ذكرى محمد باهي .. خواطر حول الذكرى والتذكر
تحل الذكرى العشرون على رحيل باهي محمد حرمة (الصورة)، الكاتب الصحافي الشهير والأديب المبدع… وإن أصدق ما تمتحن به الأمم الحية أن تعرف الفضائل التي يزنون بها مقادير الرجال.. لقد انصرمت عشرون سنة على رحيله المفاجئ الذي ترك حزنا عميقا في نفوس محبيه من أصدقائه وقرائه في المغرب والمشرق..
ولعل ما سيميز احتفالية هذه السنة (2016) لفت الوفاء من “حلقة أصدقاء محمد باهي”، نذكر منهم صديقه “مبارك بودرقة”؛ حيث سيتم تقديم أربعة كتب تضم المقالات الكاملة التي كان ينشرها المرحوم باهي في جريدة الاتحاد الاشتراكي تحت عنوان “رسالة باريس” ما بين 1986-1996. وصفوة القول إن نشر هذه المقالات يعتبر إنجازا ثقافيا وفكريا مهما، سيستفيد منها الباحثون وطلاب العلم من مختلف المشارب والتخصصات. وإذا كانت فضيلة الشيء لا تكمل إلا بحصول ثمرته وثمرة الصداقة والوفاء، فإن هذا العمل ينبع من خصلة الوفاء وخصلة الاعتراف والإنصاف. لقد أسهم الرجل بكتاباته في إغناء الحقل الصحافي، وبمقالاته البليغة الثرية ذات التوجه الوطني التحرري في تجديد الفكر السياسي… -2- لعل الذين كتبوا عن ” الباهي” بعد رحيله، حاولوا الإحاطة ببعض جوانب شخصيته المتعددة والأسطورية والشاعرية في الآن نفسه… ورغم أن الكتابات التي تناولت شخصيته أو سيرته ألقت الضوء على بعض الزوايا والأبعاد، خاصة ما يتعلق منها بالجانب الصحافي، والسياسي، والنضالي من مكونات الشخصية، وكذلك ارتباطاته بأحداث عصره، وتأثيره في الحركات السياسية في المغرب والمشرق، فإن الرجل المتعدد الأبعاد في أي عصر من العصور غالبا ما تحيط بشخصيته جملة من الألغاز تحول دون تفسير مكنوناتها، وسبر أغوارها والإلمام بأطرافها ومحطاتها المتناثرة عبرة الأزمنة والأمكنة .. مما يتطلب منهجا جديدا يدرس أسرار النفوس والضمائر ويعالج المشاعر والأحاسيس، ويغوص في أعماق الشخصية للتعرف على أطوارها ومدى تأثير صاحبها في أحداث عصره أو تأثره بها. الأمر الذي يتطلب طرح جملة من الأسئلة على مسار الرجل ومساءلة انشغالاته والصراعات التي انخرط فيها والهموم التي لازمته والقضايا التي ناضل من أجلها، والأحلام التي قضى نحبه وفي نفسه غصة من عدم إمكانية تحققها، وكأنها السراب، الذي يحسبه الظمآن ماء.. -3- لقد تربى الفتى الشنقيطي “باهي محمد حرمة” في مضارب قبيلته ومرابع أهله وعشيرته من الأشراف العلويين الذين استوطنوا في منطقة “القبيلة” قادمين من مدينة ” شنقيط” التاريخية .. استقروا وعاشوا بالمنطقة عيشة البداوة والتنقل بين أطراف هذه الصحراء المرابطية الشاسعة. في هذه المواطن ترعرع الشاب “باهي” وتشبع بثقافة المحاضر (أو الجامعات المتنقلة) الأدبية والدينية…، فحفظ القرآن الكريم والمتون الفقهية وأشعار العرب في الجاهلية والإسلام .. وتملك ناصية اللغة، ومن ملك ناصية اللغةـ فقد ملك العلوم كلها، مالكا لزمام الكتابة والإبداع ، إذا أنشد المنظوم أو درس القصص… كان الفتى “باهي” حاد الذكاء متقد القريحة، شغوفا بالعلم والتعلم، واسع الإطلاع. لم تكن البيئة الصحراوية المحافظة قادرة على أن تلبي طموحات شاب في العشرينات من عمره، يريد أن يحلق بعيدا في سماء العالم الجديد الذي انبثق عن الحرب العالمية الثانية، وأن يكون فاعلا ومؤثرا في الأحداث الجارية في محيطه الشمال الإفريقي المغاربي، أو في القارة السمراء التي تشكل العمق الحضاري والجيواستراتيجي للغرب الإسلامي.. في المجال المغاربي كان المغرب قد استقل حديثا وعاد السلطان محمد الخامس إلى عرشه، وفي الجزائر اشتعلت الثورة ضد الاستعمار الفرنسي وازدادت ضراوة و اشتد أوارها… كان الحلم الذي راود “الباهي” في نهاية الخمسينات من القرن العشرين يتمثل في أن يخرج من عالم الصحراء إلى عالم الحضارة، كان العالم من حوله يعج بالأفكار والمعاني، والدعوة إلى التحرر والاستقلال والوحدة. عزم الفتى على مغادرة هذه المرابع الصحراوية المرابطية التي طبعت وصهرت شخصيته وزرعت في أعماقه روح المغامرة والترحال والزهد والترفع من السفاسف والصغائر، كما شحنته بيئته العائلية والعشائرية التقليدية المتصوفة بقوة الصبر والمثابرة والصدق، وجعل المعرفة هي الزاد الذي تدرك به الحقائق ويحصل به الوعي في قضايا الاجتماع البشري. رحل الشاب إلى السنغال واستقر في مدينة “داكار” التي جعل منها المستعمر الفرنسي عاصمة مستعمراته في إفريقيا الغربية L AOF). ). مكث في داكار بعض الوقت، وقد تسنى له لاطلاع على ما يجري من أحداث في الضفة الشمالية للقارة السمراء وعرف أن ابن عمته الزعيم حرمة والد بابانا، النائب السابق في البرلمان الفرنسي والمعارض الشرس للوجود الفرنسي في المنطقة، قد وصل إلى المغرب، قادما من القاهرة والتحق بقيادة جيش التحرير المغربي التي انتقلت من شمال المغرب إلى جنوبه. حسم “الباهي” أمره وبدأ يحضر في سرية تامة للانتقال إلى المغرب، وهنا لا بد من التذكير بأن ساكنة المجال الصحراوي المرابطي تربطهم بالمغرب الأقصى علاقات تاريخية وثقافية وإثنية متجذرة عبر العصور المتطاولة، وبالتالي لم تكن هناك حواجز تحول دون تنقل الأشخاص والقوافل التجارية بين المجال الصحراوي المرابطي والحواضر المغربية، وكان العلماء الشناقطة، بمن فيهم علماء منطقة “القبلة” التي ينحدر منها “الباهي”، ينتقلون بين المغرب والصحراء، ويساهمون في جميع مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية.باعتبارهم مواطنين يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة. “فالباهي” عندما قرر الانتقال إلى المغرب عبر سفينة صيد أبحرت من شاطئ “داخلة نواذبو”، أو ” بور ايتيان” كما كان يسميه الفرنسيون، لم يخامره قط أي شعور بالغربة. فقد انتقل من بقعة من وطنه محتلة إلى وطنه الكبير الذي تخلص حديثا من نير الاستعمار، وكان يرى، رغم حداثة سنه، أن استقلال المغرب سيؤدي حتما إلى تخليص المنطقة من السيطرة الاستعمارية، وأن الوحدة بين شعوب هذه المنطقة تعتبر حيوية ومصيرية وإستراتيجية لحماية الاستقلال، وبناء دوله على أسس متطورة وقوية. كان الشاب “باهي” يحمل في أعماقه سخطا عارما على الاستعمار والتخلف والبداوة والجمود الفكري والاجتماعي. -4- نزل الشاب باهي من السفينة على شاطئ طرفاية، ثم التحق بمدينة “كلميم (وادنون) التي اتخذها جيش التحرير قاعدة له .. اشتغل مدة قصيرة كاتبا لقيادة جيش التحرير، وبعد ذلك التحق بالرباط، وانخرط في عالم الصحافة، ليبدأ فصل جديد من مساره في عالم السياسية والصحافة. حمل الفتى الشنقيطي يراعه، كما يحمل الفارس السيف، وانخرط في معارك عصره الوطنية، والقومية والعالم ثالثية، ولم يكن نضاله منحصرا في مجاله المغاربي أو العربي، بل شمل جميع قضايا التحرر في العالم. وبالتالي يصعب اختزال شخصيته أو حصره في قوالب ضيقة، فلم يكن “الباهي” مجرد صحافي أو كاتب أو سياسي، بل كان بالدرجة الأولى مناضلا يمتلك قناعات فكرية وتوجهات سياسية، وتصورات إيديولوجية راسخة، جعلته مخلصا وصادقا في مساره النضالي، وحاسما في مواقفه، لم يستسلم ولم يساوم ولم يتخاذل وظل نصيرا لقضايا التحرر والتقدم والنهوض والانعتاق من سطوة الظلم والقيود المثبطة للعزائم والمكبلة للإرادات. كان واضحا في اختياراته لقضية الوحدة مؤمنا بها، فهناك تلازم بين الحرية والوحدة، وذلك بفعل جدلية التاريخ وحتمية الجغرافيا. فالوجود التاريخي للمجال الصحراوي المرابطي، تحقق في هذا الإطار، وذلك منذ تأسيس دولة المرابطين. قضى “الباهي” عمره مدافعا عن قضية الوحدة والحرية، منافحا عن قناعاته ووفيا لقيمه، ثابتا على مبادئه، لا يخشى شيئا في تبليغ الرسالة وأداء الأمانة، يصر على شرح الحقائق السياسية والاجتماعية وتصوير الأحداث بأسلوب الباحث الرصين المدقق الذي يجمع بين الفكر والبيان. بعد أربعين سنة من الترحال والنضال في ساحات المعارك الكبرى التي عاصرها، عاد “الباهي” إلى “البيضاء” متخنا بالجراح، تقرأ على محياه معاناة الفارس الذي عاد من ساحة المعركة دون أن يحقق “حلما” من أحلام البدايات، ولكنه ظل مرفوع الهامة، قوي العزيمة، منتصبا رغم الجراح، يصبر على حر اللقاء ومضض النزال ومداومة المراس. -5- دار الزمن دورته، فدالت دول وتبدلت أحوال وكأن مؤذنا قد أذن بنهاية عصر وبداية عصر جديد.. لقد حدثت حوادث وصروف من سلم وحرب ونصر وهزيمة، ودول تعلو ودول تهبط، وعلاقات تتصل وعلاقات تنفصل، وعلاقات تنقلب إلى عداوة وعداوات تنقلب إلى صداقات، وتكرار على نسق الماضي وبدع جديدة كأنها من الماضي المكرر، فما خلا زمن قط من بدع جديدة. ولعل “الباهي” وقف يتأمل هذه التحولات المتسارعة والمهولة، الجارية في نهاية القرن العشرين.. ولعله كان يستحضر ما ذكره ” بديع الزمان” عن طبائع البشر: “كذلك الناس خداع إلى جانب خداع يعيشون مع الذئب ويبكون مع الراعي”.. وكان يردد مع نفسه: الحق أني قضيت ديونكم وأن ديوني باقيات كما هي .. فوا أسفي حتى ما أرعى مضيعا وآمل خوانا وأذكر ناسيا وما زال أحبابي يسيئون عشرتي ويجفونني حتى عذرت الأعاديا. رويدكم لم تسبقوا بقطيعتي صروف الليالي إن في الدهر كافيا. ثم يمضي منشدا من الشعر كما كان يفعل دائما ما يعبر عن مكنونات نفسه: أرى الناس من دناهمو هان عنده ومن أكرمته عزة النفس أكرما وما كل بريق لاح لي يستفزني ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما قل للذي بصروف الدهر عيرنا هل حارب الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر تلوح فوقه جيف وتستقر في أقصى قاعه الدرر ففي السماء نجوم ما لها عدد وليس يكسف إلا الشمس والقمر عاد “الباهي” فوجد أن تغيرا كبيرا قد حدث في المجتمع وفي القناعات والمسلكيات والأخلاقيات، لم يعد “للنضال” أخلاق ! ولم يعد للرفقة والصحبة أمان! يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما ألا قد أرى أن الثواء قليل وأن ليس يبقى للخليل خليل. كذي سفر قد حان منه رحيل فقد خفت أن ألقى المنايا بحسرة وفي النفس حاجة وغليل. كان “للباهي” إشعاع باهر جمع سحر البيان وسعة الاطلاع واستقامة التفكير وبراعة التعبير وحسن الذوق فكان يعمل بكل إيمان من أجل الخلاص من الجهل والتعسف والفقر انطلاقا من الفكر الخلاق والإبداع الرفيع.. كيف أهتدي بالخطوب إذا دجت وقد فقدت عيناي ضوء نجوم سعيت لأحرار الرجال فخانني رجال ولم أنجب نجد عظيم وصدق الشاعر الشنقيطي إذ يقول: هل في بكا نازح الأوطان من بأس وهل لدى رهين الشوق من آس إلى أن يقول: آه! لمغترب بالغرب ليس له جنس وإن كان محفوفا بأجناس! سلام على “الباهي” فقد وفى وصدق ثم مضى.. والصدق فضيلة العظماء.. فله منا الدعاء بواسع الرحمة والغفران .. في عالم الخلود والرجاء.
أحمد بابانا العلوي