الجواهـري في حديث خاص لسامي مهدي عن البيئة والتمرد والصحافة والنقاد… والشعر الحر (2)

قراءة وعرض: رواء الجصاني

 

445هذا هو الجزء الثاني والاخير من حوار اجراه قبل خمسة وأربعين عاما، وفي حزيران/ يونيو 1971 تحديدا، الشاعر والكاتب سامي مهدي، في بغداد، مع الجواهري الخالد، نشره في مجلة “المثقف العربي”(*) تميز بالصراحة والجرأة وفي اختيار المحاور، فضلاً عن الأستنطاق- بتعبير استعاري- خاصة وان  الاجواء في البلاد العراقية كانت  متشابكة،  ثقافيا وسياسيا – على اشمل وصف.

وقد أرتأيت وأنا في “معمان” الارشيف الجواهري العامر، أن أعيد نشر الحوار، بقسمين، لتميزه كما أسلفت، وبشكل شبه كامل، بأستثناء بعض الأيجازات، وإضافة عناوين فرعية، فضلاً عن هوامش توضيحية، كما ازعم … وها هو القسم الثاني والاخير في التالي:

sami-mahdiالشاعر سامي مهدي 445الشاعر الكبير الجواهري

يكتب سامي مهدي، مستهلاً محورا جديدا في حواره مع الجواهري:

“كان ابو فرات يتحدث عن الصحافة بشغف، وعلى أية حال فانني أعتقد بأنه لم يعد قادرا على ممارستها فهي اليوم غيرها بالأمس، وكذلك الجواهري نفسه. اما عن السياب فلست أدري كيف تحول الحديث من الصحافة اليه، ولكنني لمست من جانب ان الجواهري يحترمه، وبدا لي من جانب آخر ان الجواهري كان يريد ان يؤكد بيعة السياب له… ثم نظرت اليه ورأيت في تجاعيد وجهه وفي اضطراب عينيه ويديه ألف رحلة ورحلة. فقلت: ما تأثير السفر عليك يا ابا فرات؟”.

* ويردّ الجواهري:

“ان السفر يجدد مزاجي ويريني في كل مرة عالما لم اكتشفه ولذاك فأنا مولع به، وقد ازداد هذا الولع منذ ان تقدم بي العمر، لقد رأيت بلدانا كثيرة ومع ذلك فانني لو خيّرت اليوم لبتّ كل ليلة في مكان جديد من العالم. والسفر يؤثر في ولاشك وبخاصة اذا طال.

ففي السنوات الطويلة اهتز واكتب. على انني مهما سافرت وأسافر فلن أنسى براغ العظيمة والسنوات العشر (2) التي قضيتها فيها. انها من اجمل سنوات عمري واقربها الى نفسي. ان براغ تمنحني طاقة على مواصلة الحياة وتعطيني الكثير من التفاؤل. أجل أنا مولع بالسفر، وربما كان لفوضاي الخاصة علاقة به ايضا.

 الفوضى تلازم الموهوبين

* ويلتقط سامي مهدي الجملة الأخيرة من الاجابة السابقة ليسأله: “حسنا، وكيف توازن بين فوضاك وبنائك الشعري المحكم؟”.

* ويجيب الجواهري:

“أظن ان تناقضا من هذا النوع ملازم للموهوبين. أنا لا أدري كيف يحصل هذا التناقض، ولكنني أعتقد ان بنائي المحكم هو بديل لفوضاي، ان الانسجام من شأن ذوي المناهج الثابتة في الحياة، وأنا لا أمتلك نهجا ثابتا لحياتي. وعلى أية حال فأنا أعتقد ان هذه الفوضى أشبه بحلية الطراز وأنا ان حاولت التخلص منها فأنني سأتكلف، وسيكون ذلك على حساب الشعر حتما. كثير من الشعراء حاول ان ينسجم، حاول ان لا تعيبه عدوى الموهوبين، فكان ذلك على حساب الشعر.

مجتمعنا لا يساعد على تفتح العبقريات

* ويكتب سامي مهدي في سياق الحوار “بعد هذه الحديث عن خصوصيات الجواهري، وبعد ان أخذت الذكريات من الجواهري مأخذا كبيرا، حاولت ان أحول الحديث الى نطاق آخر الى نطاق الشعر نفسه، فقلت له هناك روايات عديدة تروي عن مدى اعتدادك بشعرك فهلا اخبرتني يا ابا فرات عما اذا كنت قانعا بما بلغته من مستوى شعري وعما اذا كنت تتمنى ان تحقق شيئا في شعرك لم تحققه؟”.

* ويـردّ الجواهري، مسهباً:

“لست قانعا بالمستوى الذي بلغته في الشعر، لان الذي بقي في نفسي ودمي وقلبي وذهني كثير جدا مما يطفح ويعجز الحرف عن تلفظه. طالما رسبت عندي خلجات وأفكار وعواطف، يعجز الحرف عن ان ينهض بها. بعض الرواسب يختمر لمدة طويلة فتطفح بشكل آخر، وفي حين آخر، حتى لافاجأ بها وكثيرا ما اخذتني حيرة في شيء جاء ولم اكن أتوقع له ان يجيء”. ويضيف:

“هذا بصورة عامة، وبصورة خاصة أنا أتحايل في مواقف عديدة على الفكرة التي لم استطع ان آتي بها كاملة فأحاول أن اجرها جرا وأجسدها، فأما ان تأتي كما أردت واما ان ينبع منها او حولها شيء جديد انها عملية قنص كما ترى، وهي عملية لذيذة على أية حال. أعود فأكرر انني غير راض عما بلغته، وبخاصة عندما أرى الأدب الغربي.

فقد بلغ هذا الادب مستوى عالياً لم يبلغه أدبنا. وبطبيعة الحال ان الذنب في هذا ليس ذنب الحرف العربي وانما هو ذنب مجتمعنا. ان مجتمعنا لم ينطلق بعد كما ينبغي الامر الذي لم يساعد على تفتح العبقريات والمواهب تفتحا كاملاً ولم يهيء لها مجالات كافية للازدهار. نحن مكبلون بألف قيد في هذا المجتمع والشواهد على ذلك كثيرة. ويكفيك شاهداً انني الان لا استطيع ان احدثك عن عقد مجتمعنا بصراحة. ترى الى أي مدى نستطيع الحديث الان عن العلمانية؟ بل الى أي حد بلغت علمانيتنا؟ انني اقصد بهذا علمانية الجذور لا علمانية الادعاء. ان أيا منا الان لا يستطيع ان يناقش بصراحة أي أمر له علاقة بالدين. لأن ألف مدع ومدع سيتصدى له ليكفره ويحض الناس على رجمه، وهذا مجرد شاهد”.

الجواهري: لا أعرف نقاداً..أعرف شتامين

* وينقل سامي مهدي الجواهريّ الى شأن آخر، وهو موقفه من النقد والنقاد، ويجيب الجواهري وبنوع من الانفعال حتى، كما توشي بذلك، بل تصرح اجابته:

“النقد، أي نقد؟ وهل ثمة شيء عندنا يستحق ان نسميه نقداً؟ أنا لم أعرف غير شتامين، واذا أردت شيئا غير ذلك فأنني أقول لك أنني لم أُدرس دراسة كافية. بالطبع أنا أشكر كل من اهتم بدراستي لينصفني وينصف الحقيقة، حتى المرّ منها، أنا أشكر منصفي الحقيقة أكثر لأنني أحب الرجل النزيه الذي يقول ما هو لي وما هو عليّ. عليّ أن شكري لا ينسحب على الفئة التي تستغل النقد لنفث أحقادها، وهؤلاء آلموني وأساءوا اليّ ولكنهم آلموا أنفسهم أيضاً وأساءوا اليها لأنهم نالوا جزاءهم من الجمهور ومن التاريخ وبعضهم يعترف بأنه دفع الثمن”. ويتابع الجواهري:

“دعني أضرب لك مثلا. ثمة (شخص) عمله ونزعته ومهماته التي اشغلها من قبل وحتى الآن، الأدب والحرف والكلمة والتأليف. ولقد جمعتني بهذا (الشخص) روابط كثيرة منها البيئة والألفة. واستمراراً لهذه الروابط حاولت في الانتخابات الأولى لاتحاد الأدباء العراقيين (3) ان يفوز. كانت الانتخابات قد جرت في بيتي في الأعظمية، وقد تمت بأقصى ما يمكن من النزاهة، برغم ان الجو كان يساعد على التمييز لجماعة دون جماعة. فما كان مني – وهذا لا يجوز – الا ان نصصت عليه بالأسم، وعلى واحد غيره، حباً مخلصاً في ان يكون في الهيئة الادارية للاتحاد. ولقد كان الحاضرون من أصحابي يودون ان يلبوا رغبتي، غير ان الذي حدث هو انه لم يحز إلا سبعة أصوات من بين عشرات الأصوات التي حازها الآخرون. وهكذا فشل.

* ويخلص الجواهري، بعد ان فصل في تلك الحادثة ليتابع اجابته على سؤال سامي مهدي:

“لقد آلمتني هذه النتيجة يومئذ فأعربت له عن أسفي وودعته باعزاز حتى الباب الخارجي، غير ان هذا كان آخر العهد بيني وبينه. فبعد سنة أو سنتين ودونما أي مبرر أو توقع قرأت له مقالا فلم أصدق للوهلة الأولى انه هو الذي كتبه لم يكن المقال مدحاً أو ذماً انما كان مقبولاً فحسب. غير انه سرعان ما اتبع هذا المقال بآخر لم يكن فيه أي درجة من النزاهة، ولم يكن اهلا لأن يحترمه أصغر كاتب. هذا نموذج من (النقد) الذي حدثتك عنه. وقد كنت أستطيع الرد عليه لأن كل الوسائل متوفرة ولاسيما المفردات غير انني سكت وكظمت.

ثمة شعراء يركضون  قبل ان يتعلموا المشي

* ويعلق سامي مهدي في الحوار المنشور:

“لقد كان الجواهري كثير المرارة وهو يتحدث عن هذه الحادثة، ومع انه صرح لي باسم ناقده، الا أنه ألمح عليّ في عدم نشر اسمه، ومهما يكن فانه في العادة لا يرحم من يتعرض له، فله في هجاء ناقديه – أكثر من قصيدة، وكثير من شعره لا يخلو من التعرض لهم…”  ثم يسأل الجواهري عن رأيه بمقلديه، فيجيب:

“لقد قلدني عدد كبير من الشعراء، ولاسيما من الشباب. ورأيي انه لا غضاضة في هذا التقليد، فهو طبيعي، وهم انما يقلدون المثال. ولعلي فعلت ذلك قبلهم. على ان هناك فئتين ممن قلدوني أحدهما أخذت المثال وأعطت من نفسها شيئا فأبدعت، والثانية ظلت في حدود التقليد المحض واني لأتمنى لها ان تبدع أيضا فأمامها زمن طويل ومجال فسيح”.

* ووفق سامي مهدي فقد بدا الجواهري كثير الحنان على مقلديه. واضاف:”لقد كان يتحدث عنهم كما يتحدث الأب عن أبنائه الصغار. وقد ذكر لي منهم أسماء عديدة نجفية وأخرى بغدادية، الا انه طلب عدم ذكر هذه الأسماء تحسبا من عتاب أو لوم أو مكابرة. واستكمالاً للحديث كان لابد أن أسال الجواهري عن رأيه بواقع الحركة الشعرية في الوطن العربي”.

* ويجيب الجواهري:

“يمر الشعر العربي في مرحلة حرجة، ذلك ان فراغا مخيفاً يحدث اليوم، وقد بات من الصعب ان يملاً الشاغر الذي يتركه الشعراء الذين يشغلون الناس ومع انني لا أنكر ان هناك أجيالاً تتمخض وتبحث لها عن طريق، الا ان الذي يذهب لا يعوض بسهولة، بخاصة وان العصر يتطور كثيراً وبأسرع مما نلحق به حتى على مستوى الشعر. على ان هذا الفراغ يبدو أكبر في العراق مع انه بلد الشعر، ذلك لأن العبقريات نادرة ويصعب تعويضها بحكم طبيعة الحياة”.

* ويضيف الجواهري الى اجابته السابقة:

“وبرغم ما قلته فانني لست متشائماً، ولكنني متألم فحسب، فثمة في العراق من يركض قبل ان يتعلم المشي، وثمة حوارات يضيع فيها الوقت ولا يعلم الناس عم تدور. اما بالنسبة لي فان أنا ذهبت فسأترك فراغاً كبيراً لن يعوض الى أمد طويل جدا. أقول هذا وأنا زاهد في الدنيا.

وأما بالنسبة لحركة الشعر الحر فانها وبدون ظلم للحقيقة، لن تسد الفراغ، وذلك لعدم تبلورها. ان الموجود والمستمر من هذه الحركة أثبت انه لا يسد فراغاً. ومقياسنا في ذلك ان الشعر الحر لم يدخل البيوت بعد ولم يستشهد به. بمعنى انه لم يتخذ له بعد مكانة الشعر. واما بالنسبة للحركة التالية فهي أقل تبلوراً من سابقتها ولا يصح الحكم عليها منذ الآن.

* وفي الأخير يكتب سامي مهدي، نهاية الحوار، فيقول:

“بهذه الآراء الصريحة اختتمت الحديث مع الجواهري، فلقد أتعبت الرجل وأخذت الكثير من وقت راحته. وعلي أية حال فان الحديث مع ابي فرات طريف، وحسبنا منه هذه الطرافة، وحسبنا من الجواهري انه الشاعر الذي لن يعوض بمثله”.

هوامـــش واحـــالات

* الحوار منشور في مجلة المثقف العربي / العدد الثاني / السنة الثالثة / حزيران 1971.. وقد ضمه، وعددا من المقابلات الاخرى، مؤَلف  موسوم (حوارات مع الجواهري) للكاتب والاعلامي محمد صالح عبد الرضا، صدر عام 2013 ضمن سلسلة شهرية  تصدر عن دار الشؤون  الثقافية العامة، في وزارة الثقافة العراقية. وقد اعتمدنا النص الذي قرأناه وعرضناه اعلاه، على المنشورفي  ذلك المؤًلف- ر.ج

 (1) تفاصيــل موسعة عن القصيدة ودوافعهــا، وتداعياتها، مثبتــة في الجزء الثاني من “ذكرياتي” للجواهري، الصادر في دمشق عام 1991 – ر.ج

(2) السنوات العشر: (1961-1971) – ر.ج

(3) جرت الانتخابات المشار لها عام 1959 – ر.ج

———————————————————-

المصدر: مركز الجواهري/ براغ

 

الجواهـري في حديث خاص لسامي مهدي عن البيئة والتمرد والصحافة والنقاد… والشعر الحر1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى