أطفال الجنوب الموريتاني.. رعاة للبقر
تعيش منطقة “شمامه” المحاذية لنهر السنغال بالجنوب الموريتاني، واقعاً مريراً من الفقر والجوع، الأمر الذي يعد السبب الرئيسي لاستفحال ظاهرة عمالة أطفال الفلاحين هناك، حيث يعجز الآباء عن إدخال أبنائهم المدارس القليلة المتوفرة في المنطقة، وأغلبهم يرغمون أطفالهم على ترك مقاعد الدراسة في سن مبكرة جداً للعمل بحثاً عن لقمة العيش.
وعلى سبيل المثال للواقع الذي يعيشه الأطفال بجنوب موريتانيا، يطارد الصبي عمر ممادو قطيع بقر قاطعاً مسافة كبيرة لا يقوى عليها جسده الصغير في ظروف مناخية صعبة، وفي مناطق شاسعة يكون فيها الطفل ممادو ذو الـ13 عاماً وحيداً ومسؤولاً عن قطيع كبير من الأبقار عليه البحث عن مرعى مناسب له والعودة به كامل العدد كل مساء.
ويحاول ممادو الذي أجبرته الظروف على الرعي بينما أقرانه في مناطق أخرى يمضون طفولتهم داخل قاعة الدرس، مساعدة عائلته والبحث عن أفضل مرعى حيث العشب والكلأ في أدغال الجنوب الموريتاني.
ورغم أن هذه المهمة تتجاوز قدرة طفل في سن ممادو إلا أن العوائل في الجنوب الموريتاني دأبت على تشغيل أطفالها في أعمال تكبرهم سناً وتتجاوز طاقاتهم وقدراتهم المتواضعة، وهو ما جعل الجنوب الموريتاني من أقل المناطق استفادة من التعليم، حيث تنتشر الأمية والجهل بين سكانه، ويتراجع عدد الأطفال المتعلمين فيها إلى درجة تنذر بالخطر.
العمل أم الدراسة
ويبدو ممادو سعيداً بمهمة الرعي التي أوكلتها إليه أسرته، حيث قال لـ”العربية.نت”: “أنا حر أذهب بالقطيع إلى حيث أشاء، وفي نفس الوقت مسؤول عن ثروة الأسرة، فهذا القطيع أغلى ما تملك عائلتي، وعليّ المحافظة عليه وتنميته”.
ولا يعتبر ممادو أن عمله في هذه السن خارج عن العادة، فهو على الأقل يعمل لدى عائلته، بينما أقرانه أجراء يتحملون الأعمال القاسية، في منطقة ينخرها الفقر وتعاني من المجاعة، لذا فممادو يعتبر نفسه غنياً مقارنة بأقرانه ومستقلاً بعمله في محيط يعاني من العوز الشديد.
ويكشف حديث الطفل ممادو عن واقع مرير تعيشه منطقة “شمامة” المحاذية لنهر السنغال، وهي من بين المناطق التي دعت منظمات دولية، من بينها الأمم المتحدة، إلى توفير دعم عاجل لإنقاذ سكانها الذين يعانون المجاعة والفقر، ولعل هذا هو السبب الرئيسي لاستفحال ظاهرة عمالة أطفال الفلاحين في جنوب موريتانيا، حيث يعجز الآباء عن إدخال أبنائهم المدارس القليلة المتوفرة في المنطقة، وأغلبهم يرغمون أطفالهم على ترك مقاعد الدراسة في سن مبكرة جداً، كما يؤكد المعلم محمد محفوظ ولد العربي، ويقول غالبية الفلاحين في مناطق الجنوب يمنعون أطفالهم من الانتساب إلى المدرسة، لأنهم يفضلون أن يساعد الأبناء في إعالة الأسرة، وتولي مهمة الرعي التي تعتبر في كثير من الأحيان مصدر الدخل الوحيد للعائلة.
ويضيف ولد العربي “العوائل في المناطق التي تعرف نشاطاً فلاحياً وزراعياً يعاملون الأطفال كبالغين، ويرغمونهم على مزاولة أعمال تكبرهم سناً وتتجاوز طاقاتهم، ويمنعونهم من متابعة الدراسة، بحجة أن العمل كثير، وأنهم في حاجة ماسة لعمل كل فرد من العائلة”.
ويشير ولد العربي إلى أن الوضع تفاقم مع ارتفاع نسبة الفقر والتحذير من كارثة إنسانية في الجنوب الموريتاني، حيث ازداد الضغط على العوائل، وأصبح حتى المهتمون بتعليم أبنائهم يترددون في إرسالهم للدراسة، ويضيف “المحظوظون فقط هم من يستطيعون أن يجمعوا بين العمل والدراسة، بعد أن سمح لهم آباؤهم بالذهاب إلى قاعة الدرس ولو لفترة وجيزة في اليوم، ثم العودة مجدداً إلى العمل الذي أصبح عرفاً سائداً ومتحكماً في عقلية أهل الجنوب”.
ويؤكد ولد العربي أن المعلمين يحاولون بشتى الطرق إقناع سكان الأرياف بأهمية الدراسة، ويعانون إلى جانب صعوبة التعليم في منطقة زراعية بها ضيعات مشتتة وبوسائل بدائية، من فقدان أعداد من التلاميذ داخل الفصل الدراسي، وهو ما يؤثر سلباً في مستوى التعليم.
تفاوت في الدراسة
ويدعو الباحثون إلى إطلاق حملة وطنية لعودة الأطفال إلى المدارس وتوعية سكان الأرياف بأهمية التعليم ومحاربة الفقر الذي يدفعهم إلى التضحية بمستقبل أبنائهم وإرغامهم على العمل وهم في مقتبل العمر، وتحديث البرنامج الوطني لتنمية قطاع التعليم واتخاذ إجراءات ملموسة للسياسة التعليمية في الأرياف.
وتؤكد الدراسات التي اهتمت بالهدر المدرسي أن النفقات الحكومية المخصصة للتعليم غير كافية ولا يتم توزيعها بإنصاف، حيث إن البنية الحالية لاستخدام الموارد العامة تبدو مناقضة لمنطق الإنصاف، وتعيق العائلات الأكثر فقراً، ولا تساهم في توفير التعليم لجميع الأطفال. ولاحظت إحدى الدراسات أن الحضريين يستفيدون مما يناهز ثلاث مرات ما يستفيده الريفيون في تربية أبنائهم، كما تستفيد الأسر الأكثر غنى من الموارد العمومية ثلاث مرات ونصف المرة أكثر من الأسر الفقيرة.
ارشيف العربية