هؤلاء بَـكـَـوْهُ بأحرف فرنسية/ محمد فال ولد سيدي ميله
كان فقيد الإعلام، حبيب ولد محفوظ، رأسَ حربة معركة حرية التعبير في زمن الصمت المخوف. كان مناضلا حقوقيا من الطراز العنيد العتيد. أسس مع العميد بوبكر ولد مسعود ورفاق آخرين، منظمة نجدة العبيد. كان لا يساوم في ما يراه عدالة وإنصافا. كان كاتبا فذا يمرر أفظع الفظاعات السلطوية في ثوب ساخر متهكم لطيف، فيجرك إلى القراءة، فالقراءة، دون قصد منك. لم يكن المغفور له شاعرا، سرياليا وواقعيا معًا، فحسب، بل كان يسوق قطعان النثر إلى حيث يريد لها أن تشرب منساقة، صاغرة، طيـّـعة.
بنظرة عجْـلى إلى “موريتانيدات” حبيب، تتأكد، دون عناء، أنه يمقت الأساليب المباشرة، وأنه يمهد لفكرته بمقدمات بعيدة المرام، سهلة الألفاظ، غير بديهية لمن لا يقرأ ما بين السطور. لننظر قليلا إلى الحوزة الترابية الموريتانية: من كوكي الزمال إلى نواذيبو، ومن لمغيطي إلى انجاكو. هل فكرتْ السلطات، من كل الأنظمة المتعاقبة، في تنمية كل هذه المساحات والمسافات المترامية بالقليل المتبقي من المنهوبات؟ هل بذلت مجهودا في نشر التعليم في كل رحاب هذه البلاد المترامية؟ هل وفرت الأمن على طول وعرض أرض موريتانيا الشاسعة؟ هل تستطيع، بما تبقى من إمكانات نجت من النهب، أن تعالج المرضى، وتعيل الفقراء، وتزرع الأرض، وتبني المدارس، في شعاب وأودية هذا الفضاء المترامي إلى ما لا نهاية؟. أسئلة تتبادر إلى الذهن عند قراءة الفقرة التالية من إحدى روائع الفقيد: “ككل أطفال البيظان في مثل عمري، بدأتُ بأكل التراب.. كنت مرغما طبعا إذ لم يكن يوجد حينها غذاء للصبية الصغار.. كان الأهل يفعلون كل ما في وسعهم عسانا نتوقف عن أكل التراب.. غير أن مجرد إلقاء نظرة على خريطة موريتانيا تجعلنا نتأكد أن معركة الأهل خاسرة سلفـًا!”.. نعم، ذلك هو الأسلوب “البَدّاحي” العميق كآبار أوكار، الواسع كصحراء لمْـريّه، الطري كالصمغ في “سيرات” إكيدي. لقد عبر كــُـتاب اللغة العربية، كل حسب اطلاعه، عن مكنونات هذا النجم الساطع-الآفل. إلا أن قراء العربية لم يطلعوا، أو قليلا ما اطلعوا، على ما سطرته أقلام المفرنسين من شهادات وفهوم لإبداعات الفقيد. فلننتهز فرصة ذكرى رحيله الحزين، يوم 31 دجمبر، لنكشف النقاب عن بعض ما خلدوا من مآثره في الصحف والمجلات الفرنسية. يقول الإعلامي المؤرخ، والدبلوماسي الحقوقي، المغفور له محمد سعيد ولد همدي: “كان حبيب بيظانيا يكتب الفرنسية بسليقة لغته العربية الأم. كانت نصوصه تـُـقرأ في ثلاثة أبعاد: البُعد الظاهر، وبُـعد التورية، وبُـعد الحوار الإكيدي المُـشفــّـر. إذن الغمزات المثيرة وكلمات الحسانية “السوداء” تعطي لكتاباته نكهة أصيلة لا تضاهى، كما تعطيها شعورا، لا جدال فيه، بالندرة والكمال”. وبذهب الباحث الراحل، محمد سعيد، إلى كنه الفقيد حبيب واصفا إياه بأنه: “كان واحدا من متصوفة الإعلام، واحدا من بابَـوَاتـِـه، واحدا من أرائج زهوره. إنه يملك ريشة (وأية ريشة!) يستخدمها ويستغلها تماما كما تفعل المطربة فيروز بحنجرتها”. رحيلُ حبيبنا بدّاح ولد سيدي ولد محفوظ، ذكـّـر عميد الإعلاميين الراحل محمد سعيد بصحفيين مروا ذات يوم بهذه الفانية، ولعبوا أدوارهم في المشهد المرير، ثم انصرفوا، متمنيا لو شكل الإعلاميون الأحياء “مرصدا للديمقراطية والحريات العامة” تمجيدا لذكراهم. وخص الفقيد محمد سعيد، في تأبينه للفقيد حبيب، الراحلين المغفور لهم بإذن الله: عبد الرحمن ولد إبراهيم اخليل، عبد الوهاب ولد الشيكر، أحمد ولد عبد الله، أحمدو ولد احميّن، بابه شياخ، كوليبالي سليمان، الحاج انكيدي، محمدن ولد حامدن، محمد الأمين ولد آكاط، محمد الأمين ولد دندو، محمد فال ولد هاشم، سيدي ولد الشيخ. موضحا، وهو الأعرف، أنه “لا توجد ثقافة ديمقراطية دون حرية تعبير قوامها صحافة مكتوبة ومسموعة ومرئية مسؤولة. هكذا نـُهدي حبيب ولد محفوظ وزملاءه، الذين يرقبوننا من نـُزلهم الأخير، راحة البال البرزخي، وفي نفس الوقت نحقق خطوة جبارة نحو بناء دولة القانون”. أما انطباعات الأستاذ الشيخ سعد بوه كمرا، من الرابطة الموريتانية لحقوق الإنسان، فننقلها في تأبين جاء فيه: “كاتب هذه الأسطر عرف حبيب ولد محفوظ، أولا، عبر قراءة مقالاته المبهرة الصادرة في جريدة موريتاني-دمين، ثم من خلال كتاباته الرائعة التي أنارت جريدة البيان، وأخيرا من خلال افتتاحياته المثيرة للإعجاب و”موريتانيداته” المنشورة في جريدة “القلم”. لقد التقيته لأول مرة إبان التحضير للانتخابات الرئاسية في يناير 1992. إن ما يشد الانتباه في هذا المثقف الصقيل، المنتقِي، المتواضع جدا، هو، في آن واحد، ابتسامته الصادقة، ونظرته الذكية، وكياسته الكبيرة، وروح الدعابة فيه”. ثم يمضي الشيخ سعد بوه في شهادته المؤثرة، فيقول: “على إثر وفاة حبيب، أصبح مناضلو حقوق الإنسان في موريتانيا أيتاما، لأنهم لم يخسروا واحدا من أنشطهم فحسب، وإنما اختفى المدافع عن المدافعين الموريتانيين عن حقوق الانسان. علما بأن حبيب كان، إضافة إلى ما سبق، يلعب أدوارا اجتماعية ثمينة وسط جو من التكتم والجلد والفاعلية الحقة: فهو الصوت لمن لا صوت لهم، والصديق الناصح لضحايا انتهاكات حقوق الانسان، والمحامي الذاب عن المحرومين، والبوصلة أمام التائهين”. ثم يختم الأستاذ المكلوم بيمين غير غموس، فيقول: “إننا نقسم بأننا سنسعى من أجل مواصلة كفاحك من أجل موريتانيا ديمقراطية، متعددة الأعراق، تسود فيها العدالة، ويسود فيها الإنصاف.. نــَـمْ، إذن، في هدوء، فنحن لن ننساك أبدا”. وبالنسبة للمثقف الأمين ولد محمد بابه، فيتناول جوانب من إبداعات صديقه الراحل، قائلا: “يتهكم حبيب ساخرا من قصة النسر حين يكتب: “أخذ نسْـرٌ موريتانـيًا ومضى.. أخذ نسران موريتانييـْـن ومضـَــيَا، مثل النسر الذي أخذ موريتانيًا ومضى”. هذه الأقصوصة مبنية على لعبة كلمات تهدف إلى تنمية المهارات السردية والقدرات النطقية لدى الأطفال… تـُنـْـتـَـج لعبةُ الكلمات هذه من خلال التشابهات اللفظية بين عبارة النسر والكسرَه، وتكرارهما في دوامة لا متناهية. لقد استبدل الكاتب “الكسرة” بـ”موريتاني” . وهكذا أصبح الموريتاني ضحية للناهبين المتعاقبين وهدفا للسرقات المتعددة. إنها صورة يرمز بها الكاتب إلى التخريب الذي تواجهه موريتانيا ببطء (متواصل)”. لندخل عالم النواح حيث تــُـفسح القهقهة مكانها للعويل الصادق. ففي فاتح نوفمبر سنة 2001 بكى لاجئ موريتاني في السويد، تاركا العنان للحبر والدموع، راسما بهما سيمفونية تحكي بأوتارها لوعة الفراق.. إنه الناشط أليمان بيلباسي، المولود في جنوب موريتانيا سنة 1967. كان الرجل ناطقا سابقا باسم اللاجئين الموريتانيين في السينغال. بعد نشر وتوزيع “ميثاق الزنجي الموريتاني المظلوم” تم توقيفه سنة 1986 وتعرض للتعذيب الجسدي في مخافر نواكشوط، قبل أن يَصدر عليه حكم بالسجن النافذ ستة أشهر. كان أليمان أصغر سجين سياسي موريتاني في تلك السنة إذ كاد لا يبلغ الـ 19 من عمره. وفي سنة 1987 حطم رقما قياسيا آخر بوصفه أصغر لاجئ سياسي موريتاني في السينغال. عندما حنـّـت روح الفقيد حبيب إلى بارئها، وغافر ذنبها، وقابل توبها، نشر الناشط أليمان مقالا أسمعَنا نايُ أحرفِه كل آهاته الدفينة. لنتركه لحظات ينوح على قبر الحبيب: “لم تعد لديّ كلمات للتعبير عن ألمي.. لم تعد لدي دموع لأمحو هذا الأسى الجامح.. لم يعد لدي صوت للتعبير عن ثورة الحزن بداخلي. حبيب، حبيبنا الوطني، أحد أشجع الأقلام في بلادنا، رحل. رحل لغير رجعة. إنا لله وإنا إليه راجعون. لم يعد من حقنا أن نقرأ “موريتانيد” ولا أن نتابع تحاليله الشجاعة الصامدة على كل الجبهات.. أي عقاب حلّ بنا!.. كيف نتصور “القلم” بدون حبيب؟ إنه مثل سماء بلا قمر.. إنه كطعام بلا ملح. وحده كان حبيب يرمز لرفض القوالب التقليدية.. وحده كان البيظاني المثالي.. التقيته وعرفته ذات يوم من أيام الربيع في دكار سنة 1994 بفندق ميرامار.. عرفته قبل هذا اللقاء عبر كتاباته فأسكنته معي في قلبي. كان يتكلم قليلا، ويدخن كثيرا.. كان دائم الابتسامة.. كان يهز رأسه كي لا يقاطعني.. لقد قاسمني تحاليلي حول القضية الوطنية دون أي تحفظ.. كم فاجأني، وكم حيرني هذا البيظاني: بيظاني لا كالبيظان. لم يكن يخاف افلامْ أو مناضليها، بل كان يفهمهم جيدا ويشاركهم الرؤية. أمرٌ مثير للعجب، إذ لم يقع في الشرَك رغم دعاية النظام ودعاية مناوئينا السياسيين. أي ضمير مستقل هذا! ألم يكن أول صحفي موريتاني يكشف الأعمال الوحشية التي عانى منها الزنوج الموريتانيون في مقال تاريخي نشره في جريدة البيان قبل أن يصادره النظام؟.. حبيب، لقد رحلت، لكنك لم تمت. إننا نرفض موتك. حبيب: إسم يعبر عن الحب والإخلاص. كنتَ وحيدا في وسطك. ولقد تركت فينا هوة يصعب، إن لم أقل يستحيل ردمها. أعتقد أنك تستحق ما قيل من تأبين في شهداء الحرية: “حياتك كفاح، موتك بطولي، تضحياتك مقدسة، ذكراك أبدية”. حبيبنا، لن تكون هنا غدا في الموعد الكبير مع أحلامنا بـ”موريتانيا متحررة ومتصالحة”، لكنك ستكون هنا حاضرا في ذاكرتنا. ستعترف البلاد بجميلك. فإلى من سنقدم التعازي؟ أنقدمها للقلم؟ أم للديمقراطيين الموريتانيين؟ أم للشعب الموريتاني؟ لمن يا ترى؟.. وداعا حبيبنا. لا، بل إلى اللقاء”. لن نبتعد كثيرا عن جو الحداد في كلمات المؤبـّـنين المفرنسين. فهذا خليل بالا غيْ يقول: “سعيدٌ هو من، مثلَ حبيب، لا يموت أبدا، لا يهرم أبدا، لا يفقد بريقه أبدا.. سعيدٌ هو من، مثل حبيب، سيبقى إلى الأبد محفورا في القلوب ومطبوعا بالمداد في الذاكرة الجمعية لشعبه.. سعيد هو من، مثل حبيب، سيبقى إلى الأبد واقفا دون أن يثني عموده الفقري في فيفائنا الأخلاقية والفكرية القاحلة البوار، شامخا مثل أهرامات أحواض ملوك مصر أو مثل الثلج الأبدي في جبال الهملايا: سقف العالم. حبيب، بحد ذاته، كان عبارة عن مختارات من الشعر والنثر.. كان قطعة من القريض تتصادم فيها الكلمات، تتناطح، تتدافع، ترتطم، تتبدد، تتحول، بل يبتر بعضها بعضا دونما دمامة أو تجاعيد.. كان فنانا مبدعا حقا، يخلق ألفاظا جديدة فينشرها في “موريتانيدات” ظلت فوق الوصف، كما ظلت فريدة وعنيدة.. كان حبيب أميرا للحداثة حتى في ميادين بدت غريبة عليه كالصحافة.. لقد تمكن في حياته، وحتى في موته، من توحيد القلوب الدامية والمشتتة لمواطنيه. وهكذا فإن موريتانيا، المرهقة في جمعويتها، ستظل تبكيه وتندبه في جلباب الحداد الدائم”. نكتفي، هذه المرة، بهذا القدر من دموع الحرف الفرنسي، على أن نكمل الفصول، في مناسبات أخرى، ببكائيات الأقربين من الأهل والأصدقاء والزملاء: محمد فال ولد عمير، هندُ بنت عينينا، أحمد ولد الشيخ، موسى ولد حامد، مريم بنت الدرويش، إلى آخر قائمة عثرت لبعضها على تأبينات رصينة، فيما لم أوفق، حتى الآن، في الحصول على تأبينات الباقين..
غفر الله للراحل وأسكنه فسيح الجنان.