الإشهار والنقد الطبيعي/ سعيد يقطين
عندما طرحت سؤال «هل سمعت بالنقد البيئي؟» أجاب أحد المعلقين معبرا عن كونه يسمع به لأول مرة. لكن الزميل أحمد يوسف لم يزد على أن قال بأن أحد المصريين سبق له أن نشر كتابا في الموضوع.
فهمت الغمزة اللطيفة للصديق أحمد ولد قدور، وأشرت إلى مشاركته بـ«أحب». لم يكن هدفي من السؤال تسجيل سبق في إثارة الموضوع، فكل متابع لما يجري في الساحة الفكرية الأدبية الغربية، لا يمكنه سوى التعرف على جديد ما ينتج من نظريات، وما يبتكر من مفاهيم جديدة وهو وافر وغزير. إن فتح جبهات عديدة، بالنسبة إليّ، والدعوة إلى التفكير والتحفيز في موضوعات نظرية جديدة، لا يمكنه إلا أن يؤخر اشتغالي بالمشروع الذي أهتم به. لكن متى سنحت لي مناسبة للسؤال، كما وقع مع اجتماع الكوب 22 في مراكش، دفعني ذلك إلى إشراك القارئ والباحث في طرح السؤال حول النقد البيئي. وعسى أن يأتي يوم ينخرط الباحثون العرب في تناول مثل هذه القضايا، ليس من باب التقليعات الفكرية، ولكن من باب الانخراط في جعل الفكر الأدبي العربي يتطور نحو ملامسة مختلف القضايا التي تهم الإنسان والحياة. اشتغل الباحثون الغربيون بالنقد البيئي، أو الطبيعي كما أفضل تسميته، لأني أرى أن الطبيعي أوسع من البيئي وأشمل. وإذا كان مجمل الدراسات الأدبية، أيا كان اتجاهها، تعنى بالجانب الثقافي في الإنتاج الأدبي والفني، فليس ذلك سوى استجابة للتصور الذي تشكل عن الأدب في مستواه الراقي. لكن هذا لا يعني عدم الاهتمام بما هو طبيعي في النص، وإن كان يتحقق ذلك بكيفية ضمنية، لكن ما هو طبيعي جدير بأن نهتم به اهتمامنا بما هو ثقافي. ومن بين أسباب تفضيلي الطبيعي على البيئي، وضع هذا النوع من الدراسات التي تعنى بالبعد الطبيعي في الأدب، في نطاق الترسانة الاصطلاحية المشتركة المبنية على الثنائيات. لقد تم التمييز بين الثقافة العالمة والشعبية، فصارت الدراسات الحالية في اتجاه ردم الهوة بين الثقافتين، بسبب الاهتمام الذي بدأت تلقاه الدراسات الشعبية. كما ظل التمييز بين الواقعي والخيالي يحتل جزءا مهما في التصور العام في الدراسات السردية، حتى غدا الاهتمام الآن بالسرد الذي ينتجه غير السراد من الكتاب، وابتدأ الاعتراف بالسرد الذي ينتجه الفرد العادي، ما أدى بمونيكا فلوديرنيك إلى تكريس كتاب خاص حول ما سمته «السرديات الطبيعية». إن ردم الهوة بين الطبيعي والثقافي في الدراسات الأدبية كفيل بتوسيع مجال الاهتمام، وفتحها على قضايا تمس اليومي ومشاكله التي بات يفرضها الواقع المتجدد. يعتبر الإشهار (الإعلان) واحدا من أهم الإنتاجات التي تفرض نفسها في الحياة العامة، فحيثما توجهنا تحاصرنا اللوحات الكبرى في الشوارع والساحات، وعلى واجهات المحلات وفي البرامج السمعية البصرية، بل إننا نواجهه في اللباس، وفي هواتفنا التي باتت جزءا ضروريا من استعمالاتنا الحيوية. اهتم بالإشهار النصي والصوري المشتغلون بالسيميائيات بكيفية أساسية، باعتباره علامة متعددة المعاني والدلالات. كما اشتغل بها باحثون في العلوم الاجتماعية والإنسانية. يمكن للنقد الطبيعي أن يهتم بالإشهار، من زاوية أخرى، تهتم بطبيعته ووظيفته في الحياة، ولكن بالتركيز على الجانب الجمالي وعلاقته بالإنسان. يلعب الإشهار دورا مهما في الحياة، فإلى جانب وظيفته في التعريف بالمنتوجات الجديدة بقصد رواجها التجاري، يتميز في حال إنتاجه بكيفية إبداعية بتحقيقه بعدا جماليا حقيقيا. وكلما كانت آثاره الوظيفية متلائمة مع طبيعته الإبداعية كان نصا يدفع إلى البحث والتحليل. وفعلا يمكننا أن نلمس في بعض الوصلات الإشهارية نصوصا إبداعية راقية، لكن بإزاء هذا البعد الفني الذي يمكن أن نقرأه في الإشهار، يمكن أن نرى فيه جانبا آخر يتصل بوثوق بـ»التلوث البيئي». ليس التلوث مقتصرا على ما يصدر عن التكنولوجيا إلى درجة العمل على مواجهة عالمية لآثارها التدميرية للعالم الطبيعي. لكن هناك نوعا آخر من التلوث، وهو ما يمكن أن نراه في اللوحات الإشهارية التي تملأ شوارعنا وتحاصرنا في كل مكان في مدننا القروية، فلا لغة سليمة في هذه الإشهارات ولا صورة جميلة. لن تجد إلا تعابير «سوقية»، وحركات بهلوانية للممثلين، لا تجسد إلا ما يميل إليه الشباب المتهور، سواء على مستوى اللغة أو الحركة، وكأن لغة السخرية هي اللغة الوحيدة التي تؤثر في الزبائن. إن ادعاء الإضحاك في بعض اللوحات لا يعني حين نعمل على تحليله سوى الضحك على الزبون. وفي هذا تأكيد على عدم احترام من نتوجه إليه بهذا الخطاب الإشهاري. هذا التلوث الذي نلمسه بجلاء في بعض اللوحات يفرض نفسه على الناس في فضاءات ليست ملكا لأحد، لأنها ملك للجميع. قد تربح منه البلديات مداخيل هي في أمس الحاجة إليها، لكن هذه المداخيل حين تصبح عبئا على الموطن فإنها تساهم في ممارسة تلوث ثقافي حقيقي. هذا التلوث الحقيقي والمختلف، هو ما يمكن أن يضطلع به النقد الطبيعي بهدف الارتقاء بالذوق العام، وبالإنتاج الفني في مختلف صوره وأشكاله.
٭ كاتب مغربي