الدكتور البكاي ولد عبد المالك / يكتب عن مآسي ( العبيد السابقين ) في آدوابه الحوض الشرقي
مساء أمس كنت جالسا في سمر ليلي تحت ضوء القمر في ركن قصي من ولاية الحوض الشرقي وسط تجمعات ريفية تتكون أساسا من تجمعات قرى آدوابه (العبيد السابقين) فرأيت المشهد التالي : محيط جغرافي لا يزيد قطره على ثلاثة كيلومترات توجد به العديد من القرى متوسطة الكثافة يوجد في الخط الأمامي منه 10 قرى متشكلة في شبه دائرة توجد خلفها العديد من القريات والبيوتات المتناثرة هنا وهناك.
يوجد في ذلك المحيط الجغرافي برمته ما مجموعه أربع “مدارس” لا يجوز وصفها في الحقيقة بأنها مدارس ولا حتى بأنها “غير مكتملة” وهي العبارة الشائعة في مصطلحات الخريطة المدرسية عندنا لأنه لا يوجد في أغلبها سوى فصل واحد أو فصلين يدرسون في حجرة واحدة أو حجرتين ويتبعون “نظام التفويج” الذي قد لا يفهمه الكثير منا. وقد قدم أحد المعلمين في تلك المدارس للسلام علي فدفعني الفضول إلى معرفة تفاصيل ما يجري وطلبت منه أن يسرد لي يوميات الحياة المدرسية وتحديات العملية التربوية في تلك الربوع فضحك وربما شعر بشيء من الحرج والتردد لسبب أو لآخر لكنه عاد ليحدثني بصراحة عن تفاصيل تلك العملية قائلا : كل هذا المحيط الجغرافي لا توجد به مدرسة واحدة تستحق هذه التسمية. المدرسة التي أوجد أنا بها يوجد بها 120 تلميذا وأنا المدرس الوحيد ولا أدري ماذا أفعل لأنني أشعر بالمسؤولية الأخلاقية والدينية وبالواجب الاجتماعي تجاههم وإلا لما بقيت هنا يوما واحدا لكن الشيء الوحيد الذي حز في نفسي هو مجموعة كنت أدرسها من تلاميذ الصف السادس كان مصيرهم الضياع وذهبوا إلى الشارع لسبب بسيط هو أنهم رسبوا وتخلفوا عن رفاقهم الذين انتقلوا إلى الإعدادية الوحيدة الموجودة في المنطقة أي في محيط يتجاوز قطره 25 كلم . وأضاف قائلا المصيبة هي أنني رفضت استقبال تلاميذ الصف الأول (القسم التمهيدي) السنة الماضية وهم حوالي 60 تلميذا بناء على أوامر الإدارة الجهوية لسبب واحد هو أنه لا توجد أماكن شاغرة ولا أعداد كافية من المدرسين! ثم التفت إلى يساره وقال لي هل ترى تلك القرية هي أيضا بها مدرسة لا تقبل التلاميذ الجدد لأن المعلم الذي يوجد بها لم يعد يستقبل من أسماهم بـ “الوافدين” ويعني بهم طلاب القرية المجاورة التي لا تبعد عنها أكثر من كيلومتر ونصف تقريبا مما اضطرني أنا – يقول محاوري – إلى استقبال بعضهم في مدرستي لكنني تلقيت التوجيهات بعد ذلك بعدم استقبال المزيد لعدم توفر “المقاعد” الكافية ولا أدري ما إن كان يقصد بالمقاعد الطاولات أم أنه يقصد بها الطاقة الاستيعابية لأن الكثير من تلاميذ تلك المدارس يجلسون عادة على الأرض بسبب قلة الطاولات ما رأيته أنا هو أنهم جميعا تقريبا يحملون حقائب مدرسية وبعض التجهيزات التي منحتها لهم بسخاء الوزارة الوصية. ثم التفت إلى القريتين الثالثة والرابعة وقال هما أيضا بهما نفس المشكلة أما تلك وتلك وتلك… إلخ فلا توجد بها مدارس أصلا وأطفالها مشردون لم تعد لهم من فرصة سوى في المدرسة التي أديرها أنا : (ويعني بذلك أنه يختزل في شخصه الطاقم التدريسي فهو “المدرسون” والإدارة فهو “المدير” والرقابة فهو “المراقبون والمساعدون” إلخ). وفي الحقيقة أننا حتى ولو جمعنا تلك المدارس وطواقمها التربوية وفصولها فلن نتوصل إلى مدرسة واحدة متكاملة من حيث الطاقم التدريسي ولا من حيث عدد الفصول ولا من حيث الطواقم الإدارية . في نفس المحيط الجغرافي كنت جالسا في مثل هذا الوقت من السنة الماضية فزارني أحد وجهائها من ذلك القوس الذي يمكنك أن ترى وتسمع أصوات سكان القرى المكونة له فقال لي من أنه يشعر بامتعاض شديد من سلوك الوالي فسألته وماذا فعل الوالي : قال طلبت منه أن يكتتب لنا مدرسة عقدوية فاستجاب لطلبنا لكنه عينها في مدرستنا بعد أن سحب المدرس الذي كان موجودا بها فقلت له وما المشكلة إذن ؟ فرد علي ضاحكا بقوله هذه السيدة لا تعرف شيئا ولا علاقة لها بالتدريس أصلا فقلت له وقد انفجرت بالضحك أنا في الحقيقة أحيي الوالي ويعجبني ما فعله : يا أخي إذا كنتم أنتم لا تقبلون خدمات من اقترحتموه بأنفسكم للتدريس فكيف ترضونها لغيركم ؟! فضحكنا معا وانتهى الموضوع.