وهم الحداثة و جريرة التأخر/الولي ولد سيدي هيبه
حصار الاستلاب و الانغلاق و ضعف الانفتاح هل تعِي ساكنةُ طَابقِ الفكر و الثقافة و السياسة العلوي في صرح البلد أن جوهر أي مشروع ثقافي يُراد من خلاله تشييد التجارب الوطنية والإنسانية كبُنى تحتية تُعطي القدرة على صُنع البدائل الصالحة و المتطورة في حركة الحياة و تمكن بموضوعية من تلاقي وتناغم جوهر القيم الدينية و الإنسانية في إدراك مراقي الحُسن والمنفعة والغاية النبيلة لصنع الإنسان و إعداد المجتمع الفاضل، الرشيد و المتقدم؟ و هل تظل هذه الطبقة العالية التعليم، من آفاق مختلفة و متباينة التفكير و بلغتين مختلفتي الشحنات الفكرية، تعاني عقدة خيارات الاستلاب و الانغلاق و ضعف الانفتاح؟ و هل أن ما يجري من تنافر ضِمني على خلفية ضعف العطاء و غياب الرؤى البناءة هو الحائل الأول أمام قيام أي مشروع ثقافي يتضمن مسارا علميا يجر إلى التطور و آخر مدنيا شاملا يهدي إلى استيعاب و ترسيخ مفهوم الدولة الغائب و إلى الانضباط لنجاح المسار التحولي التنموي الحضاري؟ و هل تقبل بتكامل اللغات إلى غايات البناء و التوازن كما هو الحال في بلجيكا بين الوالونية (الفرنسية) و الهولندية (الجرمانية) و في الهند بين عشرات اللغات إلى جانب الانكليزية تحمل، بنجاح منقطع النظير، على ألسن أهلها همَّ الفن (السينما و الغناء) و العلم (مدينة للمعلوماتية في بنغالور Bangalore على غرار السليكون فالي (SiliconValley) في الولايات المتحدة الأمريكية، و الصناعة و السياسة. و الأمثلة الناجحة من الدول المتعددة اللغات كثيرة. فهل يخرج من بين ظهراني مثقفينا المتخندقين وراء انتماءاتهم الضيقة التي صاغتها ثلاثية الاستلاب و الانغلاق و ضعف الانفتاح من يرفعون لواء السعي إلى تنقية الذهنية من عوالق الخرافة و التجهيل و السطحية و الانزواء و التحريف و الاعتياش من جهة، و إلى كسر الجمود و محاربة تخلف الوعي المكرس ضعف الواقع الثقافي، و تحدي موج العولمة و ركوبه إلى آفاق التغيير من جهة أخرى؟ نريد لغة بحجم آمال وطن ينتحر لا يطالب واقع البلد بأرض مليون شاعر لكل منهم قصيده و غرضه و بحره الخليلي و مفرداته التي تحمل كل مواصفاته و رائحة أنفاسه، و لا يريد أرض مليون فقيه لكل تأويله و فتواه، لا يريد أرض مليون سياسي لكل خطابه و برنامجه إلى الحكم. إنما يريد أرضا خصبة ولادة تؤتي من كل حرث نفيس و كل لون بهيج.. شعراء ملتزمين و آخرين مبدعين، و علماء متمكنين و نصحاء متجردين، و سياسيين وطنيين و أصحاب رؤى ثاقبة و مشاريع بناءة لوطن مكين، و إعلاميين لامعين كتبة و محللين و مصورين، و مهندسين يُشيدون و يستخرجون المعادن و نفائس التربة، و آخرين يزرعون ضفة النهر و سهول و هضاب و واحات الوطن المعطاء، و أطباء و بيطريين، و معلوماتيين، و صيادين يستخرجون سمك مياه الوطن المعلومة الغناء و التنوع البيولوجي، و رجال أعمال يبنون الصروح العالية و المصانع المنتجة و يشغلون و يكونون المواطنين.. نريد وطنا تحمل لغتُه همَّه و آماله و بناءه و صونه. لا يريد مربدا للشعر النشاز و منابر فقه تفوح منه رائحة القبلية و التراتبية و بقايا جاهلية و “سيبة” مزمنة و عصية، و لا منصات لسياسة برائحة السلطوية و الفساد و الإقصاء، و لا مجالا عفنا للتفاضل بين الأثرياء بالمال، و لا إبحارا في سفينة تُستوْجِب الخرقَ على يد حكيم “خضيري” حتى تنجو من سطو سدنة الفساد و تملق الشعراء و تزلف باعة الدين و انتكاس أمة من كسل و جهل مدني حضاري… إن واقع هذا البلد المتردي نريد لغة عالمة تسع الفقه المنزه و الشعر الملتزم و العلم النافع و الطموح الشرعي و السياسة البناءة.. لغة بكامل عنفوانها و عطائها تحفظ إرث الماضي، تحمل هم الحاضر و تستشرف المستقبل. ضعف أثر التقاليد الأثرية الحضارية و اضطراب السلوك إذا كانت آداب الشعوب و صناعاتها التقليدية و فنون موسيقاها و معمارها و طبخها و ملبسها و رموز زخرفتها في كل الحضارات و ما تتوارثه أجيالها وتصقلُه و تضيفُ عليه في سيرورة التاريخ هي المرآة التي تعكس ذواتها و تحدد طباعها و ذكاءها و سلوكها و مستويات تحضرها و عطائها، فإنها تنضح أيضا و في مجملها بالرقة و العبقرية و طابع الإبداع الرفيع المميز. و إن ميراث الصين محير في هذا المجال و الهند باعث على التأمل العميق و في أمريكا اللاتينية عند “الأنكا” و “المايا” و “الأزتيك” عجيب في شحناته الرمزية و دلالاته العقدية رغم تواجدها في ركن قصي من الدنيا لم يتم اكتشافه إلا عند وصول “كريستوف كولمبس” في القرن الخامس عشر. و الأمر يجري على القارة العجوز في دقة و جمال و روعة إرثها الحضاري العلمي و البشري و قوة تجلياته في المعمار و الرسم و الموسيقى و صناعة بواخر (الكارافيل) العابرة للمحيطات من الخشب و الصلب في القرون الوسطى و الدوران بالعالم (فاسكو دي كاما) اكتشاف العوالم البعيدة و ربطها مع بعضها حتى أصبح العالم قارة واحدة و من بعد إطلاق شرارة الثورة العلمية و تجلياتها المذهلة اليوم. فلماذا لا ترى أسواق عريقة كالتي تشاهد في المغرب و السينغال و تونس و طهران و القدس و مدن الهند و الشرق الأقصى تنضح بالرقة و تفوح بالرائحة الذكية و الشذى القديم المتجدد و ألمعية شعوبها المتمسكة بمسطرة أخلاق موحدة متبعة بالإجماع في توحد فريد للمسلك العام و ضبطه؟ فهل يغيب على أحد ما نعاني من غياب مثل هذه المساطر و ما نفتقر إليه من تقاليد و آثار تهذب طباعنا و توجه مسار تعاملاتنا المضطربة؟ وهم الحداثة و جريرة التأخر لا شك أن الحادثة غشيت مجتمعنا و أن وسائلها غزته و مكنته من ناصية استخدامها في جانبها الخدمي و الاتصالي حتى انتشرت الهواتف الذكية و أجهزة التلفزيون و الكمبيوتر و السيارات رباعية الدفع، كما كفته و أنستْه ثورةُ “التكنواوجيا” الحديثة و عجيبُ اختراعاتها و عظيمُ إمكاناتها و وسائلها شر العطش و ضر نوائب الجفاف و شح المواد الغذائية، و خففت عليه وطأة الأوبئة و الأمراض الطفيلية. و لكنه ما زال على الرغم من كل ذلك بدويا و جلفا في الصميم، عصيا على المدنية و رقتها، متمردا على النظام و العدالة، كارها لبذل الجهد، مستأنسا في وحشة التخلف الذهني و الخواء الداخلي بمتاعب و وساوس أمراض القلوب من نفاق و كبر و غل و حسد و رياء و ريبة و سوء ظن و إعجاب بالنفس واحتقار الآخرين و قسوة قلوب و تحزب لغير الحق حتى خسر بها الوطن توجه اللحمة و وحدة الصف في عصر المواطنة و الممارسة السياسة الرصينة التي تؤسس للخطاب العقلاني و توجه إلى العمل الميداني ببرامج جادة و وسائل منطقية لجدية التنفيذ و رغبة الاستواء. استئناس تترجمه لغة بدائية مفرداتها حادة و جارحة ترنو في مجملها إلى العدائية تحتضنها الأسواق و تحد محطات الحافلات و سيارات الأجرة و الإدارات. و لا تسلم منها الندوات و التظهرات المحسوبة على الثقافية و الفكر و العلم التي تعمرها غالبا شياطين الغمز و اللمز و السب و الشتم نثرا و شعرا، و الإقصاء و التقزيم و التجريح في تَظَالُم مُستَحَب على خواء عطاء جلي تُراد تَغطيتُه دون قبُولِ الإحساسِ بأن الساعين أشدُّ عريا على قارعة مضمار الحضارة.