التاكسيمان الميت/ محمد الأمين محمودي

يمر من امام بعضنا يوميا ، لا احد يعرفه لا أحد يكترث لأمره لا احد يحس به او يعرف عنه اي شيئ، صاحب التاكسي الخمسيني لايختلف عن غيره الا في مسألة واحدة وهي انه يحمل موته مع ركابه، في كل رحلة يقوم بها على احد الخطوط يعتقد انه لن يكملها..للرجل الذي تعرفت عليه صدفة قصة تجعل منه شخصا مختلفا عن الآخرين او عن اغلبهم ان اردتم..يحكي وهو يخنق بقبضته مقود سيارة يعتقد انها سبب بقائه حيا:

كنت اعمل كسائق لاحدى الشركات في انواكشوط ولي من الأولاد تسعة احبهم لدرجة انني اخشى الموت فقط لأنهم سيكونون وحيدين بعدي،لا احد سيجلب لهم لحلوى من الدكان المجاور ولا احد سيداعبهم كما افعل ولن يفهم احد لغة اعينهم، ولا احد باختصار سيكون لهم كما كنت.حين اموت سيتوقف الكثيرون عن اظهار الحب لهم لأنه كان تمثيلا ومجاملة للوالد الراحل..انني احبهم بجنون..،صدقني لا اعتقد ان احدا يحب اولاده كما احب هؤلاء..

المهم قبل سنوات اكتشفت عجزا كلويا تفاقم مع الأيام حتى اصبحت النزيل الدائم لدور تصفية الدم، ،فطنت الشركة لخمولي وكسلي فاستعانت بشخص لم يمرض بعد ومازال في قمة عطائه وحيويته واغلقت الباب في وجهي بحجة انني على جسر بين عالمي الحياة والموت وانني للموت اقرب، ولغباء المدير لم يعرف انني سأعيش رغم دائي القاتل، سأعيش لأن التسعة يجب ان لا يحسوا بالحاجة ولا بالفقر…انهم اغبياء هؤلاء الأغنياء، لا يعرفون ان الانسان صاحب القلب لايمكن ان يموت وانا قلب ينبض بحب صبية حالمين.

ذهبت ذلك اليوم من الشركة الى المصحة مباشرة لتعبي وارتفاع ضغطي المفاجئ، استلقيت على النقالة تحت مكيف يصدر من الأصوات مالايمنحنا من الرطوبة، شرعت في التفكير بمستقبل ابنائي وانا شبه ميت ثم وانا في عداد الأموات،ارى دمي يدور خارج جسمي يمر من امام عيني في انابيب شفافة ثم يعود فيهزني هزا حتى يخيل الي ان الحياة هي ذلك الدم الفائر، وبين كل دورة واخرى كنت ارى وجه احد الأطفال وهو يسألني عدم الرحيل فالعالم يا بابا لايرحم الصغار.

خرجت من المصحة بدم قوي وارادة اقوى، قررت المرور على كل من عرفتهم في هذه الحياة اسألهم النصح او العون اذ لم يعد لي سوى التسول لكن ثقوا لن يكون ذلك التسول الذي يسأل صاحبه القدر ان يطيل مدة اشارة المرور الخضراء حتى يتمكن بعرضه من الوصول الى قلوب المانحين او المانعين، سأسألهم فقط تشغيل مابقي مني، فقط لا غير،،سأموت شريفا كما كنت…ثم بعد ساعات التقيته، ،ذاك الرجل الذي كان يزود شركتنا بمعدات الطباعة، اخبرته الخبر فرد بأنه سيمنحني بصفة دائمة نصف ريع سيارة اجرة يملكها..قبلت المنحة لكنني اشترطت ان اشتغل كسائق لهذا التاكسي الخيري، ولأنني اقدر جميله قررت ان ابذل قصارى جهدي حتى اجلب له مالو اقتسمناه يمكن اعتبار نصفه مردودا طبيعيا لسيارة اجرة يقودها شخص لم يعبر بعد الى جسر الانتقال.

لم اخبره الخبر لكنني قررت سرا وصممت،وصرت احمل في كل يوم تشرق فيه الشمس زادي وقوتي من نظرات اولادي التي تعني انهم يعتبرونني شخصا قويا وابا لايمكن ان يتركهم للحياة..

حين امر من امام احد البنوك اقول في نفسي ماذا لو قرر صاحب هذا المال الوفير ان يكرمني بما يجعل أولادي يعيشون حياة كريمة وهي حياة ستمنحني لا محالة الفرصة للحصول بدوري على موت هادئ يتم بعد ان اسحب ستائر غرفة نومي واودع الحياة و بعد ترتيب اغراضي، ،لكن هل لي ستائر او غرفة نوم او حتى اغراض؟ يقطع التفكير راكب بلغ منتهى رحلته.

أقود السيارة بجسم مهدود وفكر مشغول وابتسامات اطفال لم يمت والدهم بعد،كم هم رائعون أطفالي كم هم حالمون:دكتور محام لاعب كرة قدم ورئيس وملك وسائق اطول قطار في العالم، الى غيرها من اشياء عرفوها في تلفزيوننا الذي لايتكرم علينا الا بلونين ولعله التلفزيون الأكثر واقعية في هذا العالم فالكون بلونين فقط ابيض واسود..

احس بالدوار متى سخن الجو واكثر الركاب من ثرثرتهم حول السياسة التي لاتعنيني، فالسياسة لم تمنحني اي شيئ، اكرههم حين يتحدثون بغباء عن واقع الأمة والبلد، عن اي أمة يتحدثون؟عن اي بلد؟ لو انها أمة حقا لوزعت علينا الزكاة والصدقات ولسجلنا في قوائم عجزة المسلمين حتى لانكد ونحن نحتضر،،لو انه بلد لنلت فيه ميتة كريمة وحياة أكرم، هل تعرفون هذا المجنون الذي يهددكم بالحجارة ليحصل منكم على دريهمات عند ملتقى طرق مخبز الأمراء، هذا الرجل الذي لايعرفه الا القلة كان سائق السيارة التي استشهد فيها الضابط اسويدات، هذا الرجل كان يقاتل لنحيا،نحن وابناؤنا، لكن ماذا جنى من بلده غير الجنون ونظرات الناس وهذا ماجعله يبحث عن ذاته القوية التي ذهبت مع قائده، فالعسكري لا يفر ولايترك سلاحه،لذا يستخدمه ليرهب به الجبناء…بلد..هههه..استغفر الله العظيم

اسمع حكايا الركاب ومعاناة كل واحد منهم وفي بعض الأحيان احس فعلا بأنني دخلت عالم السكرات والرحيل الأخير، وحين افقد الوعي فأغير المسار الى طريق المصحة وهناك يتفرق الركاب وهم يتفوهون بكلمات احتجاجية قل ان اسمع منها..الى ان اكتشفت ان افضل خط سير هو ذلك الذي يمر بأغلب دور التصفية..ومازلت حتى الآن حيا ارزق ومازال اطفالي ضاحكين مستبشرين مقبلين على الحياة..لكنني موقن ان جسمي لم يعد، يحتمل وقريبا تسمع انني رحلت فرفقا بأولادي ان رأيتهم مرة في الشارع او في الزقاق المظلم..رفقا بهم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى