هوامش على مذكرات هيدالة (من القصر إلى الأسر)
بقلم:الشيخ أحمد ولد البان ـ شاعر وكاتب موريتاني
يصنف كثيرون “فن كتابة المذكرات” في أدب الاعتراف، إذ كانت تمثل شجاعة مؤجلة لإنسان غيبه الموت، لذلك كان كثيرون لا يسمحون بنشرها إلا بعد دفنهم، أخيرا تحولت إلى تجارة تستغل روح الفضول المميزة لإنسان اليوم، فقدت كثيرا من قيمتها التأريخية حين تحولت إلى دور ملمع الأحذية، عسير على النفس أن تعترف بأخطائها أو تضع حدا لشائعة زور كانت ذات يوم سببا في رواجها، ليست مذكرات الرئيس الأسبق محمد خونة بن هيداله من النمط الأخير فطبيعة الرجل البدوية الأصيلة قد تحجزه عن صريح الكذب.
أعتقد أنه من أقدار الخير الموفقة أن يبدأ مشروع “هذه تجربتي” بتجربة الرئيس محمد خونة بن هيداله ذلك أن صدق الرجل وصراحته قد يحددان مسار بقية التجارب لو قدر نشرها، فلو سبقه آخرون أقل صراحة ـــ حتى لا أقول أقل صدقا ــــ فقد يرسمون مسارا بيضانيا ميزته التلميح بدل التصريح والوفاء للمجتمع أكثر من الوفاء للتاريخ، صراحة صاحب المذكرات حتى في حكمه على نفسه بجهل التعامل مع المدنيين تعطي مصداقية لما يحدث به من معلومات، لكن سطحيته البارزة تجعل كل تحليلاته وأحكامه كلاما من هباء، من أطرف ما في ذلك أنه ما زال يشكك في مشاركة الجزائر في انقلاب العاشر من يوليو رغم أنه كان أحد قادته. “الابتهاج بالحرب ميزة في الجندي، وخاصية خطرة في القائد، وجريمة نكراء في رجل السياسة” كلمة للفيلسوف الأمريكي ذي الأصول الإسبانية جورج سانتايانا حضرت ذاكرتي وأنا أنهي الفصلين الأولين من مذكرات الرئيس الأسبق محمد خونة بن هيداله المعنون بـ”من القصر إلى الأسر” اللذين كان يتحدث فيهما عن أحلام تلميذ وقف في طابور المدرسة خطأ ومغامرات جندي دخل الجيش دون سابق إصرار.
كنت مستغرقا في تفاصيل صغيرة تحكي بصدق مطامحه إذ هو تلميذ نزق يحمل حلما بأن يكون شيئا مذكورا وتروي بسالته إذ هو جندي يقف على “خط النار في حرب الأشقاء” تحثه شجاعة متأصلة ترفدها لتلتهب أكثر عواطف وطنية قوية. تماهيت مع الكاتب وهو يروي قصة مغامرة رحلة الموت (الكودة الكبرى) أول دورية موريتانية في مجابات الصحراء، تبدأ من النعمة لتصل لمغيطي بعد حوالي نصف شهر، أحسست ببرد الكثبان الرملية يتسلل إلى ساقي وقدمي ضمن أولئك السبعين رجلا الذين كانوا يناحرون زوابع الشمال ووعورة مرتفعاته الجبيلة، كنت الجندي الواحد والسبعين، أعجبت بروح التحدي وآمنت بأن للجيش أدوارا نبيلة وميدانا أكثر شرفا من حلبة سياسية لا يعرف أبجدياتها. تماهيت معه أكثر وهو ينقلني من سرية إلى كتيبة لم يمنعها طول الشقة وقلة العتاد من مناوشة المجد، جنود يتخفطهم الموت مثنى وفرادى في مفازات يضل بها القطا الكدري، دفاعا عن أرض من سراب.. كادير ومرافقه الثاني يبصران الموت قاب قوس واحدة قبل أن تنتشلهما إرادة الملازم ولد هيدالة من براثن الرمق الأخير. بصراحة حين بدأ الفصل الثالث يسرد الخيوط الأولى للخطيئة الأبدية (انقلاب العاشر من يوليو) أحسست بفجيعة عاطفية، كمن يفقد حبه المقدس فجأة، العسكري لا يحسن المقاربات السياسية، شرفه شجاعته وعزه ابتعاده عن لوثة الحكم، إنه لا يملك فرقانا يفصل بين مطامحه الشخصية وأهدافه الكبرى، لذلك كان مشجب كل الانقلابات أن الحاكم المنقَلَب عليه لا يجسد “المشروع الذي جاء العاشر من يوليو لأجله”، وفي الحقيقة لم يكن للعاشر من يوليو من مشروع تماما كما الثالث من أغسطس، لذلك اعترف صاحب المذكرات أن الرائد جدو بن السالك “كان أكثر الضباط تحمسا للانقلاب حيث إنه لم يكن قبيل الانقلاب في وظيفة معينة…”، ترى هل كان رفاقه أقل حماسا بسبب ما هم فيه من مناصب؟ سؤال لم يطرحه صاحب المذكرات، لكنه اعترف ضمنا بتذمره من تهم جهوية تلاحقه وغبن يشعر به في مساره العسكري.
ذكرني الكتاب بتاريخ الفشل السياسي لقوى المعارضة الموريتانية وعجزها عن استغلال اللحظة، أسفت حين فوت المرشح الأبرز للمعارضة السيد أحمد بن داداه فرصة النضال الشعبي المتاح حينها ضد تزوير النظام لانتخابات 92 الرئاسية يقول الكتاب “وعند إعلان نتائج الاقتراع الرئاسي التي زورت بشكل غير عادي لصالح النظام طلبت من المرشح أحمد بن داداه أن لا يعترف بالنتائج وأن يشكل حكومة موازية فنتحرك لحمايته من خلال الجماهير التي كانت ممتعضة من سرقة خيارها، وذلك على غرار ما كان يجري ذلك الوق في مدغشقر ولكن أحمد قال إنه لا يمكنه القيام بخطوات خارج القانون”، هي ذات الحجة التي فوتت علينا فرصة تأزيم الوضع مع نظام ولد عبد العزيز في اعتصام ابن عباس الثاني حين قرر قادة المنسقية في هزيع ليلة تاريخية خذلان جماهير الشباب الذين كانوا متحمسين للدفاع عن ساحة الاعتصام. أبرز الكتاب أن سطحية فجة كانت تتعايش في سلام داخل شخصية الرئيس مع صرامته وحسمه، يروي الرئيس أن قصص تعذيب المعتقلين السياسيين داخل سجونه كانت وراءها صراعات إيديولوجية بين حركات سياسية تسعى لكشف معلومات عن بعضها البعض عن طريق تنكيل الجناح الأمني لكل حركة بعناصر الحركة الأخرى بحثا عن خيوط لصالحها لصالح النظام، لم يفطن الرئيس وهو يروي هذه القصة ويؤكد في ذات الوقت أنهم لم يكونوا مخترقين من قبل هذه الحركات، لم يفطن أنه يعبر بذلك عن سطحية سياسية منقطعة النظير، ثم ألا يعلم أن قوله عن تلك الأساليب القمعية “لم أكن على علم بذلك ولم آمر به كأسلوب” لا يكفكف دمعة يتيم ولا يكفي لمحو آثار نقطة سوداء في التاريخ. تفاصيل أسماء الأشخاص والأماكن والحركات السياسية تضفي على الكتاب ملاحة تجعل مواصلة قراءته هوى ذاتي يدفع القارئ لاستكماله، ليست هناك معلومات جديدة تستدعي إعادة النظر في قضايا وأحداث تاريخية كبرى، لكنه بالطبع هناك معلومات جديدة كثيرة من الحجم الصغير سوف تصبح ذات يوما مدعمات قوية لتفاصيل رسم ملامح كبرى لتاريخ وطن لا بد أن يكتب من جديد، متعة التفاصيل هي أحلى ما في الكتاب.
يبرز الكتاب بكثير من التفاصيل الصراعات المبكرة داخل الجيش، ولعه التاريخي بالسلطة، تشابه تفكير بعض قادته في الخوف من الذهاب لجبهة الحرب ثم التفكير في انقلاب بدل ذلك، هل هي مصادفة أم استلهام حين يقرر ولد الطايع الانقلاب على رئيسه الذي هدده ذات يوم بالذهاب إلى جبهة الحرب إن هو استمر في رفض قرار الاعتراف بالصحراء الغربية، ثم حين يقرر ولد عبد العزيز الانقلاب على رئيسه وولي نعمته معاوية حين كانت بوادر الأحداث تشير إلى إرساله لمواجهة أمراء “صحراء الإسلام” بعد حادثة لمغيطي. من المشرف لصاحب المذكرات أنه لم يتهم بفساد مالي، فقد خرج نظيف اليد من المال العام باتفاق الكثيرين، انتقلت أسرته من القصر إلى كزرة لزوجته، لم يكن بحسابه البنكي غداة الانقلاب سوى راتب شهره الأخير في السلطة 80 ألف أوقية. الأسلوب القوي لمحرر المذكرات يمثل نصف قيمتها، يمكنني القول إن صديقي المختار بن نافع حافظ على الكتابة في درجة الصفر أثناء تحريره، (درجة الصفر في الكتابة لمن لا يعلمها في تعريفها التبسيطي جدا هو مصطلح وضعه الناقد رولان بارت ليفصل فيه بين لغة المجاز واللغة العادية)، كان دقيقا دون ركاكة وجزلا دون أن يسرقه المجاز.
استطاع المحرر أن يحتفظ بشخصية الرئيس في أحايين كثيرة، وتلك من الميزات اللافتة في أسلوب المحرر، أحيانا يخيل إليك أنك أمام هيدالة في مقابلة مباشرة، حين كان يتحدث عن قراره إحالة الضباط الكبار (أحمد سالم، وفياه، وامبارك بن بونه مختار) إلى التقاعد، يقول المحرر راويا على لسان محدثه “في الحقيقة كان هذا القرار غير موفق رغم أن هدفي منه لم يكن إقصاءهم، وإنما لأنني رأيت أنهم لا يمكنهم البقاء تحت ضباط أصغر منهم رتبا كما أنهم كانوا يعرقلون خططنا، ولكن كان يمكنني أن أحقق هذا الهدف بطريقة أخرى مثل تعيينهم سفراء”، أترى شخصيته البارزة وتناقضه فيما يظنه عدلا بميزانه هو مع أنه إقصاء ظاهر بسبب أنهم “كانوا يعرقلون خططنا”.
وفق المحرر إلى حد كبير في ربط الأحداث والحفاظ على تسلسلها المنطقي وهو أمر بالغ الصعوبة إذا تذكرت أن محدثه صاحب المذكرات يتحدث بكثير من التداعي الحر والاستطراد الذي يخلط بين الأحداث والشخصيات وبين السياسي والاجتماعي وبين الخبر والتحليل. ماتت إذن فكرة مدنية الحكم ذات أول اجتماع في مطار نواكشوط جمع الثلاثة الذين تآمروا لوأد حلم دولة ما تزال بذات الصدور أي العقيد المصطفى بن محمد السالك شفاه الله والرائد جدو بن السالك والملازم محمد خونه بن هيداله، كان الأخير يملك القابلية لـ”لانقلاب” لكنه أيضا كان يتمتع بروح قائد عسكري يعشق ميدان المعركة ورائحة البارود لذلك كان في طريقه إلى آوسرد لمواصلة “حرب الأشقاء”، سوف تختفي آخر ملامح جنين الحكم المدني حين قررت عصبة “الإنقاذ الوطني” أن توقف مشروع المجلس الاستشاري، فالمدنيون لم يؤهلوا بعد ــ ـحسب هؤلاء ــ لممارسة الديمقراطية، الديكتاتورية إذن خير لهم لو كانوا يعلمون ـــ حسب مقاربات الجند ــــ.