قبل السفر الأخير…في ظلال (فلولا إذا بلغت الحلقوم)
كثيرا ما سافرت في هذه الدنيا، فحرصت على التفكير في الإقامة، عندما أصل وينقطع السفر، على من سأحل، هل في منزل فلان أو علان، أو عند الفندق كذا وكذا، وما هي وسيلة السفر، وتعودت في أسفاري كلها تقريبا على حزم أمتعتي ورصد أوراقي النقدية، سواء بالعملة المحلية عندما يكون السفر داخليا، أو بالعملة الصعبة عندما يكون السفر إلى الخارج!.
وكلما اقترب السفر إزداد نبض القلب والإهتمام وبعض الوحشة بسبب فراق وطن، ولو تعلق الأمر بسفر داخلي بحت، حيث سأهجر مؤقتا محل إقامتي، حيث تعودت طريقة نوم وأكل وشرب وأنس.
أما إذا كان السفر إلى الخارج، فمهما كانت فرحتي بسفرتي، فإن الخوف يزداد أحيانا من مشاعر الفراق.
هكذا أجواء السفر الدنيوي، المأمول العودة والرجعة، وربما مع الغنيمة أحيانا، وأمل عريض غير دقيق أحيانا أخرى، في العودة والأوبة إلى الأهل والربع، ورغم أن هذا السفر لا تمكن مقارنته أو لا تصح على الأرجح، بالسفر الأخير بلا عودة إلى الدنيا، إلا أن ملامح السفرين تتشابه في بعض الأوجه، ورغم ذالك يغفل الكثيرون عن أهمية الزاد لهذا السفر الأخير، وأهمية وحتمية الترقب والحساب الدقيق لفارق الوقت بين المكث والإقلاع، رغم غموض بعض أهم التفاصيل في هذه الحالة السفرية المصيرية، لقوله تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير).
لماذا نحسب كل هذا الحساب لأسفارنا القاصرة القصيرة، في هذه الدنيا، حيث الأمل الخادع في الرجوع إلى الدار والأهل والولدان، أم أن سفرنا الأخير (الموت المحتوم) كما قال بعض الوعاظ، اليقين الذي يشبه الشك!.
وكذلك عند أغلبنا من الغافلين، مثلي، عفا الله عني وعنهم، وأبعد عنا مرض الغفلة والانشغال بالأمل الطويل، وهو محض السراب الخادع على وجه اليقين.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كن في الدنيا كـأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول استفادة واعتبارا من هذا الحديث النبوي الشريف (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
ما للمسافرين كلهم في هذه الدنيا، لا يجدون الراحة بالمعنى الكامل في محطات السفر، قبل انقطاعه والوصول للمقصد، وقد انشغلوا قبل انطلاق سفينة سفرهم بجمع زادهم من كل لون ونوع، ونفوسهم تتوق للحظة الوصول، وجوارحهم ومشاعرهم تتحرك مترقبة، لحظة انقضاء السفر وحط الرحال، وفي المقابل نهمل كل هذه العناصر ونفقدها غالبا عندما يتعلق الأمر بالسفر إلى الله وساحة عرصات القيامة، هذا السفر الذي لا رجعة بعده للدنيا، وإنما في القبر والمرحلة البرزخية روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، والقبر أول مراحل آخرة كل متوفى، ويوم الفصل الأكبر، فريق في الجنة وفريق في السعير، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
أجل نحن غافلون ومنشغلون بغير مهمتنا، وإن كانت مهمتنا واسعة شاملة، لكل معاني الإستعمار والإستخلاف في الأرض، بمعنى أن الله طلب منا عمارة هذه الأرض وخلافته فيها، وفق منهج رباني محدد، (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ).
قال بعض أهل الذكر والخبرة، نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
يا نفس متى تستيقظي وتتجاوزي هذه الغفلة، عن ضرورات هذا السفر الخطير الأخير، قال الشاعر: وما الناس إلا هالك وابن هالك***وذو نسب في الهالكين عريق.
وقال آخر موعظة ونصحا وحكمة وإن من الشعر لحكمة:
إن لله عباد فطنا***طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا***أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا***صالح الأعمال فيها سفنا.
ما دمنا لم نشعر بالخوف من سفرنا الأخير، على منوال طبعا وأكثر، أسفارنا الدنيوية، ونجتهد على حزم الأمتعة وضبط ضرورات السفر المختلفة عبر مصطلح الزاد الجامع المعبر، فإننا قطعا غافلون غافلون.
إن طبيعة السفر المرتقب الوشيك المباغت، يقتضي عقلا وشرعا، الكثير من الخوف والحرص على التزود بمواد سليمة من الرياء والعجب والغرور، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
سبحان الله، نخاف من أسفارنا القاصرة المرتدة إلى الدنيا أحيانا، والمفضية أحيانا أخرى إلى الآخرة دون سابق إنذار، ثم لا نتأمل ونفكر مليا ونعمل عملا حذرا قبل فوات الأوان لهذا السفر المصيري الحتمي، والذي أخفي عنا موعده رحمة بنا، وإلا لما ذقنا المنام ولما خالطنا الأنام.
فلننتبه ولنحاول تحصيل هذا الوعي النفسي والإيماني الغائب، بأجواء السفر الأخير.
إن الخوف من الموت والإنتقال الأخير، إلى الضفة الأخرى وحالة الترقب والتوجس من هذا السفر المصيري يدل على حالة إيمانية ومبشرة، بتناقص منسوب الغفلة وبزوغ فجر التوبة النصوح في سجايا وطيات القلب المنير، بالإيمان والخوف من مكر الله، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ).
وأما ما سوى هذا من الغفلة والنوم عن صلاة الصبح وغيرها من المكتوبات في وقتها وحيث ينادى بهن، وغيره من المفروض والمرغوب، فمؤشر مرض قلبي خطير.
ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
اللهم لا تجعلني ممن يقولون ما لا يفعلون، واسترني فوق الأرض وتحت الأرض ويم العرض، واجعلنا وقراء هذه التذكرة وسائر المسلمين وسائر من اخترت من عبادك، من الذين يعلمون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون، وإنما يتقبل الله من المتقين، والأخلاء يومئذ بعض لبعض عدو إلا المتقين، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقوني يا أولي الألباب.
والتقوى كما قال علي كرم الله وجهه، الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضى بالقليل والإستعداد ليوم الرحيل، والحياة الخيرة والطيبة طريقها حديثه صلى الله عليه وسلم (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر كان خيرا له).
وقمة السعادة مع قرآن الفجر(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) وكثرة قراءة القرآن في الزمان والمكان اللائق ودوام ذكر الله (لا يزال لسانك رطبا بذكر الله)، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۖ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
ورب الكعبة ديدن السعادة ذكر الله، وكما قال إبراهبم ابن أدهم، لو علمت الملوك ما نحن عليه من اطمئنان وسكينة بسبب الطاعات والإنشغال بالله لجالدونا عليه بالسيوف!.
أجل، السعادة بذكر الله والإنشغال بالله، والحب في الله والغضب في الله، والإجتهاد في تطبيق منهاج الله، في كل صغيرة وكبيرة (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، وقال ربنا جل شأنه نوردها ختاما مسكا (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
كل باحث عن السعادة خارج دائرة الذكر بمفهومه الإسلامي الواسع، وهو الطاعة والتقيد بشرعة الله الخاتمة، الإسلام، أقول، كل مبتغ للسعادة من غير سبيل وطريق هذا الذكر فهو خاسر بائر.
رزقنا الله وإياكم حسن الخاتمة، وجعلنا وإياكم من الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، وألهمنا وإياكم السماح لكل مسلم، والعفو عن زلة سائر من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، “وكثرت تبراد لخلاك أعكوبت ادنكيس” (كتب بالحسانية)، بل الطريق الأمثل والأجمع (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).
اللهم ألهمنا رشدنا.
رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبيا ورسولا.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ما من صواب فمن الله وما من خطأ فمني، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه.
بقلم عبد الفتاح ولد اعبيدن
حرر بنواذيبو، ليلة الجمعة الموافق 18 نوفمبر 2016، الساعة 02:49 بتوقيت غرينيتش، شقق شاطئ الراحة (حي دبي).