حضور في زمن الغياب/فهمي هويدي
فى الأخبار أن القمة العربية التى انعقدت فى نواكشوط وصفت بأنها «قمة الأمل»، وأكدت فى بياناتها على التمسك بمركزية القضية الفلسطينية فى العمل العربى المشترك، وهو ذات المعنى الذى ردده الأمين العام للجامعة العربية فى خطابه الذى ألقاه أمام وزراء الخارجية قبل القمة. إذ قال إن القضية الفلسطينية تظل القضية المركزية للأمة، التى تحتل «أهمية قصوى» على أجندة الحاضر والمستقبل. كما أن الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية والعربية يظل تهديدا أساسيا للأمن القومى العربى.
لا يستطيع القارئ العربى أن يصدق كلمة واحدة مما سبق، فما كان ليس قمة عربية شهدتها العامصة الموريتانية، وإنما كان مجرد «قعدة» عربية استغرقت ساعات محدودة يوم الاثنين٧/٢٥ (حضرها ٨ رؤساء وأمراء وغاب عنها ١٤حاكما عربيا). أما الحديث عن مركزية القضية الفلسطينية فقد صار ادعاء كاذبا فى الوقت الحاضر لا دليل عليه. وحكاية «الأهمية القصوى» التى أشار الأمين العام للجامعة العربية مجرد تعبير بلاغى لا علاقة له بالواقع. أما اعتبار الاحتلال الإسرائيلى تهديدا أساسيا للأمن القومى العربى، فهو نكتة من شقين، أولهما أن شواهد الحال تدل على أنها لم تعد كذلك، كما أن بعض الدول صارت تعتبر إسرائيل حليفا أساسيا وليس تهديدا أساسيا. الشق الثانى فإن حكاية الأمن القومى العربى لم تعد مأخوذة على محمل الجد من جانب أغلب، وربما أهم الدول العربية. إذ ما عاد أحد مشغولا بالأمن القومى، وإنما الكل مشغول فقط بالأمن السياسى المحلى وليس القومى.
بيان مؤتمر نواكشوط حول القضية المركزية إلى قضية لغوية، فضلا عن أن القمة كانت بمثابة إجراء روتينى فيه من القيام بواجب الحفاظ على العادة واستمرار التقليد المتبع منذ أكثر من نصف قرن (أول قمة عربية عقدت بالقاهرة عام ١٩٦٤)، حين كان للعرب حضور، ولهم رأس وجسم متماسك، وقبل أن يغيب الرأس وتختفى «البوصلة»، ويتحلل الجسم بصورة تدريجية. لذلك أزعم أن «قعدة» نواكشوط كانت أقرب إلى الديوانية التى توافد إليها بعض الحكام العرب من باب المجاملة، فى حين رأت الأغلبية أنه حتى المجاملة لم يعد لها لزوم.
لا أظن أن شيئا من ذلك صدمنا أو فاجأنا. فقمة الإسكندرية (عام ١٩٦٤) قررت إنشاء قيادة عسكرية مشتركة مقرها عمان لمواجهة المخططات الإسرائيلية. وبعد هزيمة ١٩٦٧ عقدت القمة العربية فى الخرطوم وأطلقت اللاءات الثلاث الشهيرة (لا تفاوض ولا اعتراف ولا سلام مع إسرائيل). وقمة عام ١٩٩٢ قررت استخدام القوات العربية لتحرير الكويت. وقمة بيروت عام ٢٠٠٢ تبنت المبادرة السعودية التى دعت إلى التطبيع مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضى العربية. والقمة الاقتصادية التى عقدت بالكويت عام ٢٠١٠ دعت إلى تحقيق النهوض الاقتصادى والتضامنى مع غزة بعد تعرضها للعدوان الإسرائيلى..إلخ.
الخلاصة أن مؤسسة القمة ــ فى حدها الأدنى ــ لم تؤخذ بدورها يوما ما على محمل الجد، إذ تأسست تعبيرا عن حماس وغيرة فى زمن المد القومى (كانت اقتراحا مصريا ردا على قرار إسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن)، لكنها تحولت بمضى الوقت إلى مكلمة عربية لتسويق الأوهام ومحاولة تعطير الفضاء العربى من خلال مظاهر تقام واجتماعات تعقد وبيانات تصدر، ولا شىء من كل ذلك له علاقة بالفعل العربى (أستثنى التعاون الأمنى بين الأنظمة بطبيعة الحال).
إزاء ذلك فلعلنا نقول إن ما صدر عن قمة نواكشوط هو من جنس ما سبقه، لكنه اختلف عن سوابقه فى الدرجة وليس فى النوع. ذلك أنه يعبر عن زمن الغياب الكبير الذى لم يختفِ فيه العالم العربى من خرائط السياسة الدولية فحسب، وإنما أصبحت أقداره تصنعها القوى الكبرى. وهذه لم تعد مقصورة على الدول الغربية بعدما انضمت روسيا إلى قائمة صناع مصيره. ليس ذلك فحسب وإنما أصبح الصراع محليا، سواء داخل بعض الدول العربية ذاتها أو بين الأشقاء العرب والعجم، مقدما على الصراع ضد نفوذ الدول الكبرى أو ضد العدو الصهيونى. ناهيك عن أن بعض القادة العرب أصبحوا يستقوون بالدول الغربية وإسرائيل للتغلب على اشقائهم الذين يختلفون معهم فى المنطقة.
لا أعرف فى التاريخ العربى المعاصر مرحلة شهدت مثل ذلك التشرذم والوهن الذى تعيشه الأمة فى الوقت الراهن. فبعضه يذكرنا بنموذج ملوك الطوائف فى إسبانيا (القرن الميلادى الحادى عشر) حين سقطت الدولة الأموية فى الأندلس، وتحولت إلى أشلاء ضمت ٢٢ إمارة متحاربة فيما بينها. وكان بعض الأمراء المسلمين يستقوون بالصليبيين المتربصين بالجميع، للتغلب على اشقائهم المنافسين. يذكرنا المشهد أيضا بمصطلح «عهد السقوط» الذى استخدمه فى مذكراته عالم الاجتماع العراقى الشهير الدكتور على الوردى، حين تحدث فى مذكراته عن مرحلة ما بعد الاحتلال البريطانى للعراق (عام ١٩١٧). وذكر أن الناس دأبوا على وصف الذين ولدوا فى تلك المرحلة بأنهم «أولاد السقوط». إلا أننى حين قرأت بيان القمة ووقعت على خطبة الأمين العام للجامعة، ووجدت أن الواقع يناقض أهم ما جاء فى هذا وذاك، استعدت على الفور رواية «١٩٤٨» للكاتب الإيرلندى جورج أورويل. ذلك أنه تحدث عن مملكة وهمية يدار كل شىء فيها بالغش والتدليس. فوزارة الحقيقة تتفنن فى الكذب، ووزارة الوفرة تزيف الندرة، ووزارة السلام تقود الحرب، ووزارة الحب تشيع الكراهية وتبرر القمع…إلخ. وهو ما ينطبق على «القعدة» التى وصفت بأنها قمة الأمل. كما ينطبق على مختلف الإشارات التى وردت فى خطاب المؤتمر وأدبياته، التى جاءت على النقيض تماما مما نلمسه على أرض الواقع.