خدعوكم فقالوا: إننا نحارب الفساد
لم تكن الحرب على الفساد في أي يوم من الأيام حربا جادة، بل إنها كانت مجرد شعار مضلل كغيره من الشعارات الجوفاء التي رفعت لخداع وتضليل هذا الشعب المغلوب على أمره، والمبتلى منذ عقود من الزمن بأنظمة فاسدة، أو على الأقل بأنظمة راعية للفساد، إذا ما اكتفينا باستخدام العبارات الأقل شغبا والأكثر نعومة وتهذيبا.
وإذا ما تحدثنا بلغة فصيحة وصريحة لا تجامل أحدا، فإنه يمكننا أن نقول ـ وبكل اطمئنان ـ بأن الفساد لم يُحارب يوما على هذه الأرض، لا في عهد معاوية، ولا في عهد أعل، ولا في عهد سيدي، ولا في عهد ولد عبد العزيز.
إن الحرب على الفساد لم تكن في أي يوم من الأيام إلا مجرد شعار مضلل، وما حدث في ملف “سونمكس” سيؤكد لنا وللمرة العاشرة ـ بل وربما للمرة المائة ـ بأن الحرب على الفساد ليست إلا مجرد شعار، فمن الفساد البين أن يغلق ملف فساد على فساد، وما خطورة ذلك إلا كخطورة أن يخاط جرح عميق على كمية كبيرة من القيح.
إن الجرح الذي يُخاط على قيح لابد وأنه سيتعفن، وإن ملفات الفساد التي تغلق على فساد لابد وأنها ستتعفن، وفي بعض الأحيان فإنه قد يكون من الأفضل أن نترك الجرح وهو ينزف بدلا من أن نخيطه على قيح، وأن نترك ملف الفساد مفتوحا بدلا من أن نغلقه على فساد.
لا خلاف على أن مدير فرع “سونمكس” في “روصو” يعتبر هو المسؤول الأول عن مخازن الشركة في “روصو”، وهو بذلك يستحق العقاب على كل ما نهب من أسمدة إذا لم يقدم وثائق مكتوبة تتضمن أوامر صريحة من الجهات العليا في الشركة. ولكن، وفي المقابل، فإنه لا خلاف أيضا على أن جهاز الرقابة الداخلي في شركة “سونمكس”، وإدارتها العامة يستحقان أيضا العقاب، وذلك لأنهما لم يتخذا أية ردة فعل لوقف عملية نهب واسعة استمرت لسنوات، وظلت هي حديث الناس في مجالسهم الخاصة خلال كل تلك السنوات.
المتابع لملفات الفساد التي تم كشفها في السنوات الأخيرة، وسواء ما تعلق منها ب”سونمكس” أو بالخزينة العامة أو بشركة الكهرباء سيجد أن القاسم المشترك بين كل هذه الملفات هو أن عمليات السرقة كانت تتم بطرق بدائية يمكن لتلميذ متوسط الذكاء في الصف الخامس ابتدائي أن يكتشفها. اللافت في الأمر أن عمليات الفساد هذه ظلت هي حديث الناس لفترة طويلة من الزمن، وكان آخر من علم بها هو مفتشية الدولة وأجهزة الرقابة الداخلية بتلك المؤسسات والإدارات المنهوبة.
وما يلفت الانتباه أكثر هو أن السلطة التي تنفق أموالا طائلة للتجسس على المواطنين، والتي تجند جيوشا من المخبرين لتتبع تحركات صغار المعارضين من قبل كبارهم، هي نفسها السلطة التي كانت آخر من علم بما حدث من نهب خلال السنوات الأخيرة في شركة “سونمكس” وفي الخزينة العامة وفي “الشركة المصدرة للكهرباء إلى دول الجوار” !!
إننا إذا ما أحسنا الظن بالسلطة الحاكمة، فإن أفضل شيء يمكن أن نقوله عنها هو أنها تحارب الفساد بأسلحة فاسدة، والأسلحة الفاسدة التي نقصد هنا هي : أجهزة التفتيش الداخلية؛ ومفتشية الدولة؛ والإرادة السياسية غير الجادة، والتي تتغاضى عن ملفات فساد كبيرة، وتفتح من حين لآخر ملفات فساد أقل خطورة لخداع المواطنين، وكثيرا ما تغلق تلك الملفات الخادعة على فساد.
وإذا ما بالغنا في حسن الظن بالسلطة، وإذا ما استعرنا كل ما لدى أطفال العالم من براءة لكي نصدق بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز كان جادا عندما رفع ذات انقلاب شعار الحرب على الفساد، فلنفترض جدلا بأن الرجل كان جادا يومها، ولكن، وحتى لو افترضنا ذلك، فإن الشيء المؤكد الآن، هو أننا قد خسرنا الحرب على الفساد، وبأنه علينا أن نرفع الراية البيضاء بعد كل هذه السنوات التي كنا نكرر فيها بالغدو والآصال بأننا نحارب الفساد. لقد انتصر علينا الفساد نصرا مبينا في حرب السنوات الثمانية، وها هو اليوم يحتل كل مفاصل الدولة الموريتانية، وها هو ببسط سيطرته على كل المواقع الحساسة فيها، وبما في ذلك أجهزة الرقابة والتفتيش.
ويبقى السؤال: ماذا على الشعب أن يفعل إذا ما خسرت سلطته الحاكمة وجيشها حربا معلنة ضد عدو شرس؟ وما هو المطلوب من هذا الشعب عندما يتم احتلال المواقع الحساسة في الدولة من طرف ذلك العدو؟
لقد جرت العادة بأنه عندما يُحتل أي بلد، وعندما تنهزم سلطة ذلك البلد وجيشها أمام العدو، فإنه في هذه الحالة يكون من واجب الشعب أن ينتفض ضد ذلك العدو، وأن يقاوم ذلك العدو بكل ما هو متاح، ولأن بلادنا قد تم احتلالها بشكل كامل من طرف الفساد، فإنه علينا في هذه الحالة أن ننتفض ضد الفساد.
إن إعلان حرب على الفساد كان مجرد خدعة، وإن الشعار الذي كان يجب أن يرفع من أول يوم هو الانتفاضة الشعبية ضد الفساد، والفرق جلي وواضح بين الحرب على الفساد والانتفاضة الشعبية ضده.
إن الحرب على الفساد تحتاج كأي حرب أخرى إلى جيش وأسلحة، وهذا الجيش والأسلحة لا تملكهما إلا السلطة. المشكلة هنا هي أن جيشنا المحارب هو جيش غير مؤهل لخوض أي حرب، والأسلحة التي يستخدمها هذا الجيش في هذه الحرب هي أسلحة فاسدة، فمن أين سيأتينا النصر؟
إن جيشنا المحارب للفساد بلا عقيدة عسكرية، ونقصد بالعقيد العسكرية في هذه الحرب الإرادة السياسية الجادة لمحاربة الفساد، ثم إن قادة هذا الجيش وضباطه الكبار لم يتم اختيارهم على أساس الكفاءة والنزاهة حتى نتوقع منهم إدارة جيدة للحرب، إن أغلب هؤلاء القادة قد تم اختيارهم بطرق غير شفافة، وعلى أسس ومعايير لا صلة لها إطلاقا بالكفاءة، ولذلك فهم لا يملكون المؤهلات القتالية المطلوبة، ولا يملكون حتى المؤهلات الأخلاقية لخوض حرب ضد الفساد. يمكن أن نضيف إلى تلك العوائق فساد الأسلحة، والتي نقصد بها فساد أجهزة الرقابة والتفتيش، والتي هي ليست بأقل فساد من الإدارات والمؤسسات التي يتم تفتيشها من حين لآخر. ومن الأسلحة الفاسدة أيضا يمكن أن نذكر نظام المكافأة والعقوبة، فكم من موظف تم تجريده من مهامه بسبب فضيحة بينة ثم تم تعيينه من بعد ذلك في وظيفة أعلى وأرفع، وكم من متهم من طرف السلطة بسرقة المليارات تم توشيحه من بعد ذلك بأعلى الأوسمة، وكم من موشح بأعلى الأوسمة من طرف السلطة تم اتهامه من بعد ذلك التوشيح بالفساد. ولكم في حالة رجلي الأعمال : “محمد ولد أنويكظ” و”محمد ولد بوعماتو” خير مثال، فأولهما تم سجنه بسبب الفساد ثم وشح من بعد ذلك، والثاني وشح بأعلى الأوسمة ثم اتهم من بعد ذلك التوشيح بالفساد.
إن الحرب التي تخوضها السلطة ضد الفساد هي حرب خاسرة، ولذلك فإنه قد آن الأوان لأن يعلن الضحايا أنفسهم عن انتفاضة شعبية ضد الفساد. والانتفاضة ضد الفساد تتميز عن الحرب عليه بجملة من الأمور لعل من أبرزها:
1 ـ أن الحرب على الفساد هي حرب رسمية، والحروب الرسمية هي حروب فاشلة دائما: الحرب على الفساد، الحرب على المستنقعات والبرك، الحرب على البلاستيك، على العكس من الانتفاضات ذات الطابع الشعبي، والتي كثيرا ما يكتب لها النجاح.
2ـ إن الحرب على الفساد كأي حرب لا يمكن أن يديرها إلا الجيش، وجيشنا المحارب للفساد هو جيش فاسد، بينما الانتفاضة الشعبية يمكن أن يشارك فيها جميع الضحايا، والشعب الموريتاني كله ضحية للفساد باستثناء القلة القليلة التي تمارس الفساد وتتوارثه كابرا عن كابر،عفوا، صاغرا عن صاغر.
3 ـ إن الحرب على الفساد كأي حرب لابد لها من أسلحة، بينما الانتفاضة الشعبية لا تحتاج إلى أسلحة، فكل شيء يمكن تطويعه وتحويله إلى سلاح فعال في أي انتفاضة شعبية. حتى نظرة الازدراء للفعل الفاسد ولا أقول للشخص الفاسد يمكن أن تتحول إلى سلاح فعال، خاصة في مجتمعنا الذي تعود فيه المفسدون أن يعاملوا باحترام وبتقدير يتناسب طرديا مع حجم ما سرقوا وما نهبوا، فكلما كانت السرقة كبيرة كلما كان الاحترام ونظرات التقدير أكبر.
فمن الغريب حقا أنه عندما يسرق طفل غير متعلم وجائع قنينة غاز من الحجم الصغير فإن الكل يسارع لضربه، وذلك من قبل أن يلقى به في غياهب السجن سنين عددا. أما عندما يسرق الموظف السامي الذي يتقاضى أجرا عاليا، والذي كانت الدولة قد أنفقت على تعليمه أموالا طائلة، فإن الذي يحدث من بعد ذلك هو عكس ما يحدث مع الطفل الجائع الذي يسرق قنينة غاز. في حالة الموظف السامي فإن القبيلة تخرج عن بكرة أبيها لإعلان التضامن مع ابنها السارق، فتنظم المسيرات، وتنحر النوق، وتجمع الأموال لإعانته على تسديد ما سرق.
هذا عن القبيلة وعن المجتمع، أما السلطة فإن تشجيعها لكبار اللصوص واضح وبين، فالموظف السامي بإمكانه أن يسرق الأموال الطائلة، وهناك احتمال 9/10 أن لا تُكشف سرقته، وإذا ما كان هذا الموظف سيء الحظ، أي من ضمن 10% من الموظفين اللصوص الذين يتم كشف بعض سرقاتهم، ولا أقول كلها، فإنه في هذه الحالة لا يطلب منه إلا أن يسدد ـ وبالتقسيط المريح ـ ما ظهر من سرقاته، أما ما خفي منها فهو هبة له. وفي أغلب الأحيان فإن هذا الموظف اللص يترك في وظيفته، وإن حدث وتمت إقالته، فإن احتمال تعيينه في وظيفة أهم يبقى احتمالا واردا.
إن السلطة بتصرفاتها الغريبة هذه، إنما تشجع كل الموظفين على سرقة المال العام، وهي تقول لهم بشكل أو بآخر بأن عليهم أن يعتبروا المؤسسات التي يسيرونها مجرد بنوك تمنح هبات أو قروضا بدون فوائد، وأن بإمكانهم أن يسحبوا من تلك المؤسسات ما شاؤوا من أموال، فإن انكشف أمرهم توجب عليهم أن يسددوا ما سحبوا على شكل أقساط مريحة، وإن لم ينكشف أمرهم فما عليهم إلا أن يعتبروا تلك الأموال مجرد هبة منحها لهم “رئيس الفقراء”.
ألم يكن ذلك الطفل الجائع أولى بالرحمة، أَوَ لم يكن أحق بأن لا يلقى به في السجن، وأن يتاح له تسديد ثمن قنينة الغاز بالتقسيط المريح بدلا من أن يتاح ذلك للص الكبير الذي سرق مئات الملايين، والذي ربما تكون سرقته هي التي دفعت بذلك الطفل البائس وبغيره من الأطفال إلى سرقة قنينات الغاز.
حقا إن مجتمعنا لمجتمع غريب، ومن غرائبنا أيضا أنك تجد جيشا من المعطلين عن العمل لا أحد منهم يقبل بأن ينتفض ضد الفساد، وذلك على الرغم من كون كل واحد منهم يعلم بأن تفشي الفساد في هذه البلاد هو الذي تسبب في حرمانه من العمل.
إن هذا الشاب العاطل عن العمل، والذي يحمل أسفارا من الشهادات العليا يعتقد بأن الرئيس الذي وصل إلى السلطة بانقلاب، وأن النائب الذي فاز في انتخابات بسبب ما أنفق من مال مسروق في حملته الانتخابية، وأن الموظف الذي تم تعيينه بطرق غير شفافة، بأن هؤلاء سيحاربون الفساد نيابة عنه.
إن مثل هذا الشاب العاطل عن العمل، والذي يرفض أن ينتفض ضد الفساد معتقدا بأن الآخرين سيخوضون نيابة عنه حربا بالوكالة ضد الفساد، إن مثل هذا الشاب ليستحق هو الآخر أن يوضع على رأس لائحة المفسدين في هذه البلاد، وعلى هذا الشاب وعلى أمثاله من ضحايا الفساد أن يعلموا بأن الفساد لن يتراجع في هذه البلاد من قبل أن ينتفض الضحايا ضده.
فهل سنسمع في المستقبل المنظور عن انتفاضة شعبية ضد الفساد؟
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل