بين الحِوار و الحَـــوار / باباه سيد عبد الله
بعد تعديل دستور بلاده سنة 2003، اعتبر الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، أن له الحق فى الترشح لولاية جديدة، إذ أفتاهُ حَواريُّوه بأن “إسلام” تعديل الدستور يَجُبَّ ما قبله من “كُفْر” المأموريات السابقة.
كانت خطة “المخلوع” رباعية الأركان: (1) تعديل الدستور واعتباره بداية لجمهورية جديدة (2) إعلان الحق فى الترشح لولاية أخرى(3) إعلان التنازل عن هذا الحق وإبداء الزهد فى الرئاسة (4) الايعاز إلى الحزب الحاكم وأجهزة الدولة بتسيير مظاهرات شعبية وإطلاق حملة مليونية لجمع توقيعات تطالب “الزعيم” بالترشح. ويتذكر العالم بقية مَشاهد تلك المسرحية الهزلية : تأكيد “المخلوع” يوم 21 يونيو 2006 عزمه “عدم الترشح للانتخابات المقبلة”، ثم خروجه على الملأ يوم 24 يونيو 2006 (أي بعد ثلاثة أيام فقط) ليعلن ” قبوله للضغوط الشعبية” التي مُورست عليه للترشح لولاية جديدة!!!. ما أشبه الأمسَ اليمني باليوم الموريتاني. وما أخوَفني على موريتانيا من مصير اليمن المتقاتل والسودان المقسَّم، ولا أظن الرئيس الموريتاني يحسد “المخلوع” على مآله، ولا الرئيس البشير على تقسيم بلاده، وعلى شبح محكمة الجزاء الدولية الذي يلاحقه. إن السيناريو الذي يُملي الرئيس الموريتاني جُمَلَه المفكَّكَة على حَوارييه فى “الحوار الوطني الشامل” لا ينبئ بالخير لموريتانيا ولا للرئيس نفسه. قبل سنتين، بذل النظام العزيزي المال والتزكية لتقديم “بيرام ولد الداه” كخطر فئوي داهم يجب التصدي له، و سخَّر إعلامه ودولته العميقة لرهنِ مستقبل موريتانيا بالخيار بين خطابه (أي النظام) و خطاب الفئوية والتفرقة الذي حرص على أن يحل ثانيا بعده فى ترتيب نتائج الافتراع . وها هو اليوم يوهم الشعب الموريتاني بأن خطر “اللون البيرامي الواحد” قد زال مؤقتا،لكن خطر ” الألوان القُزحية” و “افْلامْ” محدق بموريتانيا، وأنه ( أي النظام العزيزي دائما) وحده الكفيل بتكسير نبال “إيرا” و أقواس “قزح وافْلام”. الواقع أن أزمة موريتانيا من أزمة رئيسها الذي يبحث عن مخرج آمن وبأقل الخسائر، بينما يُعطي الانطباع بأنه فى أعلى مراتب القوة، وأنه فى غنى عن الحوار، وأنه …وأنه… تحت تأثير هذا الانطباع أمَّ “الحوارَ الوطني الشامل” خلقٌ من معسكريْن : (1) مُوالون ربطوا مصائرهم بمصير النظام القائم وجاهزون للَعب كل الأدوار إلا تلك التي تُخرج رئيسهم من عنف الزجاجة دون أن تنكسر ، و (2) مُحاورون يرضوْن من المتغلب بما يتنازل عنه وقناعتهم أن ما لا يٌدرَك كله لا يُترك بعضه، وأن المفاوض قد يُلدَغ من نفس الجحر مرتين !!! فى المعسكر الأول ناطقون مثل “الصَّحَّاف” يبالغون فى الحديث عن قوة الزعيم والقائد الملهم، بينما “بغداد” آئلة للسقوط، ومهرجون تم تجييشهم لإلهاء الناس بالدعوة إلى تغيير النشيد والعلم الوطنيين و إلى تقديم البيعة للملك عزيز،وسياسيون يبحثون عن إكسير لإطالة عمر النظام بطبعة موريتانية من السيناريو اليمني. فى المقابل، غاب معسكر ثالث عن “مائدة” الحِوار واعتبر أن لا فرق بين متابعة المسرحية مباشرة على خشبة قصر المؤتمرات ومتابعتها بعض المونتاج. لقد تخلى هذا المعسكر عن وطن فى خطر،واستسلم للأمر الواقع فى لحظة مفصلية كان من الضروري أن يناضل فيها على واحدة من جبهات النضال من أجل موريتانيا ، بدل أن يتفرج عليها وهي تساق إلى الخيار بين الكوليرا والطاعون : بين الفشل المحتوم والعنصرية المقيتة. وأيا كان اللقب الذي يريده عزيز أو يُرادُ له ( الامبراطور،أو السلطان المعظم،أو صاحب الجلالة…) فلن يكون إلا مسْحًا على جبيرة الخوف من المستقبل الذي يسكنه. ساعدوه على الخروج الآمن ، مادام متاحا بأقل الخسائر، فذلك أسلم له و لموريتانيا، وذلك ما يبحث عنه فى قرارة نفسه، بعيدا عن عنتريات السلطة والنفوذ.