وكالة الوثائق المؤمنة.. “لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ”
“يمكنني أن أشك في كل شيء إلا أنني لا يمكنني أن أشك في أنني أشك” قالها الفيلسوف ديكارت، وأنا أكررها من ورائه لكن بعبارة أخرى: ” يمكنني أن أشك في كل شيء إلا أنني لا يمكنني أن أشك في أن الإداري المدير العام لوكالة الوثائق المؤمنة يعشق المال إلى حد الهيام”.
من أين لي هذا؟ ! من الزملاء أعضاء لجان ورؤساء مراكز ورؤساء مصالح داخل الوكالة. كيف ذاك؟ بعد أن انتهجت الدولة سياسة التقشف، وضربت وزارة المالية والاقتصاد بيد من حديد على جميع الحسابات التي كان لا رقيب عليها و لا حسيب، بما في ذلك حساب وكالة الوثائق المؤمنة، ضاقت الأرض بما رحبت على الإداري المدير العام لتلك الوكالة، ففكر وقدر في كيفية حل لهذه المشكلة، ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال ما لها إلا شفط ومص دماء ثلاث فئات لا حول لهم ولا قوة: فئة ملاك مقرات مراكز البلديات: عندما أعلنت الدولة عن رغبتها في تقريب الإدارة من المواطن بما في ذلك إدارة الوثائق المؤمنة، قررت الوكالة إيجار مقرات في البلديات لمراكز استقبال المواطنين، وبعد عدة شهور قامت الوكالة بتسديد الدفعة الأولى كعربون يعكس حسن النية، فتفاءل الملاك خيرا واستبشروا وفرحوا، إلا أن فرحتهم أنستهم المقولة الشهيرة: “مخطئ من ظن يوما…..إلخ”، وما هي إلا شهور تترا حتى علموا علم يقين أنهم كانوا مخطئين، فقد مضت أكثر من سنتين ولا فلس واحد يدخل حساب أي مالك من أولئك الملاك، فما كان من أولئك الملاك إلا أن تنادوا مصبحين أن اغدوا إلى الوكالة علها أن تسمعنا بعد أن عجز رؤساء تلك المراكز عن سماعنا، فما إن وصلوا إلى الوكالة حتى جعل سادتها أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا. يقول أحد أولئك الملاك – وهو يصب لعناته على الوكالة ومن فيها ومن حمى حماها – : “أن لا شيء في حياته ندم عليه مثل ما ندم على تأجير منزله لتلك الوكالة، داعيا زملاءه الملاك بقوله: “أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس ….” وسكت ثم أردف قائلا بعد ذلك أن مستحقاته هو وحده على الوكالة بلغت مليون وأربع مائة ألف أوقية”. بقي أن نشير إلى أن البلديات التي بها مراكز لاستقبال المواطنين – عدا المقاطعات – تبلغ 169 بلدية. وعليه فإن إجمالي المبلغ المستحق لملاك المقرات هو: 236 مليون أوقية. فئة أعضاء لجان تحديد الهوية: عندما أعلنت الدولة عن عزمها في إنشاء سجل وطني للسكان، واجهتها مشكلة تحديد الهوية، فارتأت أن تجعل لكل مركز لجنة تحديد هوية، وألقت على كاهل تلك اللجان مسؤولية تحديد هوية المتقدمين للتقييد في سجل السكان، وكلفت الدولة وكالة الوثائق المؤمنة بتسديد مستحقات تلك اللجان، وقد قامت تلك اللجان بمهمتها خير قيام، إذ انطلقوا في مهمتهم وهم يتخافتون ألا يدخلنها اليوم عليكم غريب، وبدأت الوكالة تسدد مستحقاتهم بشكل منتظم في بادئ الأمر، غير أن الطبع يغلب التطبع، إذ ما فتئت حليمة حتى عادت إلى عادتها القديمة، فتوانت الوكالة في دفع تلك المستحقات، ثم ما لبثت أن توقفت نهائيا عن تسديدها. تجدر الإشارة هنا إلى أنه عندما عزم رئيس الجمهورية على زيارته الأخيرة للنعمة منتصف 2016، عزم كذلك مجموعة لا يستهان بها من أعضاء اللجان على اطلاع رئيس الجمهورية أثناء زيارته تلك على مأساتهم المتمثلة في عدم دفع مستحقاتهم، غير أن سادة الوكالة قبيل الزيارة بقليل، بادروا بإرسال تعميم إلى كافة المراكز مفاده أنه سيتم دفع كامل مستحقات اللجان، الشيء الذي اعتبره أعضاء اللجان سابقة حسن نية، فنسوا المقولة الشهيرة كما نسيها الذين من قبلهم، وما إن انتهت الزيارة حتى رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولما تم سؤال الإداري المدير العام للوكالة عن تلك المستحقات على خوف منه، لم يزد على ثلاث كلمات: “أمر تجاوزه الزمن”. يقول أحد أعضاء اللجان – وهو يتمنى زوال الوكالة ومن فيها – : “أنه ما شهد في حياته أمرا كهذا، داعيا زملاءه إلى وقفة رجل واحد في وجه هذا الطاغوت، مشيرا بعد ذلك إلى أنه لم يقبض أي مستحق منذ سبتمبر 2014 وإلى غاية الساعة شأنه في ذلك شأن بقية أعضاء اللجان، ثم أردف بعد ذلك أن مستحقاته هو وحده تبلغ سبعمائة ألف أوقية”. نشير هنا إلى أن مجموع أعضاء لجان تحديد الهوية في عموم التراب الوطني يبلغ 972 عضوا. وعليه فإن إجمالي مستحقات اللجان يبلغ: 680 مليون و 400 ألف أوقية. قد يكون مجموع هذين المبلغين زهيد في نظر سادة الوكالة، لا يلبي حتى حاجيات العطلة السنوية لهم، لكنه حتما يغطي حاجيات كثيرة لؤلئك الملاك وهؤلاء الأعضاء. فئة رؤساء المراكز: لما لم يحرك أولئك ولا هؤلاء ساكنا علم الإداري المدير العام لوكالة الوثائق المؤمنة علم يقين أن لا أحد له بالمرصاد، ولم يبقى إلا موظفوه (رؤساء المراكز) ليشفط شفطة المتعة، فبدأ يسومهم سوء العذاب. بدأ أولا بإرسال مذكرة عمل – تحمل الرقم 402/2016 – مفادها أنه سيتم إدخال رؤساء مراكز البلديات إلى نواكشوط بغية تكوينهم تكوينا جديدا فقط ليس إلا، وكان الهدف من تحديد كلمة التكوين هو أن لا يظن ظان أنه بداية لغلق مراكز البلديات فيثور الرأي العام حول أهم خدمة تم تقريبها للمواطن. ثم مكث الإداري المدير العام للوكالة أسبوعين قبل أن يأمر بإدخال أولئك الموظفين، حتى يرى ردة فعل الرأي العام، فلما لم يحرك أحد ساكنا علم أن المسكنات أتت أكلها.
عندها دقت ساعة العمل فأمر 61 رئيس مركز من أصل 169 بأن يدخلوا نواكشوط على الفور، ومعهم أهم جهاز في المركز، في إشارة خفية أن لا عودة إلى المراكز بعد ذلك، أو بعبارة أصح “وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ”، ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها، قام بتقسيمهم إلى مجموعتين وأدخل كل مجموعة بيتا وغلق عليهم الأبواب، وبعد سبع ساعات من السجن المهين دخل على المجموعة الأولى ومعه أذنابه، في لوحة فنية عجز فيبوناتشي أن يتخيلها في مخيلته، ثم حشر فنادى فيهم: أن لا يكلمه اليوم أحد، وأن لا يقاطعه أحد، و أن لا يستفسره أحد، وأن لا يسأله أحد شيئا، وأن على الجميع أن يستمع وينفذ فقط، لا معقب لحكمه وهو …..، ثم أردف قائلا لهم: فلتعلموا من هذه الساعة أنكم لستم رؤساء مراكز وأن لا يطمع أحد أن يعود إلى حيث كان يعمل، وأنه ابتداء من الشهر المقبل سيتم اقتطاع علاوة المسؤولية وعلاوة الخطر وعلاوة البعد، وأن الحضور سيكون من الساعة 8:00 صباحا وحتى 18:00 مساءا وأن أي تغيب ولو ربع ساعة سيتم اقتطاع يومين كاملين من ما بقي من الراتب، وإن نفد راتب هذا الشهر قبل أن يؤدي ما على الشخص أخذ من راتب الشهر المقبل وهلم جر. ثم ذهب إلى المجموعة الثانية وقال لها مثل ما قال للأولى وأضاف أن ما يجري عليكم سيجري على البقية في قابل لأيام. و بعد يومين أو ثلاثة أيام تم سحب “البادج” من كل أولئك في حركة شبه تصعيدية للموقف. يقول أحد رؤساء المراكز – وهو يشعر بالغضب والاشمئزاز والكراهية – مجيبا على سؤال سألناه له: “إن الهدف من هذا التصعيد واضح، وهو الضغط على رؤساء المراكز واحدا واحدا، حتى يقدموا استقالاتهم فرادى، فيتحقق مراد الإداري المدير العام بذلك، حيث يمكنه بعد ذلك أن يدخل من تحت الطاولة من يشاء من ذويه وأقاربه ومعارفه بحجة شغور المنصب، وأضعف الإيمان أن يبقى الراتب يتراكم لصالحه، ثم أضاف بعد ذلك أنه لا يستغرب على الإداري المدير العام أي شيء إذا ما وضعنا في الاعتبار اقتطاعه لعلاوات أساسية لثلاث نسوة يعملن كرئيسات مراكز لا لشيء سوى أنهن حوامل لا يستطعن العمل أثناء حملهن، في سابقة تجاه المرأة وهي في حالة أحوج ما تكون إلى تلك العلاوات”. وإذا صح هذا الطرح – وآية ذلك واضحة – فإنه من الغريب جدا أن يحدث بعد ذلك احد أمرين أثنين أو كلاهما معا: الأمر الأول: تساقط المغفلين ونعني به الانصياع إلى هذه المكيدة، فترى الذين في عزمهم ضعف يسارعون في الاستقالات يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، ونسوا قول الله تعالى: “فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ”. الأمر الثاني: أكلت يوم أكل الثور الأبيض ونعني به الترقب الذي يساير أولئك البقية في انتظار ما سيحدث لزملائهم، ناسين أو متناسين أن ترقبهم هذا هو عين الحماقة والذل والهوان، فما إن يتساقط المتساقطون من الدفعة الأولى بفعل الضغط والتصعيد، حتى يستنفر الإداري المدير العام طائفة أخرى ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم “إذا رجعوا إليهم”. وما هي إلا أيام معدودات وترى لافتات في أزقة نواكشوط قد كتب على بعضها: “أكلت يوم أكل الثور الأبيض” ولكن حين لا ينفع الندم. وعلاج الأمر كله – في نظرنا المتواضع – في أمرين اثنين: أولهما: التوكل على الله والبدء في التواصل مع كافة النقابات وبدء التنسيق للاحتجاجات في سر وهدوء بين أولئك الذين دخلوا وأؤلئك الذين ما زالوا في أماكنهم، فالمرحلة تقتضي الهدوء التام وعدم التعجل.
ثانيهما: تصعيد الموقف ببث الحقائق عن الوكالة وما يجري فيها من فساد عبر وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة، فقد قال لي أحد رؤساء مصالح الوكالة: “أن لديه من الوثائق والحقائق عن ما يجري في الوكالة ما يجعل الإداري المدير العام يتراجع عن أي نية نواها إذا ما تم التلويح ببث تلك الوثائق”. وال بيت من الزجاج لا يرمي الناس بالحجارة.
“فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ”. “وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا” مجموعة من أطر وكالة سجل السكان والوثائق المؤمنة