أبعاد الكون في رواية “أعشقني” لسناء الشعلان
الزمان ـ بدأ الخيال العلمي في المجال السردي مبكرًا عند العرب مع قصص الحصان الطائر والبساط السحري وطاقية الإخفاء في قصص ألف ليلة وليلة، وعرف أوْجه في الغرب بالقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع أدباء فاق خيالهم خيال العلماء، من بينهم: “جيل فيرن” (JulesVerne)، و”جورج ويلز” (Georgewilz)، وآرثر كلارك” (ArthurC. Clarke)، بينما تراجعت في العصر الحديث نتاجات أدب الخيال العلمي بالعالم العربي نتيجةً لتقهقر العرب في المجالين العلمي والتكنولوجي، وبتكاثـُر المخترعات والمكتشفات العلمية والتقنية والولوج إلى العالم الرقمي بعد التطور المدهش للإلكترونيات عادت هذه النتاجات للظهور مع أعمال بعض الكتاب العرب من أشهرهم:
“نهاد شريف” من مصر، و”طالب عمران” من سوريا، و”عبد السلام البقالي” من المغرب. غير أن الجهود لا تزال تبذل للنهوض بهذا الصنف الأدبي في الأقطار العربية، والأمل معقود في أنْ يُدرج أدب الخيال العلمي في مناهجنا الدراسية، ويصبح تخصصا أكاديميا في الجامعات العربية في القريب العاجل بحول الله.
صدرت رواية الأديبة الأردنية سناء الشعلان “أعشقني” في بحر هذه السنة (2012) عن دار الوراق، وهي من جنس أدب الخيال العلمي، بعدما كرّست الكاتبة غالبية أعمالها للكتابة القصصية. وقد تنبّأت الكاتبة في استشرافها للمستقبل بزمن مظلم للبشرية في حال إصرار الإنسان على الحروب والوحشية والدمار، وحاولت الولوج إلى أعماق الشخصيات ووصف معاناتها وأحاسيسها وما يعتلج في جوارحها من صراعات محتدمة.
سنحدد في هذه القراءة تموقع الرواية بين أدب الخيال العلمي من جهة الذي يوظف معطيات العلم لتخيّل عوالم المستقبل والأدب العجائبي (الفانتازي) من جهة ثانية الذي يوظف القوى الغيبية التي تتعارض مع المنطق، وهو بذلك يندرج في نطاق ما وراء الطبيعة، ونحلل طبائع هذا العمل الأدبي من خلال النظر في الإشكاليات التالية:
– ما درجات الإلغاز في بنية عنوان هذا العمل ( والعنوان حتما بوابة العمل الأدبي) وما المغازي وراء تكوين الشخصيات؟
– ما هي أبعاد الكون في نظر كاتبة الرواية؟ وما طبيعتها؟
– وما هي المكتسبات العلمية والتقنية التي اهتدى إليها إنسان الألفية الرابعة (3010) : زمن الرواية؟ وما مواصفات الواقع الافتراضي المُتخيّل؟ وما أهمية التنبؤات العلمية التي حملتها الرواية لاسيما في ميدان الهندسة الوراثية والاستنساخ؟
– وما مواقف الكاتبة من هندسة الإنسان؟ ومن توجيه البحوث العلمية نحو هذه المناحي؟ ترى هل هي في صالح مستقبل أفضل للإنسان؟ أم أنها تسهم في تدميره؟
– ما ميسم شخصية الروائية في ثنايا الرواية؟ علما أن المرأة شكـّلت في هذا العمل رمزا للخصب ولاستمرارية طبيعيةٍ للحياة، وما مدى نجاح الروائية في التعبير عن هموم الإنسان المعاصر؟
– وهل استطاعت الكاتبة الجمع بين أدبية النص (التي تكسبه جاذبية ورونقا) والثقافة العلمية (التي تقدّم فائدة جليلة للقارئ ولأهل الاختصاص) دون أن تطغى بكثافتها على الأحداث؟ أم أنّ المعطيات العلمية والتقنية المطوّلة استحوذتْ على العمل الأدبي، فأفقدته أدبيته؟
– وهل ارتقتْ الطبائع الفنية للرواية إلى مستوى تلك المميزة للأجناس الروائية الأخرى؟ أم أن هذا العمل مجرّدٌ من المؤثرات الفنية لا يهدف سوى إلى تسلية القارئ بالموضوعات المطروقة؟
الكلمات المفاتيح: الخيال العلمي، أبعاد الكون، الهندسة الوراثية، الأدبية.
– 1- الفضاء المتخيل في رواية “أعشقني”:
من المؤكد أن قارئ هذا النص الإبداعي يطالع انفتاحه على العديد من التأويلات، واشتماله على رؤى وزوايا نظر متعددة، وتضمنه لجملة من الأسئلة تدعوه إلى محاولة إيجاد أجوبة مقنعة عنها. ويمكن استنطاق “أعشقني” للبوح بأسرار العوالم التقنية والاجتماعية والنفسية والرومانسية كما تصورتها الأديبة ‘سناء الشعلان’، وذلك من خلال عرض النقاط الآتية:
أ- المضمون العام للرواية:
في القرن الواحد والثلاثين حيث تدور أحداث الرواية استوطن الإنسانُ كوكباً آخر بمجرّة درب التبانة لإنشاء حضارة جديدة بعد دمار الكوكب الأزرق نتيجة ستة حروب كونية اقتلعت جذور الحياة من الأرض، غير أن الإنسان على أرض الكواكب الجديدة بمجرة درب التبانة استمرّ في جبروته يتبرّأ من القيم الإنسانية النبيلة والقيم الحميدة إلى حين اشتباك عاشقين في قبلة محمومة أسهمت في صوْغ البُعد الخامس من أبعاد الكون، ألا هو “الحب”.
تجدر الإشارة إلى أن مختلف الأبعاد الاجتماعية الحاضرة بهذا العمل الأدبي المتميّز بتجلياتها التقنية والمعرفية والبيئية لا تنشز عن موقف الكاتبة من وظيفة الأدب، فهي تؤكد أنّ “الوظيفة التنويرية للإبداع لا يجب أن تكون نصحية إرشادية بشكل مباشر، فهذه وظيفة الدين والتربية لا الأدب، فالإبداع يقوم بهذه الوظيفة بطريقة موازية تتسلـّل إلى النفس دون إدراك المتلقي لذلك، وفي هذا الأمر تتمثل عظمة الأدب وخطورته”.[1]
ب- الشخصيات الرئيسة في هذا العمل الأدبي:
1- “شمْس”: وتلقـّـب ب: نبية العصر الإلكتروني، لإيمانها بالحبّ كبعد خامس من أبعاد الكون (إضافة إلى الأبعاد الأربعة الأخرى المتمثلة في: الزمان والمكان والطول والعرض)، ولمعارضتها الشديدة لسلطات مجرّة درب التبانة القائمة على القهر والاغتصاب ومصادرة الحريات الفردية، وقد لقيت مصرعها على يد سلطات المجرّة. ولعل الكاتبة تستحضر من خلال هذا اللقب الواقعة التي وقعت حين استدعى الخليفة العباس “هارون الرشيد” امرأة ادّعت النبوة، فردّت على اعتراضه قائلة: قال الرسول: لا نبيّ بعدي، ولم يقل لا نبية بعدي”.
2- “باسل”: وهو رائد مركبة فضائية من ساكنة مجرة درب التبانة، تعرّض لحادث (“إرهابي”) أفقده الحياة، ما عدا دماغه، مما عجّل بزرعه من قبل فريق من الأطباء البشريين والآليين في جسد “شمس” نظرا للملاءمة القائمة بين جينات وخلايا كل منهما.
3- “خالد”: وهو العاشق الذي عشق “شمس” وعاشرها متحديا قوانين المجتمع التي حظرت كل تواصل جسدي بين الذكور والإناث بما أن الإنجاب أصبح ممكنا بعمليات تخصيب جيني. وتدفع الكاتبة المتلقي إلى عالم منفتح من التأويلات اللانهائية حين تصرّح بأن هذه الشخصية حقيقة موجودة في العالم الواقعي (هامش صفحة:83)، مما يستوجب البحث عن أشكال التناص بهذا النص السردي.
ولعل أبرز دلائل التناص في هذا النص السردي ما جاء على لسان العاشقة في إحدى رسائلها المدوّنة: “إذا غاب خالد، فلا نزل القطر، ولا عرف القطرَ البشرُ”، في إحالة إلى بيت الشاعر أبو فراس الحمداني:
“معللتي بالوصل والموت دونه // إذا مت ظمآن فلا نزل القطر “.
تضمنت الرواية نقدا لقيم المجتمع السائدة بالقرن الواحد والثلاثين حيث ازداد القهر والطغيان ومصادرة الحقوق، إلى درجة تجرد الإنسان من إنسانيته ومن مشاعره تجاه أقرب الناس إليه بما أن العلاقات الأسرية أصبحت نتاجا محضا لمؤسسات الدولة بعيدا عن أي تواصل فعلي، يقول الرائد الفضائي “باسل”: “إن مركبتي الفضائية المقاتلة أكثر قربا إلى نفسي ومعرفتي وتواصلي من زوجتي (..) وأكثر قربا إليّ من أبنائي” (ص:15).
ج- الأبعاد الخمسة للكون من منظور الكاتبة:
لا تنحو الكاتبة منحى رمزيا في صوغ أبعاد الكون، فهي تكشف عن هذه الأبعاد في تقديم الرواية فيما اعتبرته “ملفا سريا”، عنونته ب: “من يوميات امرأة عاشقة في مجرّة درب التبانة”، وتصرّح بجحدها لسائر الأبعاد (: الطول والعرض والارتفاع والزمان) ما عدا البعد الخامس، في قولها على لسان “شمس” نبية العصر الإلكتروني: “وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُعد خامس ينتظم هذا الكون العملاق (…) الحبّ هو البُعد الخامس الأهمّ في تشكيل معالم وجودنا، وحده الحبّ هو الكفيل بإحياء هذا الموات، وبعث الجمال في هذا الخراب الالكتروني البشع (..) أنا كافرة بكلّ الأبعاد خلا هذا البُعد الخامس” (ص: 9).
واعتبرت الساردة البعد الخامس أقدس الأبعاد الكونية، فكل الأبعاد تهفو إلى خدمته وتصبو نحوه، كما أنّ كل فصول الرواية تصبّ في اتجاهه، ويرتبط هذا البعد ارتباطا كليا ب”شمس” و”خالد”، وهما “أول عاشقين في هذه الألفية” الرابعة (ص:91)، يضطران إلى كتمان قوة طاقة هذا البعد الخارقة (ص:93) القادرة على تغيير مجريات الكون (ص:92). فالوصال يمثل “لحظة انفجار الطاقة الكونية، [له] طاقة رهيبة وعملاقة حرّفت كوكب القمر عن مساره الأبديّ الخالدي بمقدار متر كامل، وسبّبت خللا كونيا أبديا” (ص:95).
وقد صاغت الكاتبة معادلة رياضية تكشف عن طبيعة البعد الخامس ومكوناته، وجاءت على النحو التالي:
الشعَر (رمز التحدي)
الكلمات (رمز القداسة)
العاشق (خالد)
واجتماعها يمثل جوهر طاقة البعد الخامس.
وقد خصصت الكاتبة لكل بعد من أبعاد الكون فصلا، فجاءت هذه الأبعاد معنونة على النحو الآتي:
· الفصل الأول: (البعد الأول: الطول؛ في امتداد جسدها تسكن كل آمالي، ويغفو بدعة طوق نجاتي) (ص13)،
· الفصل الثاني: (البعد الثاني: الزمن؛ ثمة مفاهيم جديدة ونظريات نسبية أخرى للزمن عندما يتعلق الأمر باحتلال جسدها، وأنا محتلّ آثم) (ص:25)،
· الفصل الثالث: (البعد الثالث: الارتفاع؛ جسدها الصغير النحيل هو أقرب مسافة لنفسي نحو الألم) (ص39)،
· الفصل الرابع (البعد الرابع: العرض، لا تتجاوز مساحة الكون عرض أحزاني) (ص51)،
· الفصل الخامس (البعد الخامس: الحب؛ وحده من تتغير به حقائق الأشياء وقوانين الطبيعة) (ص:59)،
ويتجلى خضوع هذه الفصول للتجانس الموضوعي، إذ اختص كل فصل ببعد من أبعاد الكون. بينما عرضت الروائية في بقية الفصول (السادس والسابع والثامن) يوميات نبية العصر الإلكتروني المتضمنة لتجربتها الغرامية ولمواقفها من مجتمع القرن الواحد والثلاثين (ص ص83-218).
ومن المؤكد أن هذا العمل الإبداعي اكتسب قيمة محورية ضمن أعمال أدب الخيال العلمي بالنظر إلى ما ضمنته الكاتبة من تطلعات مستقبلية نحو عالم تكنولوجي واجتماعي أفضل.
د- مستجدات عالم الألفية الرابعة:
· في المجال التكنولوجي:
– يتوفر المجتمع على “ترسانة أسطورية من المعلومات والتكنولوجيا سبقت الخيال في التطور المادي” (ص:76). وشهدت الإنسانية تطورا كبيرا في ثورات الاتصالات إلى درجة أن فترة ستة أشهر التي ظل فيها “باسل” بالمستشفى غيرت الكثير من العتاد التكنولوجي، ومن نماذج هذا التطور:
– توفـّـر كل فرد على قمر صناعي يمكّنه من التواصل المرئي المباشر أو تسجيل المكالمات في حالة غيابه (ص:43).
– كما أن بطائق الهوية غدتْ وثائق إلكترونية ممغنطة ومصورة ومضغوطة (ص:46).
– تقدم وسائل المخابرات بفضل تصفـّح الذاكرة بالماسح الذرّي، وتحليل الأحلام بالسابر الكهرومغناطيسي (ص:94).
– اختزال مختلف المعارف الإنسانية في حزم ضوئية (ص:65) وفي متاحف كونية متحركة، ومنتديات تراثية إشعاعية (ص:66).
– أصبح بالإمكان تزويد هذه الحزم الضوئية بروائح لونية ملازمة فوّاحة بنكهة الفراولة المصنعة (على سبيل التمثيل) (ص:78).
– اعتماد البشرية على طريقتين لتدوين المعارف: طريقة النابض اليدوي، وهي طريقة قديمة شبه منقرضة ومضنية تقوم على نقل الحروف إلى الورق الضوئي، وطريقة النابض الذرّي ترتكز على تثبيت شريط النابض النووي على مؤخرة الرأس حيث الدماغ، وتحوّل حركة المعلومة في النواقل العصبية في الدماغ إلى نبضات كهربائية ثم إلى حروف تسجّل على الحوازم الضوئية بصيغة خالية من الشوائب.
· في مجال الطبيعة:
– لا وجود للنبات في العالم الجديد، سوى بالمتاحف الزراعية، والمحميات الطبيعية، “فقد انقرض الغطاء النباتي منذ مئات السنين من كوكب الأرض، ولولا عمليات الاستنساخ الطويلة لما عادتْ كلمة شجرة إلى قاموس البشرية المعاصرة” (ص:71).
· في مجال القيم والتنظيمات المجتمعية:
– تضاعُف صور القهر على يد الآليين “وأكفّ أيدي الرجال الآليين الذين غدوا قوة ضاربة في عمق الوحدة البشرية وفتيلة انفجار يهدّد الجميع بمستقبل قاتم يستعبد الإنسان، ويحوّله إلى عبد لمولاه” (ص:113)، وهي صور قاتمة تذكرنا برائعة الروائي المغربي المرحوم “عبد السلام البقالي”: “الطوفان الأزرق”.
– تحوّل قيم الثورة والصمود إلى “مثاليات سخيفة بالية عتيقة تجاوزتها الحضارة الإنسانية منذ قرون” (ص ص:19-20).
– حاجة ساكنة مجرة درب التبانة إلى تراخيص من قبل الحكومة لإجراء عمليات طبية، ويفضي عدم التقيّد بذلك إلى أداء المخالف غرامات مالية كبيرة، أو النفي المؤقت أو الدائم خارج الكوكب (ص: 43).
– ” لا مجال في هذا العالم الجديد للفردية المزعجة، والذاتية المغرقة في أسئلة تعطـّل ركب العمل والإنجاز والانتظام” (صص48-49) مما حث حكومة المجرّة على سنّ قوانين تستلزم ” توحيد الشكل الخارجي للجميع من حيث الأوزان المسموح بها، وطول الشعر، وموضات الملابس، وتقنين حدود الاختلاف” ( ص: 48+127).
– الإشباع الجنسي يتمّ بفضل أقراص انفعالية تستخدم وفق برنامج مقنن “تحدده مؤسسات العمل لموظفيها اعتمادا على لحظات أوجهم ومناسيب أمزجتهم وعطلهم الرسمية” (ص:66).
– تسليم السلطات بالجنس الثالث، فالمخنثون “منتشرون بكثرة في المجرّة، وحاصلون على كامل حقوقهم المدنية والإنسانية والاعتبارية” (ص:65-66).
· في مجال العلوم الصحية:
– تقدّم العلوم الطبية أسهم في توفير الخدمات الصحية وتعميمها، بحيث أصبح لكل فرد طبيبه الآلي الخاص.
– نجد “باسل” بالمتن الروائي بمثابة فأر تجارب في خدمة البحوث الطبية المتطورة الهادفة إلى تحقيق الحياة السرمدية، مما جعل “الموت مجرد حدث منقرض لا وجود له” (ص:45)
– استطاعة الإنسان الانتقال من عمليات زرع القلب إلى عمليات أدق وأخطر، تخصّ زرع الدماغ، (ص:16)، وتستلزم هذه العمليات تلاؤما في الجينات والأنسجة والخلايا بين الطرفين (ص:22).
– تحوّل الحمل الطبيعي في أذهان ساكنة المجرّة إلى مرض سخيف (ص: 54) وخبيث (ص: 63). وقد دفع نكران الحمل في هذا العصر ب”باسل” إلى تبادل اللكمات مع الجنين القابع بداخل بطنه، وإلى عقد حلف معه سماه “حلف الرجال” (ص:74).
– أبطل تطور هندسة الجينات مفهوم الهوية، إذ “أصبح أبناء التعديل الوراثي والمعامل وبنوك المنيّ والصفات المشتراة، لا أبناء آبائهم وأمهاتهم المنسوبين إليهم وفق الأوراق الرسمية، والمستندات الحكومية” (ص:87). غير أن هندسة الجينات المتطورة قد تفضي إلى نتائج غير مرغوب فيها (من ذلك حصول “شمس” في عملية التولد الآلي على شعر أسود بدل الشعر البرونزي (ص:126).
– فقدان الأعضاء الجنسية (بحكم هذا التطور الطبي) قيمتها المعهودة في سالف الأزمنة، بحيث لم تعد صالحة سوى للمداعبة، وهو ما جعل عضو المرأة يقترن في ذهن “باسل ” “بالتبوّل والتغوّط ورائحة التعرّق الكريهة” (ص:35).
– 2- المقومات البنائية للنص:
أ- في بنية العنوان:
ينسج العنوان علاقة عضوية بالنص، ويثبت التحامه بمكونات النص ومراتبه القولية، لذلك فإن اختياره يترجم قصدية الكاتبة في الإبلاغ. وينبني العنوان “أعشقني” على الاختزال والحذف الدلالي.ويحمل بكثافته الإيحائية بعدا رمزيا موحيا بنرجسية مفرطة وبالاقتران القائم بين التصرف اللغوي على المستويات الصرفية والتركيبية والدلالية والتصرف الفيزيولوجي الذي ينبني على الاستئصال وإعادة البعث.
ب- مستويات الحكي في الرواية:
تضمن هذا العمل الأدبي أشكالا متعددة من مستويات الحكي أسهم في تنويع الأسلوبوإمتاع عملية التلقي، ولعل أهم مستويات الحكي البارزة بهذا النص:
* الحكي المترابط (المراعي لتسلسل الأحداث)،
* الحكي الداخلي (المونولوج على لسان “باسل”)
* الحكي المسجّل (المتضمن بيوميات “شمس”)
* الحكي العجائبي (الوارد بإقحام مجتزآت أسطورية من قصص الأطفال).
ولا شكّ أن توظيف الروائية مقاطع من قصص الأطفال في المتن الروائي يأتي بحكم أنّ أدب الأطفال يشمل قيما تعليمية وإخبارية شتـَّى، ويتميّز بشخصياته الأسطورية التي تتجاوز بنيتي الزمان والمكان، ويمتلك ميزة التشويق وجذب اهتمام القارئ، وقد عمدت الأديبة ” سناء الشعلان” إلى استثمار مقاطع من حكايا الأطفال (ص97+106)، وصاغتها صياغة جديدة (Reformulation)[2] لتتلاءم مع الموضوعات المطروقة بمتن الرواية، بتحويل بناها من نسقها الشعبي إلى أدب شديد التميّز بأبعاده الفنية والاجتماعية.
ت- حضور الانزياح اللغوي:
ثمة من يعدّ الأدب خروجا عن المألوف في وسائله التعبيرية، ف “كل انزياح لغوي يقابل انحرافـًا (Déviation) عن المعيار”[3]. واعتبر “رومان جاكبسون” مفهوم الانزياح يترجم “خيبة انتظار”[4]، كما اعتبره البلاغيون العرب القدامى “عدولا”. وعلاوة على “العدول” استعمل القدامى جملة من المصطلحات للإشارة إلى الانزياح اللغوي، مثل: الإبداع والابتداع والابتكار والاختراع والعدول والتغيير والانحراف والتحريف والخروج واللحن.[5]
وقد تعددت حالات الانزياح بنص المبدعة “الشعلان”، غالبيتها تخصّ تحوّل وظائف الأفعال من اللزوم إلى التعدي، والعكس صحيح أيضا، كما في: “أعشقني” (العنوان)، و “أراني” (ص:53)، ومردها الامتزاج القائم بين “الذات” و”الآخر” المتخيل بمتن الرواية الذي أفضى بدوره إلى الامتزاج بين الضمائر “هي إياها وإياي، إذن أنا أعشقني، ولذلك فأنا أعشقها” (ص:120).
ث- توظيف جملة من الثنائيات المتقابلة:
ثمة استثمار واضح للثنائيات في مفاصل نص الروائية، فحركة التقابل والتماثل تعمل داخل بنية الرواية بقصدية ملفتة للنظر، ومن أهم هذه الثنائيات بالنص الروائي:
· الأنا والآخر (الذكورة / الأنوثة) بين الاتصال والانفصال:
حضرت ثنائية الذكورة/ الأنوثة بقوة عبر مختلف فصول “أعشقني”( وتحيل الذكورة إلى “باسل”، وهي ذكورة معلولة بعد إجراء العملية الطبية، كما تحيل إلى العاشق المتيّم “خالد” الغارق في الكآبة والتيه، والباحث عن الحقيقة حتى في فضاءات الحديقة السرية (وهو النعت المفضل للكاتبة عند إشارتها إلى حوض المرأة)، كما تحيل الأنوثة إلى “شمس” التي استمرّت باستمرار بعث الحياة في جسدها، وقد خلق الامتزاج/ التصادم بين الطرفين شخصية هجينة هي “السيدة باسل المُهري” (ص:44)، وأفضى إلى لعبة سادية يعذب من خلالها “باسل” جسده الأنثوي (ص:57)، ويبدو كأن الكاتبة رضخت لسنن الطبيعة حين أعقبت مرحلة التصادم مرحلة أخرى قوامها الحوار عبر قراءة “باسل” يوميات “شمس” واقتناعه بأفكارها (ص:76) وتبرر الكاتبة مشروعية هذا التحاور على لسان “شمس” “لا جدوى للذكورة والأنوثة دون فعل التواصل الجنسي الكامل” (ص:95))، ونتج عن التحاور تصالح بين الطرفين بسعادة المستنسَخ “باسل” بتذوّق حلاوة الأمومة مع الجنين الذي يداعب بطنه المتدلية.
· ومن جملة التقابلات الحاضرة بالنص كذلك: ثنائية الحياة/ الموت (موت نبية الكلمة وحياة الرائد الفضائي الذي سيحل بجسدها)، وثنائية النهم (الحرمان)/ الإشباع الغريزي (الحبّ) (وهي مبثوثة في مقاطع عديدة من فصول الرواية، تتشخص في لقاءات العاشقين المحمومة “خالد” و”شمس”)..
· كما أن التعارض قائم أيضا في انتماءات كل طرف من طرفي المقابلة، الطرف الأول (شمس) معارض للسلطات ولقيم المجتمع السائدة ومؤمن بخالق الكون، والطرف الثاني (باسل) مناهض للمعارضة ولكل مبادرات الانشقاق، وجاحد منكر للربوبية (ص: 19).
· بل شمل التقابل المفارقة القائمة بين التطور العلمي الخارق والخضوع للأقدار و”تصاريف الصدف والأفعال العبثية” (ص: 18).
ج- درجات التصريح والتلميح:
يتأكد استلهام الكاتبة لأسلوب الخطاب الصوفي المتخم بالرمزية، ويتردد المتلقي في الحكم على مواصفات الذكورة في نصوص الكاتبة، هل هو حضور يترجم الإقصاء؟ أم يشكّل استدعاءً يتراوح بين الضرورة والندية، الضرورة: من حيث قيام الحياة على التفاعل والانصهار بين الذكورة والأنوثة، والندّية: من حيث تحميل العالم الرجولي مآل الأنثى في المجتمع العربي بما تعانيه من إحباطات متكررة.
وما فتئت تكرر الكاتبة “سناء الشعلان” في أكثر من مناسبة أن نصوصها لا تقصي الرجل، كما لا تحمّله مسؤولية عذابات المرأة، وإنما تندّد كتاباتها بصنوف الألم والاستلاب التي تصيب المرأة والرجل على حدّ سواء في منظومة مجتمعية مدعوّة إلى إعادة النظر في مجموعة من القيم.
ح- شعرية التشكيل السردي:
صاغت الروائية هذا العمل الأدبي بانسيابية نديّة استهدفت من خلالها مقاربة الزوايا الخفيّة للأنفس البشرية (إناثا وذكورا) بجرأةٍ نادرة قلّما تجد مثيلاً عند الكـُتاب، ويعاين المتلقي أن غالبية مجتزآت هذا النص الروائي محمّلة بعوالم جديدة تترجم رؤى شديدة الخصوصية، وهي تعكس بجلاء شعرية اللغة الحكائية.. وغالبا ما يطالع القارئ امتزاج اللغة الراقية بالفكرة الخلاقة للمعاني المبتكرة، وهذا راجع إلى تقديس العاشقين “شمس” و”خالد” للكلمة، فهما كائنان لغويان، لا يُفهمان إلا بالكلمة (ص:141).
خ- نماذج التصوير باللغة السردية:
تميزت الكثير من مفاصل الرواية بحضور صور مجازية واستعارية أكسبت هذا العمل الأدبي فنية وجمالية، من ذلك توالي الأفعال الحركية كما يتبين في قول الكاتبة: “يتعالى في أذنيه صخب آلات كثيرة تهدر وتصفر، وتتكتك وتتجشأ، وتتنفـّس، وتصكّ، وتزفر” (ص:28)، واكتسبت أصوات المتحاورين صورة “نقيق” مزعج (ص: 29)، وأخذت حالات التطور التكنولوجي صورة “الصرع” (ص: 34)، كما تتسلسل مجموعة من الأفعال السالبة (على المستوى الدلالي) في متوالية من الجمل، للوقوف على حجم الدمار الذي مسّ الكوكب الأزرق والجنس البشري، كما في: “هدَر/ دمّر/ أباد/أحرق/ خرق/ هتك” (ص ص:92-93).
ومسّ التصوير شخص الجنين “ورد” الذي هو حصيلة “دفقات ماء الوجود” (ص:115)، وامتدّ إلى نقيض المتعة، إلى “عضّات الجوع المنغرزة في الجسد النحيل” (ص ص:115-116)، وجعل الشمس تسقط نزيفا على الأفق (ص:118) والوفاء يلطخ المكان (ص:118)، وسيول الماء تعبر التمثال (:الجسد) (ص:145) والعينين غائمتين (ص:146)، وهي استعارة تنسج على منوال استعارات بدر شاكر السياب.
د- القاموس الجديد في اللغة الحكائية:
لجأت الكاتبة غير ما مرّة إلى تنويع اصطلاحي، وهي ترمي من خلاله إلى إثبات القدرة على التصرّف في اللغة وتطويعها لترضخ لقيود الكتابة السردية القائمة على الإبداعية، من ذلك التأرجح بين المرادفين “الطول” و”الارتفاع” في الفصل الثالث (ص: 41-49). وبحكم إيمانها بقدرات الاشتراك اللفظي والاصطلاحي على التوليد الدلالي جعلت لفظ “العرض” في عنوان الفصل الرابع (البُعد الرابع: العرض، لا تتجاوز مساحة الكون عرض أحزاني، ص:51) يتأرجح بين بعده اللغوي العام الذي يفيد معنى التقديم وبعده اللغوي الخاص الاصطلاحي الذي يتصل بالمساحة المكانية.
وفي هذا السياق يكتسي البعد الخامس ظلالا متعددة، فهو “حبّ”، و”عشق”، و”سعادة” و”عطاء” (=وصال) (ص:84).
كما عمدت الكاتبة في نهجها الرامي إلى التوليد الدلالي للوحدات المعجمية إلى تحديدات جديدة لمصطلحات معرّفة بمنحها سمات دلالية مستحدثة (Néosymie)،[6] من ذلك تعريف لفظة “الجنس” تعريفا يستمد جوهره من الطاقة، فغدا المفهوم يشير إلى “قوّة تختزل النماء والاستمرار والحياة، وتكفل موثوقية المحافظة على العرق البشري (..) وهو فعل تتكاثف فيه أدوات الجسد والروح والنفس (..) والتعبير عن الفعل الجمعي بذاتية خاصة، وبأدوات خاصة .. ” (ص:95).
ومن ذلك تعريف “القلب” بكونه: “كتلة من الألم والحزن وبينهما يسكن العشق واللذة والحقيقة الوجودية العظمى” (ص:111).
وتعريف “الشيطان” بأنه “كل قوة ضالّة تأمر بالأفعال الآثمة وبالطغيان والتظالم والتحاسُد والكره والقتل، وتنكر على الإنسان ربّه” (ص:113).
ولا ريب أن الكاتبة تستثمر مواصفات الخطاب الصوفي، في ارتباط لغته الغزلية بعشق الذات الإلهية في قولها على لسان العاشق: “اعلمي أني أحبّك حبّا صوفيا لا تقوى اللغة على وصفه” (ص:149)، وتعرّج أيضا على المعجم اللساني في انتقال الحبّ من الدال إلى المدلول (ص:149).
على أن هذا التنويع لم يخلُ أحيانا من كثافة اعتباطية أو قصدية ناتجة بالأساس عن التسرّع كما في المقطع التالي: “انقيادي لكم دون أدنى تفكير أو ترو أو تمهّل أو حكمة” (ص:42)، بحكم لا سلسلية هاته المترادفات.
ذ- بعض الملحوظات العامة:
1- ملحوظات تتصل بالمضمون:
– لقد تخيلت الأديبة “سناء الشعلان” إمكانية استيطان البشرية لكواكب مجرّة درب التبانة دون استثناء أو تمييز بين صالحها وطالحها، وافترضت تواجد “حكومة للمجرة” (ص: 20) مما يعكس تراتبية تصاعدية من الجزئي إلى الكلي (حكومة البلد ـــــ حكومة الكوكب ـــــــ حكومة المجرة) دون التنبه لمفارقات هذا التخيل من ناحية بُعدين من أبعاد الكون، وهما بعدا الطول والعرض، فمجرة درب التبانة شاسعة مترامية الأطراف، يحتاج المرء إلى أربعين ألف سنة ضوئية لعبور أقصر مسافة تفصلنا عن مجرة ألفا سنطروس، ومن ناحية تعذر الحياة على غالبية كواكب المجرة لانعدام الماء والأكسجين (وهما العنصران الرئيسان في الحياة).
– ومن قبيل المحطات التي تدعو إلى التأمل اعتبار الرائد الفضائي “أرمسترونغ” في متن الرواية وطأ القمر منذ 1500 عام علما أن زمن الحكي هو 3010، فهل خضع الزمن للتمدّد أو التباطؤ؟
– درجات التماهي بين شخصية الساردة والشخصية الرئيسة في المتن السردي:
من المؤكد أن هناك حضور لافت للأديبة “الشعلان” في هذا العمل الروائي مما يؤكد أنها شخصية مشاركة في العمل الأدبي، من أمثلة هذا الحضور ما جاء على لسان الرائد “باسل” في وصفه ل”شمس”: “يبدو أن هذه المرأة أخطر ممّا توقعت، وعليّ أن أنزلها في مكانها الصحيح في تقديري، وعليّ أن آخذ الحيطة والحذر، وأقرأ كلّ ما كتبتْ” (ص:71).
وتقول في مقطع آخر على لسان “شمس” فيما يحايث تجربة الكاتبة ذاتها: “إني متخصصة في أدب الخيال العلمي في أساطير الوجود والعدم والفناء (…) ولأن عندي موهبة في كتابة قصة الأطفال..” (ص: 128).
وتستمرّ في نفس المنحى: “لم يبق لي أنيسٌ غير الكلمة والكتابة وشَعري الأسود الجميل وجيشي الكبير المتنامي من القرّاء بعدما شرعتُ أكتب في أكبر المجلات الكونية لحقوق الإنسان، ونزلت ضيفة على أشهر البرامج الجدلية في أكثر من مدينة إعلامية فضائية” (ص:131).
وكأنّ الساردة لا تشعر بنفسها وهي تكرر مساراتها في شخص نبية العصر الإلكتروني، إلى درجة تدفعنا إلى التساؤل عن احتمالية كونهما ذاتا واحدة. علما أنها تردد في أكثر من مناسبة أنها لا تميل إلى كتابة السيرة الذاتية.[7]ومن المرجح أن تصريحات الكاتبة على ألسنة شخصيات العمل الرئيسة تقوم بدور تطهيري مماثل لدور “الكاتارسيس” في الجوقة اليونانية.
2- ملاحظات تتصل بالشكل:
– يتضح من خلال مقاطع من الرواية نفور الكاتبة من عرض دقائق التطور العلمي الذي شهدته الإنسانية مطلع الألفية الرابعة، إذ لا نجد بسْطا لتفاصيل المخترعات التقنية التي تشير إليها، وقد أوردت على لسان الطبيب المعالج للرائد الفضائي ما يثبت هذا النفور، وذلك في قوله: “أمامنا الكثير من التحديات والعلاجات الخاصة لتكييف جسدك مع دماغه الجديد، وهي تعليقات يطول الكلام عنها، كما يطول شرحها” (ص:42). فهل مردّ هذا النفور ضعف البحوث العلمية بمختبراتنا أم راجع فقط إلى رغبة الكاتبة في الاختزال.
– وظفت الكاتبة رصيدا هاما من الرموز الأسطورية، غالبيتها مأخوذة من الحكايا الشعبية، وهي ميزة تستوجب البحث عن مدى انصهار هذه الرموز مع سياق الوقائع السردية. (من ذلك حكاية النوم بصفحة 116).
– على سبيل الختم:
من المؤكد أن رواية “أعشقني” تعدّ من الروايات القلائل التي تنتمي إلى جنس الخيال العلمي، وهي متفرّدة بموضوعاتها الاجتماعية المطروقة، وتحمل رسالة تنويرية للجمهور المتلقي بتحليقها في عوالم الخيال المستند إلى الحقائق العلمية، وهي وإن لم تفصّل كثيرا في دقائق التطور العلمي الذي افترضته، ولم تحافظ على لغة إيحائية في جميع مقاطع الرواية، فإن هذا العمل الأدبي يبقى متميزا ينضاف إلى روائع مكتبة الروايات العربية في هذا الجنس السردي.
– المسارات الإبداعية للكاتبة الدكتورة “سناء الشعلان”:
– حاصلة على درجة الدكتوراه في اللغة العربية من الجامعة الأردنية سنة 2006.
–
الدكتور خالد اليعبودي
جامعة محمدالخامس – الرباط