الجنرال شوارعيا/أبو العباس ابرهام

كان نجيب محفوظ رؤيويا في “رأيت فيما يرى النائم” عندنا نقل صورة ممثل يصور مشهدين لفيلمين في وقت واحد، مستفيدا من تشابه التضاريس والاستيديو لخفض التكلفة: في المشهد الأول كان يؤدي دور عمر بن الخطاب نائما في الساحة العامة. إشارة عدالة. أما في المشهد العام فكان نفس الممثل الذي أدى دور الفاروق يؤدي دور جحا تحت الغيمة التي ميز بها نقوده المطمورة. البارحة فعل الجنرال عزيز الشيئين، باستثناء أنه فعله في وقت واحد.

ويمكن في الواقع التندر أن كل الحكامة الموريتانية هي تجويح عمر بن الخطاب. كان المختار ولد داداه يذهب في مهام porte-à-porte أو على الأصح خيمة خيمة لإقناع البدو باستيطان نواكشوط. وكان يدخل في معارك العيش وكسكس عندنا يبيت في “الشرق” (المعارك التي أصبحت الآن ممجوجة بفعل لوك العجول لها). وقد استثمر هيدالة كثيرا في شخصية عمر بن الخطاب. وكان يشهد تقسيم الإسعافات بنفسه في الأيام القائظة ويقود بنفسه سيارة توزيعها (كما يقال إنه حدث عندما فشل السائق في إخراج السيارة من الكثيب). وقد راح في الدور بحيث سيسميه النوكشوطيون “اشويدح” لأنه كان يؤدب الكبار بعكس اشويح مؤدب الصبيان. وظل ولد الطايع يراقب المجتمع من سيارة غير مرموقة لمدة سنوات. وكانت المدينة تمور بمشاهديه. ولم يتوقف طيفه من الجوس في العاصمة إلا بعد ارتقائه الطبقي وتحوله إلى “معاوية الخير”. ولكن وزيره ولد أكيك سرعان ما لعب هذا الدور بتفتيشاته الميدانية ووقفه سيارات الحكومة ورفاهية الموظفين وصفعه لبعض المسؤولين في زيارات مفاجئة.

يبدو إذن أن هذه تقاليد حكامية وطنية. ولكن الجنرال عزيز استفاد من عصر السلفي. ولكنه تضرر منه كذلك. ففي العمريات السابقة على الجنرال كان الحاكم يتفقد أحوال الرعية، وطبعا يأتي لها بالخبز والشعير. أما مع الجنرال فلم يعد الحاكم يأتي بغير شحمه ولحمه. يعني أن الشعب هو من صار يتفقد أحوال الحاكم. وليس العكس. عموما يقال إن الأوضاع معكوسة بهذا البلد بحيث أن القافلة هي التي تنبح والكلاب هي التي تسير. تجويح.

إلا أن الجنرال عزيز، وهو بعكس كل الحكام قبله رجل ثري ورحل أعمال وأحد أكبر أغنياء البلد، لا يسير في الشوارع ويمشي في الأسواق كما يفعل الأنبياء. وإنما يفعل ذلك محمي الظهر ومتبوعا بأمنه. وكان الجنرال قد ابتكر فرقة لحراسته ترتدي زي النينجا (مرة أخرى تعكس المعايير فالحرس الرئاسي هنا هو المتنكر، وليس أبو لؤلؤة).

ولكن عمرياته مدروسة. فالواقع أن الجنرال، وهو انقلابي متمرس تورط في ثلاثة انقلابات في البلد، قد خارت قواه الانقلابية وبطل سحره. وقد فشل ساحر البلاط، وزير العدل، في هندسة سيناريو التمديد له. وحاول الجنرال في النعمة الإبقاء على غموض تجاه المأمورية الثالث. ولكنه سرعان ما اضطر في ظروف غامضة للتوجه إلى الغرب وإعلان التقيد بالدستور. لويت يده وأرخى بندقيته. وابتداء من الآن ليس على الجنرال إلا التدرب على العودة للحومة الشعبية، على رائحة الشعب، وضوضائه وتزاحماته وسلفياته وسناباته، على رائحة السمك بين الدور وعلى تخاصم الأهالي. ما قام به البارحة كان تمرنا على الإقامة.

وماكان للجنرال أن يترك مزرعته وهي أكبر محمية طبيعية في البلد بعد حوض آرغين. وما كان له أن يهجر ضيعه وعزبه وفدادينه وأسمدته وحفاراته ومصارفه وجمعية رحمته. ولكنه يقبل تحدي الإقامة في موريتانيا بعد التنحي ليس فقط للاستمتاع بما جمع وإنما ليقتل الأب، كما يقول فرويد. فالكولونيل أعلي ولد محمد فال، الأب الذي عقه، يعيش باعتيادية في نواكشوط. ويأكل الطعام ويمشي بالأسواق. وإذا كان الجنرال يزعم أنه قد هزم الكولونيل في القيام فإن التحدي هو هزيمته في الإقامة. التحدي هو أن ينجو من مظالمه. وكما يقال فإن “العلة اعل بوكوبة”.

 

المصدر: صفحة الكاتب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى