رد على الأستاذ محمد ولد أمين في شأن ” نازلة ولد مخيطير ”
الزمان ـ نفي التغرير بنازلة ولد امخيطير (تعليقا على مرافعة المحامي الكبير)
لا أخفي إعجابي بمرافعة المحامي المميز الأستاذ محمد بن أمين من حيث الأسلوب والعاطفة، ومن نواح تحليلية عدة، كتقريره أن تمييز أبي سفيان بميزة شكلية لا ينافي المساواة، كما لا أخفي اندهاشي من هشاشة أكثر استخلاصاتها العلمية والتاريخية والفقهية، فوجدت من المفيد أن أسجل بعض مواطن الإعجاب وأهم مكامن الخلل والاضطراب.
أعجبني ذكاء الكاتب في مدخله البار سيكولوجي الذي يصر على ترجمته واقعيا بكثير من التعسف، يتجسد هذا الذكاء في سعي الكاتب إلى تصيير الدفاع عن المسيء صنيعة معروف تستوجب الكرامة والأجرة من النبي صلى الله عليه وسلم.
لا أنكر أن كلمات الكاتب المتشحة بعباءة الانفعال العاطفي المتصوف في هذا المدخل تكاد تخدع أصحاب المشاعر المتوهجة، كما قد تنجح في مراوغة الذين تهولهم الأساليب الاستعطافية، “في أكثر من مرة وصلت إلى حالة استثنائية رائعة استقر عليها فهمي ومفادها انه : ربما ستتاح لي فرصة نادرة لأقدم عملاً سيسترعي الانتباه وسيصب في مصلحة المسلمين وأن ذلك العمل مرتبط بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أرسل إلي أتعابي مع سبطه سالف الذكر” .
هذا الكلام العاطفي عار من وسائل الإقناع عند أول نظرة عقلية فاحصة، فالأحلام في ميزان العلم قليلة الغناء لا ترقى إلى مجرد الاستئناس.
كيف يمكن أن يتحول الدفاع عن الإساءة للجناب النبوي إلى قربة تدخل على صاحبها من مشاعر السرور والغبطة ما لا يمكن أن يوصف؟
يحاول الكاتب أن يرجع ذلك إلى كونه يقوم بعملية صقل للإسلام وتنقيته مما يتهم به من صلف وعجرفة وإكراه وإرهاب، وتفنيد لما يقال عنه “لقد كنت ولسنوات طويلة، ممن تكفلوا بتمثيل الشعوب المسلمة في دار الكفر، لذلك أعرف-ربما أكثر من غيري- ما يقال عنا في أصقاع شاسعة من هذا العالم الرحيب. وأقر بأنه يحز في نفسي كثيراً سماعهم يقولون بأننا أناس أجلاف وأهل عنف وطيش.. كيف لا وفيهم من أصبح يعتقد ويكتب صراحة ما مفاده أن الدين الإسلامي دين إرهابي يفرض الناس بالقسر على البقاء فيه”
وإني لأخشى أن يكون هذا الكلام إقرارا من الكاتب على نفسه وعلى المسلمين بالعجز عن تحسين صورة الإسلام إلا عبر إنكار ما هو من صميمه، أوعبر التهوين من الإساءة إلى الجناب النبوي كبرهان على سماحة الإسلام، وكأن المحامي الماهر لا يملك ما يفند به تلك الاتهامات وهو المثقف الذي يعرف كثيرا من تاريخ وحاضر أوروبا، يعرف ما حصدت الحرب الثلاثينية (يقال إن نصف سكان ألمانيا راح ضحية لها) وما حصدت الحربان الكونيتان: الأولى والثانية، وما قامت به فرنسا في الجزائر وما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في افييتنام والعراق، وهو يتابع اليوم ما تقوم به السلطات الفرنسية من فرض المسلمات على التعري، وكأنه لا يملك أيضا من الشواهد التاريخية في تعامل المسلمين مع البلاد المفتوحة من سماحة وعدل ويسر حتى بشهادة بعض الكتاب الغربيين كتوماس أرلوند في كتابه “الدعوة إلى الإسلام” ما يرد به تلك الاتهامات!!.
ولأني أجد صعوبة بالغة في أن أتفهم أن يدافع المحامي عمن أساء إلى والده حتى من منطلق عاطفي بحت، لا يمكن إلا أن يكون تفهمي صفريا حين يتعلق الأمر بالدفاع عمن أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا اختياريا، وأرى محاولة إضفاء المسحة الجهادية المخملية الوديعة أقرب إلى تذاكي البلهاء الذين كثيرا ما يندرجون في عموم آيات من سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}.
لقد وفق الكاتب حين نبه إلى خطورة قراءة النصوص قبل التسلح بالأدوات العلمية المعهودة، معللا ما حصل لابن امخيطير بأنه نتيجة منطقية لذلك “ما حصل لولد مخيطير نتيجة منطقية لمن يعاين المتون دون التسلح بالأدوات العلمية المعهودة فيختلط عليه اليقيني بالمحتمل والضعيف بالراجح ثم يلوذ في حيرة وتأزم نحو كتابات أهل الزيغ فينزلق والعياذ بالله، التصدي للفتوى من قبل الجاهل كان دوما وبالاً عليه وحسرة، ومرده استحالة الوصول إلى حالة الجزم واستخلاص الحكم حول أي أمر شرعي لكل من لم يصل إلى مكامن الدراية الكبرى التي تعرف فقهياً بمرتبة الاجتهاد”.
وإذا كان الكاتب وفق في الفكرة نظريا فإنه جانفها كثيرا وهو يمارس القراءة الاستنباطية التحليلية، فجاءت المرافعة مفعمة بالأخطاء العلمية الفادحة، نجمل أهمها في خمس نقاط سأعرض لها بشيء من التفصيل، إلا أنني قبل ذلك أود التنبيه على أمرين لأهداف علمية بحتة:
– الأول: أنه ربما يكون التكييف الفقهي المناسب لما قام به ولد امخيطير طبقا لمذهب مالك ليس الردة، بل سب النبي صلى الله عليه وسلم، ونصوص المذهب المالكي بل عامة الفقهاء حسب عبارة القاضي عياض واضحة في أن عقوبته القتل حدا دون استتابة، قال عياض: “من سب النبي -صلى الله عليه وسلم – أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو دينه أو نسبه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه أو العيب له، فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل” (القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج2 ص214) ويقول الخرشي: “من سب أي: شتم نبيا مجمعا على نبوته بقرآن، أو نحوه مما في معناه، أو سب ملكا كذلك، أو ذكر لفظة من الألفاظ التي ذكرها المؤلف فإنه يقتل، ولا تقبل توبته؛ لأن كفره حينئذ يشبه كفر الزنديق، ويقتل حدا لا كفرا إن قتل بعد توبته؛ لأن قتله حينئذ لأجل ازدرائه لا لأجل كفره” (الخرشي: الشرح الصغير: ج8 ص 70 ).
وإذا كان القانون الجنائي الموريتاني لم ينص على عقوبة السب فإن المادة 449 كانت صريحة في أن “جميع القضايا التي لم تنظم بهذا القانون تبقى خاضعة لمقتضيات الشريعة الإسلامية” ولا شك أن مشهور المذهب المالكي في هذه البلاد يدخل في مفهوم الشريعة الإسلامية دخولا أوليا.
– الثاني: أنني لست من دعاة إعدام ولد امخيطير، ليس لعدم علمي بأنه قد يكون مقتضى مشهور مذهب مالك، وكثير من العلماء، بل لأن حدود الشرع كلها معطلة، والشرع لا يقبل التمييز والانتقائية فتلك ممارسة كهنوتية بشرية لا تمت للإسلام بصلة. كما لا أريد إعدامه لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ومن تلك الشبهات: شبهة كون السب ردة تنفع صاحبه التوبة كما هو مذهب أبي حنيفة وقول في المذهب. أو بعبارة أخرى فليدخل عدم إعدامه في السياسة الشرعية بالمفهوم الفقهي الضيق.
ولنعد إلى الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها الكاتب:
1- إنكار حادثة قتل يهود بني قريظة المتواترة المشار إليها في القرآن إشارة صريحة ففي شأن الأحزاب يقول الله سبحانه في سورتها: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرً}.
حاول الكاتب متنكبا المنهج العلمي أن يلقي اللائمة على ابن إسحق وابن هشام والطبري، متجاهلا أن كل من كتب عن التاريخ الإسلامي أو تاريخ اليهود في بلاد العرب أكدوا هذه القصة بما لا يدع مجالا للشك، بدءا بكتب السنة جميعا وفي مقدمتها البخاري ومسلم، مرورا بالمؤرخين العرب كالمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وانتهاء بالمستشرقين وحتى اليهود كولسون إسرائيل.
يمكن اختصار معتمدات الأستاذ ومن سبقوه من أهل زمانه في ثلاث حجج أساسية:
– عدم اهتمام اليهود بالقضية
– تناقض الإحصائيات
– وجود يهود في المدينة حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وسنتوقف عند كل شبهة من هذه الشبهات:
أ- شبهة عدم مبالاة اليهود:
لحظ الأستاذ أن اليهود لا يعطون زخما لهذه المحرقة وهو ما يجعل وجودها قابلا للشك، والجواب عن هذا من عدة وجوه:
– أن كتاب اليهود بشكل عام لم يولوا اهتماما كبيرا ليهود جزيرة العرب بل منهم من يشكك في يهوديتهم أصلا يقول جواد علي: “يرى بعض المؤرخين اليهود أن يهود جزيرة العرب كانوا في معزل عن بقية أبناء دينهم وانفصال، وأن اليهود الآخرين لم يكونوا يرون أن يهود العربية مثلهم في العقيدة، بل رأوا أنهم لم يكونوا يهودا، لأنهم لم يحافظوا على الشرائع الموسوية ولم يخضعوا لأحكام التلمود5. ولهذا لم يرد عن يهود جزيرة العرب شيء في أخبار المؤلفين العبرانيين وعندي أن عدم ورود شيء عن يهود الحجاز في أخبار المؤلفين العبرانيين لا يمكن أن يكون دليلا على عزلة يهود الحجاز عن بقية اليهود. فقد أهمل غيرهم أيضا ولم يشر إليهم، لأن التأليف الفكري عند العبرانيين كانا قد تركزا في هذه العهود على المستوطنات اليهودية في العراق وعلى فلسطين، وعلى “طبريا” بصورة خاصة، ولم تشتهر الجاليات اليهودية التي انتشرت في مواضع أخرى بالتأليف، فكان من الطبيعي أن تنحصر أخبار اليهود في هذا العهد في هذين القطرين. ولهذا لم يشر إلى يهود الحجاز وإلى يهود بقية جزيرة العرب”.(جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج12 ص 91-92)
– أن استفادة اليهود من الإسلام كانت أعظم بكثير من الأضرار التي لحقتهم منه يقول ولسون إسرائيل: “وينبغي ألا يغيب عن البال أن الخسارة القليلة التي لحقت يهود الحجاز ضئيلة بالقياس إلى الفائدة التي اكتسبها العنصر اليهودي من ظهور الإسلام فقد أنقذ الفاتحون المسلمون آلافا من اليهود منتشرين في أقاليم الدولة الروماية وكانوا يقاسون ألوانا من العذاب. زد على ذلك أن اتصال اليهود بالمسلمين في الأقاليم الإسلامية كان سببا في نهضة فكرية عظيمة عند اليهود بقيت آثارها في تاريخ الآدب العربية والعبرية زمنا طويلا” (ولسون إسرائيل: مقدمة كتاب تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام)
– أن الدولة اليهودية لم تقم إلا في القرن الماضي ومنذ نشأتها وهي في صراع مع العرب ولديهم من المشاكل البينية ما يغني عن البحث عن مغذيات جديدة للصراع، ربما تكون مدخرة إلى وقت الحاجة.
– أن هذا الحكم الذي حكم به سعد هو شريعة اليهود في غيرهم وكما تدين تدان، جاء في سفر التثنية : “حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً( [19] ) أي تستأصلها استئصالاً.
ب- شبهة تضارب الإحصاءات:
لا يختلف اثنان في أن العرب لم يكونوا أمة تتقن الحساب بل كانوا أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، وربما كان الإحصاء الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أول إحصاء معروف حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – : قال : كنا مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : «احصوا لي كم يَلْفِظُ الإسلامَ ؟ فقلنا : يا رسولَ الله أتخافُ علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة ؟ قال: إنكم لا تدرون، لعلكم أن تُبْتَلوْا، فَابتُلينا، حتى جعل الرجل منَّا لا يُصَلِّي إلا سِرا».أخرجه البخاري ومسلم.
لقد كانت التقديرات تقوم على الحرز والتخمين وهو يختلف من شخص إلى آخر، لذلك لا تكاد توجد وقعة لا يختلف في أعداد من حضرها، لعدم صدور الأعداد عن مؤسسات علمية منضبطة، وهذا مما لا يترتب عليه قدح في الرواية، بل المنهج العلمي في هذا أن تقارن الروايات فيعتمد أقواها وهنا يمكن أن نقول إن كتب السنة الصحيحة لم تتعرض للعدد تفصيلا، أما كتب السيرة فتراوحت بين الأربعمائة والتسعمائة، ورواية الأربعمائة ضعيفة لأنها من رواية الكلبي، ورواية التسعمائة تحمل مبالغة باعتراف الناقلين فيبقى الراجح ما نقله أكثر الرواة من أنهم بين الستمائة والسبعمائة.
ج- شبهة بقاء يهود في المدينة
ثبت في الصحيحين فعلا أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي، وقد صرح الشافعي بأن هذا اليهودي هو أبو الشحم من بني ظفر، وبنو ظفر من الأوس وهو ما يعني أنه كان يهودي الديانة لا النسب. أو أنه كان قد ترك قومه وحالف بني ظفر فنسب إليهم وهذا أمر مألوف في المجتمعات القبلية، وما زال يقع في القبائل إلى اليوم.
أضف إلى ذلك أن المدينة لم تخل خلوا تاما من اليهود، فقد بقي منهم من راهق ولم ينبت وهؤلاء لم يتوف النبي صلى الله عليه وسلم عنهم إلا وهم رجال، ولا دليل على أنهم أسلموا جميعا، كما أن كتب السيرة تذكر أنه بقي ثلاثة من رجال بني قريظة لم يلاقوا مصيرهم.
إن إنكار الأستاذ رغم كونه نابع من حسن النية، لكنه مسلك هش، إذ يعني أنه بمجرد أن تثبت الحادثة تاريخيا -كما هو الواقع- يكون ما يقال حولها من شبهات حق وصدق، فكان الأولى أن يكتفي بمسوغ عدالة المحاكمة حتى بالمقاييس الحديثة نظرا لبشاعة الجريمة المقترفة.
2- تجريح الأئمة:
لا ينكر علماء المسلمين أن كتب السيرة وكذلك كتب التاريخ ليست بذلك المستوى الذي عليه كتب السنة من الصرامة في المنهج فهذا الحافظ العراقي يقول في ألفيته في السيرة:
وليعلم الناظر أن السيرا ** تجمع ما صح وما قد أنكرا
لكن الغالب على هذه الكتب الصحة، ومن أراد التشكيك في شيء منها فليفرده بالدراسة مبينا موجبات تركه، أما أن يتنكب ذلك ويستعيض عنه بتجريح من جاز القنطرة من الأئمة الأعلام فذلك سبيل سهل لكنه ليس من العلمية في شيء.
أ- من محمد بن جرير الطبري؟
يقول الذهبي نقلا عن الخطيب البغدادي : “محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب: كان أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في” أخبار الامم وتاريخهم “، وله كتاب: ” التفسير ” لم يصنف مثله، وكتاب سماه: ” تهذيب الآثار ” لم أر سواه في معناه، لكن لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه.” قلت –الكلام للذهبي-: “كان ثقة، صادقا، حافظا، رأسا في التفسير، إماما في الفقه والاجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفا بالقراءات وباللغة، وغير ذلك. (الذهبي: سير أعلام النبلاء ج 14 ص269).
ويقول السبكي: وقال حسينك بن على النيسابورى أول ما سألني ابن خزيمة قال كتبت عن محمد بن جرير قلت لا قال ولم قلت لأنه كان لا يظهر وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه فقال بئس ما فعلت ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت منه قلت (الكلام للسبكي)لم يكن عدم ظهوره ناشئا من أنه منع ولا كانت للحنابلة شوكة تقتضى ذلك وكان مقدار ابن جرير أرفع من أن يقدروا على منعه وإنما ابن جرير نفسه كان قد جمع نفسه عن مثل الأراذل المتعرضين إلى عرضه فلم يكن يأذن فى الاجتماع به إلا لمن يختاره ويعرف أنه على السنة وكان الوارد من البلاد مثل حسينك وغيره لا يدرى حقيقة حاله فربما أصغى إلى كلام من يتكلم فيه لجهله بأمره فامتنع عن الاجتماع به، ومما يدلك على أنه لم يمنع قول ابن خزيمة لحسينك ليتك سمعت منه فإن فيه دلالة أن سماعه منه كان ممكنا ولو كان ممنوعا لم يقل له ذلك وهذا أوضح من أن ننبه عليه وأمر الحنابلة فى ذلك العصر كان أقل من ذلك” (طبقات الشابفعية ج2 ص 124-125)
ب- من محمد بن إسحاق؟
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: “محمد بن إسحاق بن يسار الإمام الحافظ أبو بكر المطلبي المدني مصنف المغازي مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رأى أنس بن مالك وحدث عن أبيه وعمه موسى وفاطمة بنت المنذر والقاسم وعطاء والأعرج ومحمد بن إبراهيم التيمي وعمرو بن شعيب ونافع وأبي جعفر الباقر والزهري وخلق كثير حدث عنه جرير بن حازم والحمادان وإبراهيم بن سعد وزياد بن عبد الله البكائي وسلمة بن الفضل الأبرش وعبد الأعلى الشامي ومحمد بن سلمة الحراني ويونس بن بكير ويزيد بن هارون وأحمد بن خالد الوهبي ويعلى بن عبيد وعدة وكان أحد أوعية العلم حبرا في معرفة المغازي والسير وليس بذاك المتقن فانحط حديثه عن رتبة الصحة وهو صدوق في نفسه مرضى قال يحيى بن معين قد سمع من أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وقال هو ثقة وليس بحجة وقال أحمد بن حنبل حسن الحديث وقال علي بن المديني حديثه عندي صحيح وقال النسائي ليس بالقوي وقال الدارقطني لا يحتج به وقال شعبة هو أمير المؤمنين في الحديث وقال يزيد بن هارون لو كان لي سلطان لأمرت بن إسحاق على المحدثين وأما مالك رحمه الله تعالى فإنه نال منه بانزعاج وذلك لأنه بلغه أنه يقول اعرضوا علي علم مالك فأنا بيطاره فغضب مالك فقال انظروا إلى دجال من الدجاجلة وقد قال بن عيينة ما رأيت أحدا يتهم بن إسحاق وقيل كان قدريا وقال بن أبي عدي كان يلعب بالديوك والذي تقرر عليه العمل أن بن إسحاق إليه المرجع في المغازي والأيام النبوية مع أنه يشذ بأشياء وأنه ليس بحجة في الحلال والحرام نعم ولا بالواهي بل يستشهد به مات سنة إحدى وخمسين ومائة ( طبقات الحفاظ ج1 ص 130)
وقال المزي في تهذيب الكمال: ” وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات بن إسحاق غير واحد من العلماء لأسباب منها أنه كان يتشيع وينسب إلى القدر ويدلس في حديثه فأما الصدق فليس بمدفوع عنه وقال البخاري رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق قال وقال علي عن بن عيينة ما رأيت أحدا يتهم بن إسحاق قال قال لي إبراهيم بن المنذر حدثنا عمر بن عثمان أن الزهري كان يتلقف المغازي من بن إسحاق فيما يحدثه عن عاصم بن عمر بن قتادة والذي يذكر عن مالك في بن إسحاق لا يكاد يبين وكان إسماعيل بن أبي أويس من أتبع من رأينا لمالك أخرج إلي كتب بن إسحاق عن أبيه في المغازي وغيرها فانتخبت منها كثيرا”(المزي: تهذيب الكمال ج 24 ص416).
هكذا يتضح أن الصدق ليس مدفوعا عن ابن إسحاق وأن كلام مالك فيه لم يؤثر حتى على أقرب الناس إليه (إسماعيل بن أبي أويس أكثر تلاميذ مالك اتباعا له وهو ابن أخته). والعارفون بعلوم الحديث يجعلون كلام مالك وابن إسحق في بعضهما من كلام الأقران الذي لا يعتبر.
ج- من عبد الملك بن هشام:
قال الحافظ العراقي في ” ذيل ميزان الاعتدال “عبد الملك بن هشام أبو محمد النحوي الأخباري، مهذب السيرة لابن اسحاق، ثقة، لكن رأيت الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي قد تكلم فيه فقال : ليس ابن هشام ولا زياد بن عبد الله البكائي بالمثبتين عندهم . قال ذلك في جواب له عن ما أخذ على سيرته . أجاب ابن المخلص وثقه عبد الكريم بن المنير الشافعي . اهـ (العراقي: ذيل ميزان الاعتدال ص152)
يذكر أن ابن هشام لم يزد على تهذيب سيرة ابن إسحق وتخليصها من بعض الروايات والأشعار التي لا تثبت.
3- التعسف في تأويل النص:
من أشد ما وقع فيه الأستاذ وحمله على التشنيع على ابن جرير، ذلك التفسير الغريب لكلمة (مقاتلة) التي يعترف بصحتها لورودها في البخاري – هي في الصحيحين- فقد فسرها الأستاذ بأنها تعني القادة، ولعمري لقد أبعد النجعة، ولا أدري من أين جاء بهذا التفسير المخالف لما في كتب اللغة المجمعة على أن المقاتلة هم من يصلح للقتال، ففي الصحاح للجوهري:” المُقاتِلَةُ، بكسر التاء: القومُ الذين يصلحون للقِتالِ” وفي لسان العرب: والمُقاتِلة الذين يَلُون القِتال بكسر التاء وفي الصحاح القوم الذين يَصْلحون للقتال” ويشرح الفيومي في المصباح المنير: ( قَاتَلَهُ ) ( مُقَاتَلَةً ) و ( قِتَالا ) فهو (مُقَاتِلٌ) بالكسر اسم فاعل و الجمع (مُقاتِلُونَ) و (مُقَاتِلَةٌ) و بالفتح اسم مفعول و (المُقَاتِلَةُ) الذين يأخذون في القتال بالفتح و الكسر من ذلك لأن الفعل واقع من كلّ واحد و عليه فهو فاعل و مفعول في حالة واحدة وعبارة سيبويه في هذا الباب (باب الفاعلين والمفعولين اللذين يفعل كلّ واحد بصاحبه ما يفعله صاحبه به) ومثله في جواز الوجهين المكاتب و المهادن وهو كثير وأما الذين يصلحون للقتال ولم يشرعوا في القتال فبالكسر لا غير لأن الفعل لم يقع عليهم فلم يكونوا مفعولين فلم يجز الفتح”
بهذا التفسير المخطئ نصب الأستاذ خلافا بين الطبري والبخاري لا وجود له فالعارفون باللغة يعلمون أن قتل مقاتلتهم = قتل رجالهم لا فرق إلا أن يكون رجل لا يصلح للقتال.
4- العاطفية في الترجيح والتزكية:
يطرح الأستاذ إشكالية صفة العالم وعلى من تطلق ليخلص من ذلك إلى الإعراب عن خشيته “من اعتماد الهوى كمعيار شرعي لتصنيف العلماء” مومئا إلى أن المألوف ليس صحيحا ولا قويا بالضرورة، وذلك مدخل نتفق معه فيه، لكننا نراه ناقضه حين عمد إلى تزكية أشخاص معدودين مقابل علماء الأمة في القديم ولحديث فسرد آراء الشنقيطي ومحمد المهدي بن البشير ومن على شاكلتهما فعل عاطفي لا ينتمي إلى ميدان الترجيح العلمي، وهو طعن ضمني في مبدأ الإجماع المستقر قبل ميلاد هؤلاء والإجماع يعد ثالث أسس التشريع الإسلامي كما لا يخفى.
إن الخروج على المألوف مزية وتجديد حين يحفه من الأدلة والبراهين ما يكسبه القوة والرجاحة، أما حين يركن إلى الشبهات والمشوشات فهو شذوذ وانحراف.
قد يكون الخروج على المألوف مغريا في الموضة والأزياء، وحتى في الإبداعات الأدبية، أما في مجالات العلوم فسلامة وقوة الأسس والمنطلقات هو وحده ما يكسب القيمة العلمية للرأي العلمي.
وأهتبل هذه الفرصة لأضع بين يدي الأستاذ روابط مقالات كتبتها في الموضوع، إن لم يكن سبق له اطلاع عليها، وليعلم أنه ما كل من كتب عن ولد امخيطير لم ينقض الحجة بالحجة:
مقال “الجرف الهاري” في الرد على ولد امخيطير:
http://www.rimnow.com/a/78-20…/2233-2014-01-04-09-10-05.html
مقال “التبيين لتهافت مراجع البنتاكون والعلمانيين” (نقاش في حد الردة):
http://www.rimnow.com/a/78-20…/2295-2014-01-14-15-40-16.html
مقال “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم” (نقاش في حد الردة):
http://rimnow.com/a/78-2012-1…/2247-2014-01-06-20-38-45.html
5- تقزيم السوابق التاريخية دون تعليل:
يرى الكاتب أنه عبر التاريخ الإسلامي لم تعرف محاكمات لمتهمين بالردة إلا في ثلاث حالات ورغم أنه يمكن إحصاء حالات كثيرة فضلا عن حالات المذكورة في كتب السنة التي تعرضت لبعضها في المقالات أعلاه وكقصة الجعد بن درهم وابن المقفع وصلاح عبد القدوس وغيرهم، إلا أنه تجاهل التنبيه على أن الحدود الإسلامية عموما قليلة التطبيق في التاريخ الإسلامي خاصة حد الردة، لاعتبارات شتى منها تعذر الثبوت الشرعي بغير الاعتراف، ومنها قبول التوبة، ومنها درء الحد بالشبهات وحمل الكلام على أصلح محامله، ومنها تجاوز السلطات، إلى غير ذلك من الأسباب التي لا يمكن لمستحضرها أن يومئ إلى عدم عراقة الحد في التشريع الإسلامي.
الأستاذ محمدن بن الرباني