قراءات الخريف (2): أحبها… ولكن! /بقلم: غادة السمان
«باريس كما يراها العرب» عنوان الكتاب الذي اخترت أن أتجول والقارئ في أرجائه لنلتقي مع 13 كاتباً وكاتبة يروون سيرتهم في «أجمل منفى في العالم» باريس. ويرجع فضل جمع شهاداتهم إلى الصحافي فيصل جلول الذي قدم أيضاً لكتابه وأدلى فيه كالباقين بشهادته. ـ دار الفارابي ـ. لماذا باريس؟ لأن المرء حين يشعر أنه مَنفيّ إلى الوطن يرحل. ولأن باريس مغناطيس يجتذب العرب على نحو استثنائي، على الرغم من ان لندن المدينة الرائعة أيضاً لا تقل عنها جمالاً وعراقة وثراءً بالمتاحف والمكتبات والجماليات والحريات. باريس عاصمة الآخرة!! يقول شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق أثناء دراسته في باريس عام 1919: «باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس!!» أحد الطاعنين في الإقامة الباريسية قيس خزعل جواد العزاوي (السفير السابق للعراق في جامعة الدول العربية) يقدم لنا في هذا الكتاب دراسة أكاديمية مميزة حول حضور باريس في الكتابات العربية ويقول إنها «المركز لتجمع الفنانين من أنحاء العالم كافة، أمثال الاسباني بيكاسو كما دالي والروسي سترافنسكي والامريكي همنغواي وجرترود شتاين والايرلندي جيمس جويس كما بيكيت وسواهم كثير جداً، ويقول قيس جواد ان الكتابات العربية حول باريس لا تعد ولا تحصى ويقدم أمثلة من أدب الرحلات التي تدور حول باريس بقلم الشيخ الازهري رفاعة الطهطاوي والفقيه محمد الصفار والتونسي أحمد بن ابي الضياف وغيرهم… ولا ينسى طه حسين وصولاً إلى سهيل إدريس ونزار قباني.. بين «الموقت» والدائم المحتوم معظم الذين أدلوا بشهاداتهم لم يقرروا الهجرة عن سابق تصميم وتصور ولكن الموقت صار دائماً.. يكتب سامي كليب أحد «الشهود» في الكتاب: «ها إني في مدينة تضم 173 متحفاً و208 مسارح وكاباريه و3 أوبرا و14 مدفناً للعظماء و464 حديقة عامة و31 نصباً تذكارياً و73 جسراً و171 كنيسة ومعبداً، وفي المتاحف كثير من تاريخنا العربي الإسلامي والمسيحي»… ولكنه يختم نصه بصورة مؤثرة من الحرب الاهلية اللبنانية ويكتب: «حين هوت القذيفة على منزلنا الجبلي الجميل انهارت حجارته فوق جسد أبي الممزق بالشظايا…». في باريس الحرية: طوبى للغرباء يكتب المنصف المرزوقي (رئيس جمهورية تونس السابق) قائلاً: «مرة أخرى التفت خلفي مدفوعاً بعادة تأصلت على مر السنين، والمخبرون ورائي في كل خطوة يحصون أنفاسي. لكن هذه المدينة ـ باريس – سطت عليّ حمايتها فيسعني أن أمشي فيها بأمان. إنه مناخ الحرية الذي يأسر معظم المهاجرين وتتردد في الكثير من الشهادات، كما في نص المناضل لحقوق الانسان د. هيثم مناع الذي يكتب «لم أستدع من قِبلِ أيّ من أجهزة الأمن الفرنسية خلال 25 عاماً من وجودي في باريس (كما شريكة عمره فيوليت داغر) ويذكر ان معرفته بالسيدة دانييل ميتران رسمية ومحددة «في نطاق الملفات الحقوقية لكنه رفض دعوة للاجتماع بالرئيس ميتران بعد حرب الخليج». وتساؤل مِنّي: ترى من يجرؤ على رفض دعوة أي رئيس جمهورية عربي في أوطاننا السعيدة؟ مع الأوطان… لا نسيان الإعلامية ايمان الحمود (إذاعة مونت كارلو ـ صحيفة «الوطن» السعودية) ترسم صورة للجانب الجمالي الرومانسي لباريس لكنها لا تنسى التأكيد انها «سعودية» وتعلن بجرأة: «جئت من منطقة لا تؤمن بحرية التعبير… والرأي الآخر». وتضيف: «وأنا هنا لا أخص بالذكر بلداً بعينه ولا أستثني أحداً». أما جمال الغيطاني فقد توقف طويلاً في متحف اللوفر وبالذات أمام قناع فرعوني للموت تماهى معه بفنيه.. كما لو كان القناع وجهه الآتي. د. طراد حمادة كتب نصاً شعرياً جميلاً، لباريس وعنها. الشاعر الرسام الجزائري عمار مراش يختصر علاقته بباريس معلناً انها لم تسكنه بعد.. ويحبها فقط!!! ويذكر ببراءة الفنان انه كان يزرع القطع النقدية في التراب منتظراً ان تنمو وتعطيه شجرة نقود كما كانت أمه تفعل مع حبات الفول!.. الشاعرة الجزائرية لويزة ناظور تجد باريس مدينة تصدح بتراتيل الحب والتاريخ.. وتقول: «كيف نكتب عن باريس ونفيها حقها ونحن نحياها يومياً؟ كيف يمكن ان ندرب عيوننا على التقاط الجمال وسط الروتين والعادة؟.. مع الفلسطينية مارال أمين قطينة التقينا في «لحظة حرية» الأسبوع الماضي ونجد جرح فلسطين ذاته في نص محمد حافظ يعقوب الذي يقول: «انا عديد كمثل باريس. فأنا فلسطيني من باريس او باريسي من فلسطين.. انني ربما ذلك الصبي نفسه الذي كنته في دمشق بلد اللجوء. انني عكاوي ودمشقي وباريسي وقبل ذلك إنسان». نايلة ناصر «قارئة في كتاب باريس التي يفوق عدد مساراتها الستة آلاف ساحة وجادة وشارع ومصيف نهري».. لكنها لا تنسى الكتابة عن ذل الانتظار أمام دائرة تجديد الاقامات في البرد كبقية المهاجرين.. فيصل جلول… فخور بهويته العربية على الرغم من الغواية الباريسية يعلن فيصل جلول «استتبعتني (باريس) فصرت فخوراً بهويتي العربية… ويضيف: في باريس انت اجنبي إلى يوم الدين… وعليك ان تتصرف كأجنبي خاضع على الدوام لاختبار سلوكي. على غرار «برافو أنت تتحدث الفرنسية جيداً».. او «لست كالعرب الآخرين».. ولعل ذلك شعور الجيل الأول من المهاجرين في كل مكان ولكن ربما بدرجة أقل في بلدان أخرى مثل كندا وأستراليا وسواهما. أما من طرفي أنا كجارة لبرج إيفل ونهر السين وبقية جماليات المدينة منذ أكثر من ثلاثة عقود، فأعترف بأنني متمردة على غرامي الباريسي، وأخون باريس كل ليلة مع الوطن ولسان حالي يردد من قصيدة للشاعر اليوناني كافافيس: وتقول لنفسك سوف أرحل/إلى مونية أجمل من من مدينتي هذه/من كل جمال في الماضي عرفته/ (لا أرضَ جديدة» يا صديقي هناك/ولا بحرَ جديداً/فمدينتك سوف تتبعك/وفي الشوارع نفسها سوف تهيم إلى الأبد/لا سفن هناك تجليك عن نفسك/آه، ألا ترى، انك يوم دمرت حياتك في هذا المكان/فقد دمرت حياتك في كل مكان آخر على وجه الأرض؟ وإلى اللقاء في الأسبوع المقبل مع القراء..