتحمل المسؤولية لأنها تركت المرشحون باسم حزبها الحاكم يستغلون معاناة تلك الأسر الفقيرة، فوعدوهم ومنوهم بقطع أرضية إن صوتوا لحزب الدولة، وهو الوعد الذي لم يتحقق أبدا. كما أن السلطة تتحمل أيضا المسؤولية، وذلك بسبب أنها لما حاولت أن تجد حلا نهائيا لهذا المشكل تركته بيد “موظفين مفسدين” حرموا بعض الأسر الأكثر فقرا في المجموعة، وسمحوا باستفادة أسر من خارج المجموعة.
ثانيا/ عناصر متطرفة: لقد استغلت بعض العناصر المتطرفة والمنظمة تنظيما لافتا، والتي يبدو أنها خططت بشكل جيد لاستغلال هذا المشكل في إثارة الفوضى، وفي الاعتداء على ممتلكات عامة وخاصة. هذه العناصر التي استغلت الموقف لإحداث فوضى يجب كشفها من طرف السلطات، حتى وإن كانت البصمة التي تركتها تلك العناصر توحي بأن تلك العناصر تتبع لحركة معينة سارع بعض مدونيها يوم أمس إلى نشر منشورات تدعو إلى الفتنة والانتقام .
المقلق في الأمر أن هناك صلات قوية تربط السلطة الحاكمة بهذه الحركة المتطرفة، ولقد كشف أحد المنشقين أخيرا من هذه الحركة حجم العطايا والامتيازات التي كان تمنحها السلطة لقيادات هذه الحركة، ويكفي أن نعرف بأن أول إفطار تنظمه هيئة الرحمة خلال شهر رمضان الكريم كان لصالح من يطلقون عليه فقيه الحركة، والذي تعود على أن يتلفظ بعبارات تصطك من سماعها الآذان، وأن ينشر في صفحته مناشير تدعوا وبشكل صريح إلى الفتنة. لقد قلتها مرارا وتكرارا من خلال تتبع خيوط العلاقة الغامضة التي تربط بين السلطة القائمة وهذه الحركة المتطرفة. إن السلطة وهذه الحركة وجهان لفتنة واحدة.
ثالثا/ ممثلو الأسر الفقيرة : لقد ظهر أن أغلب هؤلاء هم مجرد سماسرة استغلوا الملف لتحقيق امتيازات خاصة على حساب المستهدفين، واكتفوا بتقديم بعض الفتات لبعض الأسر التي قد تكون مشاغبة، وقد تثير ضجة عندما يتم حرمانها.
إن هناك أطرافا أخرى شاركت في صنع أحداث الأربعاء، لا يتسع المقام للحديث عنها، ولذلك فإني سأكتفي هنا بأن الفت انتباه السلطة والحركات المتطرفة بأن اللعب بمثل هذه القضايا قد يؤدي إلى دخول البلاد في فتنة سيتضرر منها الجميع.
إن ما حدث في آخر أربعاء من شهر رمضان ينذر بشر قد اقترب إذا لم تسارع السلطة بالعمل على جبهتين:
ـ أن تعمل بجد ـ لا بالشعارات ـ على مكافحة الفقر، وعلى تحقيق عدالة اجتماعية، تستفيد منها الشرائح الأكثر فقرا.
ـ أن تبتعد عن صناعة الحركات متطرفة، وعن دعم تلك الحركات بأساليب سرية من أجل تحقيق مكاسب آنية ..إن المخاطر التي قد تترتب على مواصلة مثل ذلك العمل قد تؤدي إلى نتائج وخيمة لن يسلم من ضررها أي أحد.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل