حمار توفيق الحكيم.. وحمير «يحيى حقي»!
وافقت السلطات المصرية على طلب تقدمت به عدة شركات صينية لاستيراد عشرة آلاف حمار، وشرعت – بعد ذلك – في دراسة طلب تقدمت به إحدى الشركات الكورية لاستيراد الكلاب من مصر.. وما كاد الخبر ينتشر حتى توالت التعليقات عليه، وجمعت – كالعادة – بين الجدّ والهزل، فقال الجادون إن تصدير الحمير إلى الصين بشكل رسمي هو محاولة لإيقاف ظاهرة ذبحها خارج السلخانات العامة لتصدير جلودها سرًّا إلى الصين، وهو البلد الوحيد الذي يستخدم هذه الجلود في صناعة بعض الأدوية، وإن تصدير الكلاب التي يأكل الكوريون لحمها، يفتح أسواقًا جديدة أمام المصدّرين المصريين، ويضيف سلعًا غير تقليدية إلى الصادرات المصرية.
أما الذي أقلقني فهو الخشية من أن يكون هذا التصدير على حساب احتياجات السوق المحلية، وأن يسفر عن حرمان هذه السوق من الجهود التي تبذلها كل من الحمير والكلاب في الاقتصاد المصري، وأن يؤدي التوسع التدريجي في تصدير كل منهما إلى انقراضه، وهو ما يفرض عليَّ أن أسارع بالانتماء إلى حزب الخضر، للمطالبة بإقامة محمية طبيعية تحول دون انقراضها، ليس فقط حفاظًا على التاريخ الطبيعى للمجتمعات، لكن – كذلك – من أجل الوفاء لعلاقات الصداقة التي جمعت بيني وبين حمير طيّبة وكلاب وفيّة على مدى العمر.
والحقيقة أنني لم أجد سببًا واضحًا للإصرار على وصف الحمار بالغباء، وعلى وصف الأغبياء من البشر بأنهم حمير، وربما كان السبب في هذا هو أن الحمار يتحرك بشكل آلي، ويحفظ الطريق الذي تعوّد صاحبه أن يسلكه كل يوم من منزله إلى حقله، بحيث يستطيع أن يقطعه بينهما دون قائد فضلاً عن أنه – أي الحمار – يفتقد لأية قدرة على الابتكار، أو لأية جرأة على المغامرة أو مخالفة المألوف، ويحتاج إلى عصا قائده تحذره أو لجام صاحبه لمعرفة الخطوة التالية.. إلا أن الذين يستخدمون اسمه كلفظة سباب ينسون أن الغباء ليس الصفة الوحيدة من صفاته، فضلاً عن أن تكون الغالبة، فهو يمتلك سلة من الصفات الطيبة، تشمل الصبر والقدرة على الاحتمال والوفاء وهي صفات دفعت بعض ذوي الياقات البيضاء من المثقفين والسياسيين إلى اتخاذ الحمار رمزًا لبعض ما يؤسسونه من أحزاب سياسية، كما هو الحال في الحزب الديمقراطي الأمريكي، أو تشكيل جماعات الحمير الدولية.
وتدين الحمير المصرية للكاتب الكبير الراحل يحيى حقي «1905 – 2000» بالفضل؛ لأنه يكاد يكون الكاتب المصري الوحيد الذي أفرد لها فصلاً مهمًا في مذكراته، التي صدرت بعنوان «خليها على الله»، وهو فصل جمع فيه «يحيى حقي» بين مواهبه المتعددة، وإنسانيته الدافقة، كأديب وكإنسان قوي الملاحظة، لديه قدرة فائقة على متابعة السلوك الإنساني وتفسيره، وعلى رصد الظواهر الاجتماعية والاقتصادية وتحليلها.
وكان «يحيى حقي» قد أمضى الفترة ما بين عامى 1927 و1929 يعمل معاونًا للإدارة في أحد أقسام شرطة مدينة منفلوط بالصعيد، حيث كان عليه أن يستخدم الحمير في انتقالاته وأن يقترب من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية، التي نتعلق بها في الريف المصري، إذ كان للحمير آنذاك، دولة تستثمر رأسمال ضخمًا في تجارتها، وتستخدم جيشًا من العاملين فيها، وتنقسم إلى طبقات، يقف على رأسها كبار الحمّارين، الذي يملكون آلافا من الجنيهات وأسطولاً من الحمير، يؤجرونه للآخرين، لينقلها بين القرى وبينها وبين الموانئ النيلية، ويتخذون له محطات في الميادين الرئيسية للمدن، حيث كنت تجد دائمًا لافتة تقول: موقف لعدد 3 حمير.. ويقف في سفح هذا الهرم الطبقي حمار الحقل الذي يعتمد عليه الفلاح وأسرته في الانتقال وفي نقل أدواته ومحاصيله.
وكما أن ملاك الحمير – آنذاك – ينقسمون إلى طبقات، فإن الحمير نفسها – كما يرصد يحيى حقي – كانت تنقسم إلى طبقات، أدناها هو «حمار السباخ» وهو الحمار الذي ينقل الأتربة، يليه حمار الأجرة، الذي يتخذ موقفا إلى جوار محطة القطار، لينقل القادمين إلى داخل المدينة، وعلى قمة الهرم تتربع الحمير التي يستخدمها أفراد الطبقات الأرستقراطية من الأعيان، ويحرصون على أن تكون من سلالات تتميز بالقوة، ويعتنون بغذائها، ويكسون ظهورها ببرادع زاهية من الجلد أو القطيفة، وبإكسسوارات ملونة، ويقصرون استخدامها على تنقلاتهم الخاصة، وتنقلات ضيوفهم، من رجال الإدارة والحكم.
وعلى العكس من «حمير يحيى حقي»، الذي يحفل عالمها بالقسوة والفقر، وتعاني الحمير التي تعيش فيه نقص القوت، ويحيط بها القهر من كل جانب، ولا تستطيع أن تشكو مما تلاقيه من عذاب، يبدو «حمار الحكيم» نموذجًا لـ«حمار الأعيان»، وهو «حمار صغير» أعجبت به إحدى السائحات فاشترته من صاحبه، ثم نقلته إلى جناحها في الفندق ذي النجوم الخمس الذي تعيش في أحد أجنحته قبل أن تعهد به إلى توفيق الحكيم لكي يرعاه، ويتحاور معه في قضايا فكرية.. وكان كلاهما يحاول تغذيته بتقديم لبن الأطفال إليه في بزازات فاخرة!
وبعد عشرين عاما من كتابته لها، كانت رواية «حمار الحكيم» موضوع حملة عنيفة شنتها عليه الصحف، وتزعمها الكاتب والناقد «أحمد رشدي صالح» اتهمه خلالها بأنه اقتبسها عن كاتب إسباني اسمه «حمنيز»، كتب رواية بعنوان «حماري وأنا» وهي حملة أثارت غضب الرئيس «عبدالناصر» الذي كان يكن إعجابًا خاصًا لتوفيق الحكيم، فقرر – ردًا عليها – أن يمنحه وسامًا رفيعًا من أوسمة الدولة.
وكما أنني لم أجد سببًا لإصرار البشر على استخدام لفظتي «حمار» و«كلب» كأحد ألفاظ السباب التي يتبادلونها فيما بينهم، ولا أجد مبررًا لتجاهل بني الإنسان المزايا الكثيرة التي يتمتع بها كل من الحمار والكلب كالصبر والوفاء، وأشك كثيرًا في الاعتقاد الشائع أن أغبى إنسان هو أذكى من أذكى حمار، والدليل على ذلك أنه في منزلنا بالقرية شاب يعتني بحيوانات الحقل، وكنا نطلق عليه وصف «الحمار»، بسبب غبائه الشديد، وذات يوم ملأت عمتي إناء بالماء، وعندما عادت بالدقيق الذي سوف تعجنه فيه، وجدته فارغًا، فصاحت: الله يلعنه الحمار شرب الماء كله.. فإذا بهذا الشاب يندفع من آخر الفناء ليقول: أحلف بالله أنني لم أشرب منه نقطة واحدة.. وفي تلك اللحظة كان الحمار الحقيقي ينظر إليه بدهشة، ثم يندفع في نهيق حاد متواصل، احتجاجًا على اتهام البشر له بالغباء!