من الكتاب الثالث للراحل محمد الباهي
الزمان – خلال الثلاثين سنة الماضية، كان الجيش هو المحرك الفعلي للحياة السياسية، لكنه استطاع أن يظل بعيدا عن الأضواء. أما اليوم، فإن تصاعد العنف يضعه وجها لوجه أمام المجتمع، كما أن الفراغ القانوني الناجم عن وفاة محمد بوضياف، إثر حادث اغتيال ساهم فيه عدد من الضباط للحرس الجمهوري..
يطرح عليه كمسؤولية سياسية مباشرة قد تفرض عليه مراجعة جذرية لأسلوب العمل، ورغم أن الجيش، في كل أنحاء الدنيا بما فيها الجزائر، يعرف بأنه مؤسسة صامتة، ونادرا ما تصل أصداء المناقشات الجارية في صفوفه إلى الخارج، فإن الجيش الجزائري يعيش حاليا جدلا ساخنا، تتردد بعض جوانبه خارج الثكنات. 1992/12/03 يحمل كثير من الناس، منذ لحظة الميلاد، أو حتى قبلها، حسب بعض النظريات «البيو-نفسية»، طباعا مضمرة، كامنة، محتملة التحقق، تأتي لاحقا جملة من الظروف المختلفة، لإنضاجها، في وقت مبكر أو متقدم من العمر، فتعطي لزيد أو عمرو، أو لفلانة أو علانة، وجها يصدم سلبا أو إيجابا، من كانوا يظنون أنهم يعرفون الشخصية المذكورة معرفة جيدة. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن ملابسات الاحتلال الإسباني لشمال المغرب، وبالنظرة الاحتقارية لبعض الموظفين المحليين إلى الأهالي والبنية الاجتماعية للمنطقة، ووزن بني ورياغل فيها ومكانة أسرة بن عبد الكريم داخلها والخلفية التاريخية للصراع المسيحي الإسلامي على الضفتين، كلها عناصر أسهمت في تحويل ابن قاض تقليدي من فقيه مغمور كان مرشحا لأن يتدرج في مناصب إدارية أهلية مثل عدد من معاصريه في ظل الحماية أو في أحسن الأحوال يبقى وجها جهويا خامل الذكر، لتجعل منه قائدا لحركة حرب عصابات ثورية اعتبرها القادة العسكريون والثوار المعاصرون بدءا من ماوتسي تونغ حتى تشي غفارا قدوة مثالية ساروا على منوالها لانتزاع السلطة من خصومهم السياسيين، ناهيك عن مكانتها المركزية في التاريخ المغربي والعربي المعاصر. 1994/12/21 ولعل القارئ سوف يصاب بأول دهشة إذا ما ذكرت له بأن فكرة إجتماع الأحزاب الجزائرية في الخارج، برزت كمشروع عملي لأول مرة، كمبادرة مغربية. إنني أكتب هذه الواقعة من ذاكرتي، وذهني منصرف إلى ذلك البيان الذي أصدرته أحزاب الكتلة الديمقراطية الثلاثة : حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي بالرباط خلال فصل الربيع الماضي (وربما أثناء شهر مارس بالضبط)، ودعت فيه الأحزاب السياسية الجزائرية إلى الإسراع بعقد إجتماع فيما بينها للبحث في وفاق وطني يخرج القطر الشقيق من مخاطر الانزلاق نحو حرب أهلية مدمرة. ليس أمامي ذلك النص حتى أستشهد بكلماته، لكن روحيته حاضرة تماما في وعيي. وأظن أن مشروع دعوة جيراننا الجزائريين إلى ذلك الإجتماع نوقش هنا في باريس خلال واحد من هذه اللقاءات الكثيرة التي تمت بين عدة شخصيات من الكتلة الديمقراطية من جهة وبين الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي والفقيه محمد البصري من جهة أخرى. 18/01/1995 ما زلت أتذكر، كما لو أني رأيتها أمس أو حتى قبيل بضع ساعات فقط، تلك المسيرات الشعبية الحاشدة التي عرفتها الجزائر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن تخوم الشرق إلى ثغور الغرب، خلال فصل الربيع الديمقراطي القصير [أكتوبر 1988 بداية يناير 1992]، ولا تزال ترن في أذني الأصداء البعيدة لذلك الشعار السياسي المركزي : «لا دستور لا برلمان… ميثاقنا هو القرآن». لقد سمعت مئات الشبان والمراهقين يهتفون به في شوارع مدينة مغنية، وظننت وأنا أتمعن في ملامحهم وأنصت إلى هتافاتهم أنهم من بلدة بني يدرار المجاورة. بحكم تشابه السحنات ومخارج الحروف عند سكان جبال بني يزناسن الموجودين على ضفتي وادي كيس، وأنصت إلى مئات الشبان الآخرين يصدحون بنفس الشعار حتى لتكاد حبالهم الصوتية تتقطع من فرط الانفعال في مدينة «سوق أهراس» على التخوم التونسية، وخلتهم أيضا من أهالي مدينة «الكاف» أو من بلدة «ساقية سيدي يوسف» التونسيتين المجاورتين. 01/02/1995 ما معنى «عصر المناطق الرمادية»؟ إنه باختصار شديد مفهوم «زمكاني» ذو طابع إجرائي هدفه إعطاء فكرة عامة جدا، قريبة قدر الإمكان من الواقع، حول وضع تاريخي راهن داخل منطقة جغرافية معينة. المناطق الرمادية بهذا التعريف السريع هي فضاءات جغرافية تعاني فيها الدولة المركزية بما هي تعبير رمزي عن الكيان الوطني، سلسلة من العوائق تحول بينها وبين احتكار مشروعية استعمال العنف لضبط آليات سير المجتمع وتسييره. في مثل هذه الحالة تغلق مساحات كاملة بسكانها ومواردها وولاءاتها ومرجعياتها وتَوَجُّسَاتها من هيمنة الدولة لتسقط تحت سلطة العصابات المسلحة أو المليشيات العرقية أو صعاليك الدرب والحي والقرية أو حتى تحت تسلط قبضة المافيا وصغار المجرمين. المناطق الرمادية بهذا المعنى الواسع موجودة في بقاع كثيرة من العالم وليست خاصية جزائرية، بل ليست حادثا جديدا طارئا وإنما هي معاصرة لنشوء الدولة المركزية في عهد حمو رابي، بل يمكن القول بأن محاولة تنظيم الدولة انطلقت أساسا لاحتواء تلك الظاهرة القديمة. 1995/04/19 في اليوم التالي للغارة الجوية التي قامت بها الطائرات الإسرائيلية على «حمام الشط» في ضاحية العاصمة التونسية ودمرت فيها مقر منظمة التحرير الفلسطينية غضب الرئيس الحبيب بورقيبة غضبا شديدا ما عليه من مزيد. لم يكن الغضب الرئاسي موجها ضد إسرائيل، وإنما ضد القيادة الفلسطينية التي اتُّهمت بأنها قدمت الفرصة للإسرائيليين لمهاجمتها ولم تكن حكيمة بما فيه الكفاية. وفي ثورة الغضب قرر الرئيس التونسي أن يُلقي خطابا رسميا في الإذاعة والتلفزة التونسية يعبر فيه عن موقفه «الرافض للإرهاب». وخوفا من الفضيحة والمضاعفات السياسية ذهبت «الماجدة وسيلة» بعد أن أخفقت في إقناع الرئيس بورقيبة بالعدول عن قراره بمهاجمة الفلسطنيين علنا في الصباح الباكر إلى منزل أحد قادة منظمة التحرير وأيقظته من نومه وقالت له بالحرف : «تعال معي فورا لمقابلة الرئيس بورقيبة قبل أن يعمل المصيبة». ولابد لي من أن أقول بأنني خففت جدا صياغة الكلمات التي نطقت بها «الماجدة وسيلة» أمام المسؤول الفلسطيني وأن أضيف إلى أنني سمعت رواية الحادثة من مسؤول تونسي سابق، المهم أن القائد الفلسطيني رافق السيدة التونسية الأولى إلى منزل الرئيس بورقيبة الذي استقبله بسيل من الشتائم والمسبات في حق السيد ياسر عرفات. 1986/04/30 وقد وصل الصراع الجزائري الليبي حول تونس إلى قمته في الصيف الماضي، وتحديدا في شهر غشت 1985، حينما أقدمت طرابلس على إبعاد أعداد من العمال التونسيين. الطريقة المثيرة التي عالجت بها وسائل الإعلام الغربية والعربية تلك المسألة، حجبت عن الرأي العام بعدها السياسي الواضح. لم ينتبه إلا عدد قليل من المراقبين إلى خطاب هام ألقاه معمر القذافي في تلك المناسبة، وأكد فيه أن الدافع الأول لتصرفه سياسي بالدرجة الأولى وليس اقتصاديا، كما ذهب إلى ذلك أغلب المعلقين. والواقع أن الشائعات عن تدهور الحالة الصحية للرئيس بورقيبة تكاثرت في ذلك الصيف وجعلت العواصم المهتمة بالوضع في تونس وخاصة باريس وواشنطن في الغرب والجزائر وطرابلس في المغرب العربي، تشحذ أسلحتها لوضع أوراقها على طاولة اللعب. 07/05/1986 وبما أن الحياة السياسية معلقة في تونس بما يصدر من كلمات قليلة عن رئيس طاعن في السن، لا تمكنه صحته من تركيز ذهنه طويلا على القضايا المعقدة التي تواجهها الدولة في الظروف الإقليمية والعالمية الجديدة، فإن المؤشر الوحيد على ما يحدث في حقل النشاط الرسمي هو ما يتداول في الدوائر الدبلوماسية وفي أوساط الحاشية أو المقربين من البلاط البورقيبي حول نوايا المجاهد الأكبر، وفي هذا السياق يقال إن الرئيس التونسي الذي يقضي لحظات طويلة يتفرج على نفسه في الشاشة الصغيرة من خلال البرامج اليومية الطويلة التي تقدمها عنه التلفزة التونسية، كان ينزعج كثيرا خلال بعض الأيام حين يشاهد وزيره الأول يأخذ وقتا غير عادي من البث التلفزيوني. إنه أصبح، بناء على ما يمكن لنا أن نستنتجه من مسموعات ومشاهدات العارفين بالأحوال التونسية، يغار حتى من ظله في المرآة. 14/05/1986 ولكن، ما علاقة ذلك كله بإبعاد محـمد مزالي عن رئاسة الحكومة؟ الملفت للانتباه وهو ما يؤكد الطابع المسرحي للعملية أن هذا الرجل الذي كان مرشحا بحكم نصوص الدستور التونسي لخلافة الحبيب بورقيبة قد أقيل من منصبه ببيان مقتضب من جملة واحدة دون أن توجه إليه أية تهمة أو يزجى له شكر. لن نعود في هذه المراسلة إلى الخوض في تفاصيل صراع التيارات والشخصيات والمصالح المحيطة بالرئيس بورقيبة التي سبق لنا أن تناولناها في مقالات سابقة وإنما سنتوقف عند بعض الجوانب المعتمة لإلقاء الضوء عليها. 23/07/1986 ما الذي حدث بالضبط حتى يضطر هذا الرجل الذي كان في قلب الأحداث وبؤرة الأضواء، ومركز الإهتمام داخل بلده وفي العالم العربي، ما الذي حدث ليجبره على التنكر في زي تونسي تقليدي لمغادرة منزله الفاخر في تونس العاصمة، ثم إجتياز الحدود ليلا نحو الجزائر بتلك الطريقة التي اجتازها بها؟ يحاول السيد محمـد مزالي الإجابة عن هذا السؤال في كتيب صغير (مئة وستة وثمانين صفحة) صدر خلال الأسبوع الأول من شهر يونيو الماضي تحت عنوان : «رسالة مفتوحة إلى الحبيب بورقيبة»، عن دار آلان مورو Alan Moreau للطباعة والنشر في باريس. 1987/07/15 على عكس ما جرى في العام الماضي، حيث أعطت بعض المبادرات الصاخبة الانطباع بأن هذا الجزء من العالم العربي مقبل على إعادة صياغة توازناته الإقليمية، فقد حملت التطورات الحاصلة خلال الشهور الأخيرة، خاصة بعد تنحية الرئيس الحبيب بورقيبة من موقعه وحلول الثنائي زين العابدين بنعلي-الهادي البكوش مكانه، كما أَنَّ الطريقة التي استقبل بها الحدث التونسي في كل من طرابلس والجزائر والرباط ونواكشوط، ثم الأولويات التي وضعها المسؤولون التونسيون لأنفسهم وكذلك المطالب الدبلوماسية التونسية الجديدة والانفراج في العلاقات الليبية التونسية، والاتصالات المعلنة وغير المعلنة المستمرة ولو بتعثر بين الرباط والجزائر، وانشغال أغلبية الأطراف بالقضايا الداخلية الملحة، حمل ذلك كله أكثر من مؤشر يبعث على الظن بأن شروط قلب موازين القوى في الساحة المغاربية لم تعد متوفرة وقد لا تكون واردة في جدول الأعمال لفترة قريبة. 1988/02/10 حين تمكن الليبيون خلال الأسبوع الأخير من شهر غشت 1987، من استرجاع واحة أوزو الواقعة في الأطراف الشمالية القصوى لجمهورية تشاد، فإنهم لم يفعلوا شيئا آخر سوى استعادة القسم المأهول من شريط رملي مساحته مائة وعشرين كيلومتر مربع كان الصراع يدور حوله وحول الأراضي المجاورة له غربا وشرقا وجنوبا، بين طرابلس وباريس، منذ أكثر من مائة سنة. عندما يقول العقيد معمر القذافي إن شريط أوزو جزء لا يتجزأ من التراب الوطني الليبي، فهو لا يبتدع موقفا جديدا، وإنما يعبر عن سياسة ليبية قديمة لا تبتعد إطلاقا عن حقائق تاريخية وجغرافية تسندها وثائق معروفة لدى الأطراف المعنية. 09/09/1989 لقد تحولت تشاد بعد إعلان استقلالها مباشرة إلى ساحة النزاع العربي الصهيوني، وكانت إلى جانب أوغندا من أوثق البلدان الإفريقية المستقلة حديثا، علاقة بإسرائيل. الرجل الذي اختاره الفرنسيون ليكون قائدا للدولة الجديدة، وهو فرانسوا طومبلباي، زار إسرائيل عام 1954، أي قبل إعلان «استقلال» تشاد بست سنوات، واستورد بعد توليه مقاليد الحكم خبراء عسكريين إسرائيليين أشرفوا مباشرة على تكوين وتدريب وحدات الشرطة والدرك. كما جلب فنيين زراعيين لدراسة إمكانات تطوير الزراعة ومهندسين جيولوجيين للتنقيب عن النفط واليورانيوم والمناجم الأخرى. الاهتمام الإسرائيلي بتشاد في تلك المرحلة المبكرة من تاريخها كان جزءا من إستراتيجيتها العامة المناوئة للثورة الناصرية في مصر ولعموم الحركة القومية العربية في شمال إفريقيا. 16/09/1987 أكثر من ذلك : فقد أعلن العسكريون التشاديون الحاكمون، وهم كلهم من أصدقاء باريس، أن هذه الأخيرة قدمت الأسلحة بالفعل إلى حسين حبري، وأصدروا بيانا يحظرون فيه رسميا وبصورة احتفالية، على فرنسا أن تتابع مفاوضاتها المباشرة مع المتمردين، وقالوا إنهم سوف يدخلون في مفاوضات شاملة مع جبهة تحرير تشاد، يعالجون ضمنها مشكلة المرأة المخطوفة. وإذن فإن فرنسا التي اعتقدت أن الإنقلاب يعطيها هامش حرية، وجدت جهودها تتبخر فجأة تحت ضغط حلفائها التشاديين، مما جعلها توقف مفاوضتها مع الثوار، خوفا من تدهور أعمق يستفيد منه خصومها الليبيون، الذين بدؤوا في الفترة نفسها يتصلون بالإنقلابيين ويحاولون إقناعهم بالتفاهم مع المعارضة المسلحة. وسوف تعتقد فرنسا، عن خطأ أو صواب، أنها تصطدم بالأصابع الليبية، في محاولاتها الرامية إلى التعامل مع حسين حبري، دون المساس بمواقع نفوذها لدى الطرف الآخر. 1987/09/23 إحدى الفضائح السياسية، إن لم نقل أخطر فضيحة سياسية في عهد الرئيس السابق فاليري جيسكار، كانت من مضاعفات الصراع الذي دار بينه وبين معمر القذافي في تشاد وفي عموم القارة الإفريقية. لقد ساد الإعتقاد داخل الدوائر السياسية والإعلامية في خريف 1979، أن تسريب أنباء نشرتها جريدة «الكنار أنشيني Le canard enchainé»، عن استلام السيد جيسكار ديستان لمجموعة من الألماس والأحجار الثمينة هدية من صديقه الإمبراطور جان بيديل بوكاسا، كان من فعل الليبيين. ومن غرائب السياسة ومفارقاتها أن الجيش الفرنسي، أشرف مباشرة على قلب نظام الإمبراطور بوكاسا في نفس الخريف، وأن أنباء الإنقلاب وصلت إلى بوكاسا وهو يقوم بزيارة رسمية إلى طرابلس بحثا عن مساعدات مالية، بدأت باريس تتردد في تقديمها إليه. 07/10/1987 وكان عدد هذه النخب التي تخرجت من مؤسسات التعليم المختلفة يرتفع باستمرار، بموازاة ارتفاع وثيرة التطور السكاني. ثم جاء «الزلزال السوفياتي» وما رافقه من إنهاء لدور الطرف الآخر في اللعبة الدولية، مؤذنا ببداية مرحلة جديدة في الحياة الدولية. ولقد كان الزلزال السوفياتي، ضربة مزدوجة للأنظمة الإفريقية الحاكمة، سواء منها الليبرالية الموالية للغرب، أو «الماركسية اللينينية» التابعة للشرق. وكانت أغلب الدول الإفريقية، غداة حصولها على الاستقلال، في حقبة الستينات، قد اختارت نظام «الحزب الواحد»، سواء منها تلك التي انتهجت السياسة الفدرالية في المجال الاقتصادي مثل السنغال وكوت ديفوار وزائير والكامرون، أو التي طبقت مبادئ التخطيط المركزي والتأمين الشامل مثل غينيا ومالي وبنين. 25/08/1992 القول بأن المؤتمرات الوطنية هي السبيل الإفريقي نحو التعددية الديمقراطية، فإن الحكومات القائمة لم يكن لديها موقف موحد من الفكرة الجديدة التي بدأت تشق طريقها بقوة في مختلف الأوساط. يمكن تصنيف ردود الفعل الرسمية إلى أربعة مواقف : موقف حاول أصحابه ركوب الموجة مع العمل على الخروج بحد أدنى من الخسائر والاحتفاظ قدر الإمكان بمواقع مؤثرة في السلطة. وتلك هي حال الدول مثل الكونغو والطوغو والزائير. والمقال الحالي مخصص لتجربة الكونغو والطوغو وسوف نعالج تجربة الزائير لاحقا. موقف المعارضة الصريحة والرفض القاطع وتلك هي حال الكامرون وساحل العاج. موقف التظاهر بالقبول ومسايرة التيار ثم تغليطه واستغلاله لتقوية الوضع القائم (وتلك هي حال الغابون). موقف استباق الأحداث وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل موعدها (مثل ما حدث في السنغال وموريتانيا)، لقطع الطريق على دعاة المؤتمر الوطني. 26/08/1992 في ليلة باردة من ليالي شهر دسمبر 1989، شاهد المارشال موبوتو سيسي سيكو، رئيس جمهورية الزائير، وهو جالس بمقعده الوثير بقاعة التلفزة في الباخرة الرئاسية الراسية في عرض نهر الكونغو، أمام مدينة كينشاسا، شاهد مثل غيره من المتفرجين في العالم وقائع محاكمة وإعدام نيكولا شاوسيسكو وزوجته الجميلة إلينا. وبما أن موبوتو صديق شخصي لرئيس رومانيا الذي استضافه ثلاث مرات في بوخارست، ووضع معه برنامج مشتركا لتبادل الخبرات بين البلدين، فقد تأثر كثيرا بما شهده في تلك الليلة أو تطير، وهو المؤمن بالأقدار، من وقوع شيء مماثل له. 1992/08/27 من العبث، كما ذكر لنا معارض زائيري في باريس، محاولة إحصاء عدد «الأحزاب» لأن موبوتو، أصر شخصيا على إفساد اللعبة الديمقراطية، من خلال ما أسمته الصحافة المحلية «التعددية الموبوتوية» وعندما اتخذ المارشال-الرئيس قراره المبدئي بقبول انعقاد المؤتمر الوطني، تقرر في نفس الوقت أن تمثل الأحزاب بالتساوي (أربعة أشخاص لكل تشكيلة سياسية) بصرف النظر عن وزنها الحقيقي في المجتمع. وقد حرص موبوتو ومستشاروه، على تهميش أحزاب المعارضة الحقيقية الكبرى، وهي لا تتجاوز ثلاثة فأغرقوها بإنشاء عدد لا حصر له من التنظيمات الصورية التي أطلق عليها الرأي العام في الحين اسم «الأحزاب الغذائية» 28/08/1992
الاتحاد الإشتراكي