لماذا غادرت الطب إلى الصحافة؟
أحلام مصطفى كاتبة وباحثة
طلب منّي عدد من القرّاء أن أتحدث عن تفاصيل تجربتي في ترك كلية الطب والانتقال إلى كلية الإعلام قسم الصحافة المطبوعة. بعضهم يمر بنفس الرحلة والآخر ربما محتار ويريد أن يتأكد بأنه ليس مجنوناً وأن أحدهم قد فعل ذلك من قبل، ثم هناك طبعاً من يدفعه الفضول.
أذكر أن والدي كان يحضّرني لالتحاق بكلية الطب منذ كنت في المرحلة الثانوية، حتى أنه في يوم جاء إلى المدرسة واصطحبني في منتصف يوم دراسي إلى كلية جديدة كانت قد افتتحت مؤخراً حتى آخذ جولة في أرجائها. علي أن أقر بأن أداء الموظفة المسؤولة كان غريباً فلم أفهم هل أرادت أن تحمّسني أم أن تدفعني للنجاة بنفسي. تخيل أن يأخذك أحدهم ليُطلعك على قسم التشريح الجنائي، ثم إلى المشرحة نفسها، ويرفع الغطاء عن المستوعب الكبير المملوء بمحلول لحفظ الجثث التي تطفوا بداخله وقد تغير لونها وتفسخت أعضاؤها من كثرة المشارط التي حفرت فيها أنهاراً وأودية، وكان ذلك قرابة نهاية العام الدراسي عندهم.. أي أن الجثث شبعت تشريحاً.
أنهيت الثانوية بمجموع يؤهلني لدخول كلية الطب وتقدمت بطلبات الالتحاق في كلية أخرى غير تلك التي تجولت فيها
ثم أخذَت تُحدثني عن أنها جثث لمجهولين تأتي من ألمانيا! ناس يموتون على قارعة الطريق لا يُطالب بهم أحد فتخصص الحكومة جثثهم للمستشفيات التعليمية وتستوردهم بعض المستشفيات الخارجية! أصْدُقكم القول أن أياً من تلك المشاهد لم تشعرني بالتقزز، لسبب ما كنت عندما أفكر في الأمر الآن فقد كان غرس إبرة في يد مريض أمراً أكثر إرهاباً بالنسبة إلي من مناظر تلك الصور وبقايا الكائنات البشرية. المهم أنني أنهيت الثانوية بمجموع يؤهلني لدخول كلية الطب وتقدمت بطلبات الالتحاق في كلية أخرى غير تلك التي تجولت فيها. كانت دفعتي هي أول دفعة تدخل الكلية واضطلع العميد الجديد حينها بأن يجري مقابلة شخصية مع كل طالب متقدم على أساسها يتم اتخاذ قرار القبول أو الرفض. دخلت المقابلة وسألني السؤال التاريخي: لماذا تريدين دراسة الطب؟ أذكر أن جوابي عندها كان: لأنني لا أخاف من الدمّ، ولكن بصيغة سؤال.. تطلع إلى العميد بنظرة تنم عن تعجب، فتابعت بأنني لا تربطني أي علاقة عاطفية مع التخصص ولكنني أعتقد بأنني لدي المؤهلات التي تسمح أن أبلي فيه بلاءً حسناً. انتهت المقابلة بأن قال: أنت مقبولة، احرضي على دفع قسط حجز المقعد حتى لا يضيع مكانك. خرجت إلى أخي وعمّي – فقد كنا في مهمة رسمية أوكلها إلينا والدي المسافر- وهاتفنا أبي لننقل له النتيجة. في تلك الفترة كان لدي حرية الاختيار أن ألتحق بكلية التمريض في مؤسسة تعليمية أخرى، أو كلية الطب هذه. أذكر أنني كنت أميل إلى التمريض لأنني معفاة من الرسوم (فأنا لن أدرس ما أحب على كل حال، على الأقل سأدرسه مجاناً!)، ولكن والدي أصر على الطب برسومه المبالغ فيها. لدي قناعة دائمة بأنه ليس علينا أن ندفع لقاء تعليمنا أو على الأقل ليس علينا أن ندفع مبالغ طائلة!، وكان ذلك أحد الأسباب التي ساهمت في اتخاذ قراري بترك تلك الكلية مصاصة الدماء.
أعرف الكثيرين ممن لا يمانعون أن يقضي أهلهم الأيام بين الأعمال صباح مساء في سبيل أن يشتروا لهم ما يريدون أو يوفروا رسوم هذه الجامعة أو تلك الرحلة، وكأنه حقهم المكتسب!
ففي حينها كانت جامعة الشارقة تتقاضى70 ألف في العام عن كل طالب! كان هذا في 2004 أما الآن فقد فاقت المئة ألف! ثم بدأت النفقات الأخرى تظهر من كتب وأدوات وخلافه! أكد لي أبي مراراً أنه لا يجدر بي التفكير في الأمر فالمال سيُنفق في غاية سامية!! كنت أرى تلك الكلية كالسّامري الذي يأخذ مقتنيات الناس حتى يصنع لهم منها عجلاً يبجّلونه. مرّ أسبوعان من التردد المستمر على مختبرات الفيزياء والكيمياء التي أفقدتني صبري تماماً! أو على الرغم من أنني كنت أقضي الساعات المطلوبة في المذاكرة والتحضير، وشاركت في العروض التقديمية وخلافه من المقررات، إلا أنني جئت والدي وقلت: سوف أحول إلى كلية الإعلام (كانت تسمى الاتصال عندها). يا بنتي كيف تتركين الطب إلى الصحافة؟ يا بنتي لا يهم المال المهم العلم! يا بنتي يهديك يرضيك.. كان الأمر قد حسم بالنسبة لي.. ربما يستطيع أحد غيري أن يتعايش مع حقيقة أنه سيقضي 7 سنوات من حياته في تخصص لا يجد فيه نفسه ويرمي موارده المادية في الهواء! ولكنني لم أستطع أن أتحمل الفكرة! استحوذ علي أن الأمر أشبه بسرقة، ابتزاز مادي، وأنني أولاً وأخيراً أُستنفذ في مجال لا أفضلّه. في الحقيقة كنت عندها على قناعة بأنني أتخذ القرار الأنسب لوالدي وليس لي فقط، وأنه سيدرك ذلك مستقبلاً بعد أن تنزاح أضواء الطب الباهرة. لأننا ننسى كثيراً أن مسؤولية أهلنا تجاهنا لا تعني أن نستعبدهم بها.. أعرف الكثيرين ممن لا يمانعون أن يقضي أهلهم الأيام بين الأعمال صباح مساء في سبيل أن يشتروا لهم ما يريدون أو يوفروا رسوم هذه الجامعة أو تلك الرحلة، وكأنه حقهم المكتسب! والحق أن لا شيء من ذلك من حقهم! بل ظنّي أنهم سيحاسبون عليه حساباً عسيراً.. فكل ما يوفره لك أهلك فوق طعامك وشرابك ومسكنك وأساسيات الحياة من تعليم وصحة وخلافه هو رفاهية وفضل منهم! حكيت لكم سابقاً عن ردة فعل العميدين، عميد كلية الطب وكلية الإعلام عندما قدمت أوراقي للتحويل. أذكر أنني بعد أن تركت الطب مرّت عليّ فترة كان يراني فيها طلبة الطب في الجامعة المُحتفى بهم على أنهم “وجه القفص” وأول قطفة، وكانوا يرمقونني بتلك النظرة التي مفادها أنني فشلت في التأقلم مع “عظمة” الموقف لذلك انسحبت، أردت لو أصارحهم كيف أنني أنظر إليهم بتعاطف وشيء من الشفقة وأنا أراهم يحملون على ظهورهم تلك المجلدات الضخمة – التي بعتها وربحت من ورائها مبلغاً لا بأس به – ، أو وهم يتراكضون من المختبر إلى القاعة والعكس.. أو وهم أنصاف نيام في بداية يوم دراسي لا ينتهي إلى بمغيب الشمس وربما بعده. قد يقول البعض أن هذا أمر جدير بالاحترام، كثرة الدرس وطلب العلم، والتعب في سبيله. وليس لدي أي اعتراض على ذلك، أنا نفسي مررت ومازلت أمرّ بليالي أقضيها أبحلق في الكتب أو أمام شاشة الحاسوب أراجع هذا البحث أو أقرأ تلك الدراسة بعد يوم طويل من الاهتمام بعائلتي، ولكن كم من طلبة كليات “القمة” يدخلونها بحثاً عن العلم والمعرفة وحسن البلاء، وكم منهم يدخلها حتى يصبح اسمه الدكتور فلان والمهندس علان؟ أو حتى يتباهى والداه بأن ابنه يدرس ليصبح طبيباً وابنته تدرس لتصبح مهندسة؟ ثم إذا حان وقت الزواج بحثوا عن طبيبة مناسبة ومهندس مناسب! وكأن دماء العامة من أمثالنا لا يجب أن تختلط مع دماء الأطباء والمهندسين! (يذكرني هذا السطر بهاري بوتر والدارك لورد)! بعد انتقالي إلى كلية الإعلام قضيت فصلاً استمتعت فيه إلى حد كبير بمحاكات المؤتمرات الصحفية ودراسة بعض المساقات، ولكنني في نهاية الشهور الأولى أحسست بأن الصحافة لا تأتي من الكتب ولكن هي مهنة ممارسة، وأدركت بأن رغتبي في الكتابة خصوصاً الأدبية التي أعشق، ستُفيد أكثر من انغماسي في اللغة بكل تفاصيلها. كما أنها تفتح لي باب الدراسات العليا التي أردت أن أتركها خياراً. علينا أن نعترف بأننا مهما شطحنا بأحلامنا المثالية بعيداً عن واقع نكرهه فلابد أن نترك منفذاً نعود به إلى واقع نحبّه. تابعت بعدها دراسة اللغة العربية في مرحلة الماجستير ثم انتقلت لنيل درجة أخرى في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وأقبع الآن في غياهب الدكتوراه اللذيذة التي أدرس فيها سرد الذاكرة والفاجعة في روايات الراحلة رضوى عاشور.
ربما يفهم البعض من حديثي أن بيني وبين الطب عداءً شخصيًا، ولكن ليس هذا هو الأمر.. القضية هي أنني أمقت النفاق، وبيع النفوس من أجل السمعة والمركز الاجتماعي أو الربح المادي
تركت الطب غير مأسوف عليه، وظللت لأشهر بل سنوات أتلقى عبارات الاستنكار من الأقارب والأصدقاء ومن لا يعرفني أصلاً، كنت أجد الكثير من المتعة في ملاحظة ردود أفعال الناس بعد مشاركتهم تلك المعلومة، هناك نوع من الرضى يأتي من وراء كسر هالات المجتمع البغيضة، وأفكاره العرجاء. قضيت سنوات التعليم الجامعي أتنقّل في المواد الاختيارية بين الأقسام والكليات، من تاريخ المغرب والأندلس، إلى الكيمياء العضوية، إلى إدارة الأعمال، إلى علم الاجتماع، إلى مقارنة الأديان.. شاركت في الأنشطة الطلابية وترأست جمعية القسم، ساهمت في التحضير لمؤتمرات دولية وعملت كمساعدة تدريس، وجدت الوقت لقراءة كتبي الخاصة ومشاهدة الأفلام التي أحب ومطالعة الأخبار والتفاعل معها. لا أؤمن بالتخصص الواحد، أعتبره نقمة من نقم العالم الحديث، نعم من الضروري أن يكون هناك متخصصون، ولكن لا أعتقد أن من مصلحتنا أن يكون المتخصصون عميان لا يرون سوى ما يتعلمونه من كتب التخصص، ولا يعرفون شيئاً عن ما يحدث حولهم.. ولعل النظام التعليمي الذي يفرض على طلبة كليات “القمة” هذا النوع من الحياة المنعزلة هو ما نفّرني منها. ربما يفهم البعض من حديثي أن بيني وبين الطب عداءً شخصيًا، ولكن ليس هذا هو الأمر.. القضية هي أنني أمقت النفاق، وبيع النفوس من أجل السمعة والمركز الاجتماعي أو الربح المادي. أعتقد أنه لدينا ما يكفي من الأطباء الذين لا يعبؤون بمصائر الناس، أولئك الذين يتركون المقص والشاش في بطون مرضاهم، أولئك الذين يدخلون لاستئصال الزائدة فيخرجون بطحال وكبد.. أولئك الذين يتخذون من مرضاهم منجماً للذهب.. جزء كبير منهم مصدره الفتيان والفتيات الذين قادهم المجتمع إلى كليات الطب لأنها ستضمن لهم الحياة الكريمة والمكانة المرموقة. ليس علينا أن نعيش حياة مثالية حالمة، ولكن لدينا من المرونة ما يؤهلنا أن نصل إلى طريقة في الحياة لا نكرهها. لا، لا تترك كليتك إن لم يكن لديك خطة بديلة ووجهة تتجه إليها، ليس الطيش هو الهدف، ارسم طريقك وانظر جيداً أين تضع قدمك قبل أن تخطو تلك الخطوة. أكثر ما أمقت هو أن أرى الشباب وقد تم تثبيتهم إلى الأرض بمسامير، يعيشون وكأنه لا طريقة أخرى للحياة، تلك هي مصيبة الطريق الواحد.. افتحوا الأبواب، وسّعوا المدارك.. لا ينبغي أن نضيّع الأعمار في الفراغ ثم نتذمر من أنه لا خيار آخر! هناك اختيارات بعدد أيام السنة، ولكننا نختار أن لا نختار!