قاضي موريتاني يكتب عن سنوات عمله في نواذيبو
بعد ثمان حجج من العمل في مدينة نواذيبو اغادرها.. وتبقى الذكريات. دخلت مدينة نواذيبو ذات مساء من الأسبوع الاخير من شهر يناير 2009 نائبا لوكيل الجمهورية.. بدت المدينة دون الصورة التي آرتسمت في مخيلتي للعاصمة الاقتصادية !!، وفي صباح اليوم الموالي صدمت من حال قصر العدل القديم!!. لكن لحظات قليلة من التعرف على طاقم المحكمة والاحتكاك بالناس كانت كافية لتأكيد حقيقة ان “جمال المكان يقاس بحسن اخلاق اهله”، ومع ذلك أيضاً فان جمال هواء وأرض وبحر نواذيبو مسالة محل إجماع لا احتاج التذكير به.
عشت تجربة متميزة من حياتي الخاصة والمهنية وشهدت تحولات هامة في تاريخ المدينة شبه الجزيرة. تميز تجربتي يكمن في عملي في كافة الهيئات القضائية بمختلف درجاتها فبعد أدائي كنائب لوكيل الجمهورية ووكيلا بالإنابة لفترات متفاوتة (يناير 2009-سبتمبر 2010)، ترأست الغرفتين المدنية والإدارية في الفترة من سبتمبر الى نهاية دجمبر 2010، ومحكمة الولاية من دجمبر 2010 الى دجمبر 2013 والمحكمة الجنائية والغرفة الجزائية من دجمبر 2010 الى دجمبر 2014 والمحكمة التجارية في سنة 2015 ومحكمة الشغل هذه السنة 2016 هذا اضافة الى تولي قضاء التحقيق بالإنابة لفترات عدة، الى جانب ترأس التشكلة المغايرة للمحكمة الجنائية بولاية تيرس الزمور في السنوات من 2011 الى 2014 وتعييني مستشارا في عدة تشكيلات لبعض غرف محكمة الاستيناف في السنوات من اكتوبر 2010 الى نوفمبر 2016.. كانت تجربة مميزة بتنوع المواضيع وعدد ونوعية القضايا التي عرضت علي (واقفاً وجالسا)، لن انسى الكثير منها رغم تشعبها. وكانت بعض جلساتي وأحكامي في المحكمة الجنائية محل اهتمام وطني ودولي (في قضيتين لم يشهد القضاء الموريتاني مثلهما في تاريخه واسال الله العلي القدير ان لا يتكرر مثلهما مستقبلا. اولاهما تتعلق بجريمة قتل شيخ مسن وتقطيع جثته لاستخدام أعضاءه في السحر والشعوذة، اما الثانية فكانت تتعلق بجريمة الاستهزاء بخير خلق الله اجمعين محمد صلى الله عليه وسلم)، كذلك كانت نوعية بامتياز اغلب الملفات الجنحية وقضايا قضاء الاحداث والقضايا المدنية والإدارية والتجارية والاجتماعية التي عرضت علي وتم البت فيها بتوفيق من الله تعالى.كما كانت جلستي الاخيرة مع محكمة الاستيناف التي عقدت في مدينة الزويرات بداية نوفمبر المنصرم محل اهتمام وطني ودولي. باختصار شديد أقول كما قال مدير المعهد الدولي للتحقيق الجنائي (عندما استمع الى عرضي عن تجربتي العملية في ورشة في عمان – الأردن شهر اغسطس السنة الماضية) “انها تجربة قصيرة ولكنها غنية ومتميزة” !!. خلال هذه الفترة أيضاً كانت لي محاضرات في ورشات وطنية ولقاءات ومؤتمرات إقليمية ودولية كما نشرت لي مقالات قانونية في اعداد من دوريتين متخصصين وطنيتين ومقالات باللغة الانكليزية على موقع وفي مجلة المنتدى العالمي لمكافحة الارهاب ( GCTF )، وبتوفيق من الله تعالى شرفت بلادي بنجاحي متفوقا في مسابقتين دوليتين إحداهما قيم بها من طرف المعهد الدولي للعدالة الجنائية الموجود مقره في مالطا بالتعاون مع المعهد الامريكي للسلام وبعد انتهاء كافة الاجراءات وجاهزيتي للسفر لتقديم عرضي امام المؤتمرين والحصول على التكريم اعترض وزير العدل السابق سيد ولد الزين على سفري مما اضطر المؤتمرين في مالطا الى الاستماع الى عرضي بقراءة من منسقة الشوون الخارجية للمعهد الامريكي للسلام السيدة سارة صليب. اما المسابقة الثانية والطويلة فكانت مسابقة الحصول على شهادة ترخيص للتحقيق في جرائم الجنايات الدولية “شهادة خبير دولي” وقد اجتزت كافة امتحاناتها الالكترونية والورقية والشفهية، وخضت تجربة قاسية ميدانية وتكوينا مكثفا توج بحصولي على الشهادة الدولية وكنت الناجح الوحيد من دول شمال وغرب افريقيا وهي شهادة معتمدة من طرف جميع الهيئات والمحاكم الدولية وصادرة عن المعهد الدولي للتحقيق الجنائي الموجود مقره في لاهاي وشبكة المحققين الدوليين “الاستجابة السريعة للعدالة” الموجود مقرها في جنيف. خلال فترة عملي في نواذيبو شهدت تحولها الى منطقة حرة حيث تغير الكثير من معالم المدينة وشهدت نهضة في البنى التحتية والإعمار ولكنها مازالت تخوض غمار تجربة التحول التي لم تؤتي أكلها بعد لضعف إقبال المستثمرين الأجانب !! – وهنا أتوقف قليلا لاذكر المعنيين ان المستثمرين اقبلوا في الماضي على نواذيبو بكثرة (في الثمانينات والتسعينات وفي العقد الاول من هذا القرن) قبل اتخاذ قرار “المنطقة الحرة” ولكنهم فروا وولوا مدبرين بفعل عوامل طاردة للاستثمار من أخطرها فساد وبيروقراطية الادارة وفساد وضعف القضاء وجشع وتحايل الشركاء المحليين، ولن يعود الاستثمار الأجنبي الا بعد إصلاح القضاء واستقلاله ولن يصلح القضاء مع تحويلات “شي الوح اف شي” التي يعدها ويهيمن عليها وزير العدل ويقرها المجلس الاعلى (للقضاء) مجملة دون اعتراض !!. عودة الى البنى التحية !!..فقد كان من سعادتي وشرفي ان اشهد إنشاء وتدشين قصر عدل جديد في نواذيبو 2011 وسجن مدني جديد 2014 ومحكمة جنائية خاصة بقضايا الاسترقاق ومركز إيواء الاطفال المتنازعين مع القانون 2016. اخيرا.. أود ان اشكر اهل نواذيبو وخاصة زملائي الرؤساء القضاة والسادة كتاب الضبط والسيدات كاتبات وسكريتيرات الهيئات القضائية في نواذيبو والبوابون وعمال شركة الحراسة. كما أتوجه بالشكر الخاص الى السادة المحامين المتميزين المقيمين في نواذيبو والى ضباط ووكلاء الشرطة القضائية. شكرًا لكم جميعا فقد كانت التجربة ممتعة ومتميزة بوجودكم. واطلب منكم العفو والمسامحة ان كنت اخطأت في حقكم، ولكن يشفع لي انني لم اتخذ قرارا او اصدر حكما الا بناءا على قناعة محايدة مبنية على ما جاء في القانون ودار في المرافعات وتضمنته الملفات وأقرته المداولات ( او ) وبعد دراسة وتأمل، وحاولت قدر الإمكان ان أكون أخا للجميع دون شكليات الوظيفة وجمودها. واشهد الله واشهدكم اني أسامح الجميع وأعفو عن كل حق في علم الله تعالى استحقه على اي مسلم. ……..
المحطة القادمة ستكون بحول الله تعالى محكمة الولاية في ترارزة.. اسال الله تعالى ان يبارك لنا فيما أعطى ويجنبنا ويصرف عنا شر ما قضى.. والحمد لله من قبل ومن بعد..
عبد الله شماد