ظاهرة صحية وأخرى غير صحية

سنحاول في هذا المقال أن نتوقف مع بعض مفردات القاموس الرسمي، وسنتوقف تحديدا مع مصطلحين، يتعلق أولهما بمصطلح “ظاهرة صحية”، ويتعلق الثاني بمصطلح “ظاهرة غير صحية”.

ظاهرة صحية تعودنا في هذه البلاد بأنه كلما حدثت أي عملية سطو أو أي جريمة بشعة تشغل الرأي العام لحين من الدهر، 

تعودنا في مثل هذه الحالات أن يخرج علينا بعض كبار المسؤولين الأمنيين أو بعض الموظفين  أو السياسيين الموالين  ليقول لنا بأن نواكشوط قد أصبحت مدينة كبيرة ومتطورة وبأن هذا النوع من الجرائم يحدث دائما في المدن الكبيرة والمتطورة. وفي هذا الإطار قال النائب “زيني ولد أحمد الهادي” في مقابلة له مع قناة “الساحل” بأن كثرة الجرائم في نواكشوط، من سرقة، وسطو مسلح بأنها “ظاهرة صحية” وتوجد في جميع المدن الكبرى في العالم، مثل نيويورك، وباريس. لا مشكلة لدينا، سنقبل بهذه المقارنة، وسنقبل بأن نواكشوط قد أصبحت فعلا مدينة كبرى وأنها متطورة وأن حدوث جرائم بشعة فيها هو أمر عادي،  وبأنه ظاهرة صحية، ولكن لماذا لا نقارن بين العاصمة نواكشوط وبقية المدن المتطورة في العالم  إلا عندما يتعلق الأمر بالجرائم وبعمليات السطو؟ وهل يستطيع النائب المحترم أن يقارن بين نواكشوط وبقية المدن الكبرى والمتطورة في مجالات أخرى غير سلبية؟ ومتى سنسمع من كبار المسؤولين والساسة في الموالاة مقارنات من قبيل: ـ العاصمة نواكشوط هي مدينة كبيرة ومتطورة ولذلك فإنها كبقية مدن العالم المتطورة وغير المتطورة يوجد بها صرف صحي. ـ العاصمة نواكشوط هي مدينة كبيرة ومتطورة ولذلك فإنها مدينة نظيفة كما هو حال بقية المدن الكبيرة والمتطورة في العالم. ـ العاصمة نواكشوط هي مدينة كبيرة ومتطورة وتوجد بها جسور ومتنزهات كما هو حال بقية المدن الكبيرة والمتطورة في العالم. ـ العاصمة نواكشوط هي مدينة كبيرة ومتطورة وتوجد بها مستشفيات ومراكز صحية ذات جودة عالية كما هو الحال في بقية المدن الكبرى، ولذلك فإن سكانها من الميسورين  لا يذهبون إلى عواصم الدول المجاورة كلما أصيب أحد منهم بمرض  خطير أو عادي. ـ العاصمة نواكشوط هي مدينة كبيرة ومتطورة وتوجد بها جامعات ومعاهد راقية كتلك التي توجد في المدن الكبرى والمتطورة ، ولأنها كذلك فإن طلابها لا يذهبون إلى الجامعات في الدول المجاورة لغرض الدراسة، ولم يحدث أن شاهدنا طلابا موريتانيين يعتصمون أمام سفارات بلدهم في عواصم الدول المجاورة طلبا للمنحة. إنه على كبار المسؤولين والساسة في الموالاة أن يمتلكوا الشجاعة للمقارنة بين العاصمة نواكشوط وكبريات المدن في المنطقة وفي العالم في كل مناحي الحياة الإيجابية أو السلبية، وإذا لم يمتلكوا تلك الشجاعة فإن عليهم أن يتوقفوا عن تصديع رؤوسنا بالمقارنة السلبية بين العاصمة نواكشوط وبقية المدن الكبرى في العالم في المجالات السلبية فقط. وإذا ما امتلك كبار المسؤولين والساسة في الموالاة الشجاعة ليقارنوا بين العاصمة نواكشوط وبقية المدن الكبرى في الأمور الإيجابية، فإني في هذه الحالة سأسعفهم ببعض “زلات اللسان” التي تؤكد بأن نواكشوط هي بالفعل مدينة متطورة، وبأنه يمكن مقارنتها في المجالات الإيجابية بالمدن الكبرى في العالم. ـ قال الرئيس محمد ولد عبد العزيز في نسخة من “لقاء الشعب”، وفي إطار الحرب على الفساد بأن هناك 70 شخصا استولوا على 917  قطعة تحتوي على 35000000000 م²، ولكم العذر إذا لم تتمكنوا من قراءة هذا الرقم الأخير قراءة صحيحة. ـ قال عبد الله ولد أحمد دامو وهو مكلف بمهمة في الرئاسة في لقاء له مع قناة “الوطنية” بأن الدخل اليومي للمواطن الموريتاني وصل سنة 2016 إلى  1300 دولار. المكلف بمهمة تحدث عن الدخل اليومي لا الشهري ولا السنوي، وتحدث بالدولار لا بالأوقية.وإذا ما قمنا بعملية حسابية بسيطة، وبالاعتماد على أسعار الصرف في موقع البنك المركزي فسنجد بأن متوسط دخل الفرد الموريتاني لليوم الواحد يقترب من نصف مليون أوقية! ـ قال الناطق الرسمي باسم الحكومة في أحد مؤتمراته الصحفية بأن الحكومة تنفق على محروقات الجيش خمسين مليون دولار كل خمسة أيام . هنا أيضا تم الحديث بالدولار لا بالأوقية، وبعملية حسابية بسيطة فسنجد بأن الحكومة تنفق في كل يوم طلعت شمسه على محروقات الجيش ما يعادل 358.000.000 أوقية. ـ قال رئيس الحزب الحاكم على هامش نشاط نظمته إحدى المبادرات الداعمة للتعديلات الدستورية بأن الموريتانيين يعرفون مستوى الرفاهية الذي يعيشون فيه اليوم، وبأنه يوجد في مدينة الشامي 700 مطعم و1500 حانوت تجاري. هذا عن عدد المطاعم في مدينة الشامي وهي من المدن التي تم استحداثها في الفترة الأخيرة، فكم سيكون عدد المطاعم في العاصمة نواكشوط؟ أنتم هنا بحاجة أيضا إلى رقم فلكي لتقدير عدد المطاعم في العاصمة نواكشوط. إذا ظلت زلات اللسان تسير في هذا المنحى المتصاعد، فإنه لن يكون من المستغرب أن يطل علينا غدا وزير أو سياسي من الموالاة ليقول لنا بأن مدينة نواكشوط قد أصبحت أكثر تطورا من كل مدن العالم، وبأنه لم يعد بالإمكان مقارنتها بمدن الدنيا، وبأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت! ظاهرة غير صحية قال الرئيس محمد ولد عبد العزيز في آخر مؤتمر صحفي له بأن تصويت الشيوخ ب “لا” على التعديلات الدستورية بأنه ظاهرة غير صحية. دعونا نفترض جدلا بأن التصويت ب “لا” هو ظاهرة غير صحية، بل ودعونا نفترض جدلا بأن أي “لا” ترفع في وجه السلطة تدخل في خانة الظواهر غير الصحية، دعونا نفترض كل ذلك، ودعونا نتبع الخطوات الصحية التي اتخذتها السلطة للرد على الظاهرة غير الصحية المتعلقة بتصويت الشيوخ ب”لا” على التعديلات الدستورية. ـ لقد قرر الرئيس محمد ولد عبد العزيز أن ينقلب على الدستور في أول رد صحي له على تصويت الشيوخ غير الصحي، ولذلك فقد قرر أن يحول المادة 38 من الدستور الموريتاني إلى مادة سحرية لحل أي مشكلة قد تواجهه. ومن يدري فربما يخرج عليكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز إذا ما حدثتموه عن واقع الصحة المتردي ليقول لكم داووا مرضاكم بالمادة 38، أو يقول لكم إذا ما حدثتموه عن واقع التعليم المنهار بأنه عليكم أن تعلموا أبناءكم بالمادة 38، وهكذا: أطعموا جوعاكم بالمادة 38، واسقوا العُطَّش بالمادة 38، وشغلوا العاطلين عن العمل ببركات المادة 38، واحموا أنفسكم من الانفلات الأمني بسياج من المادة 38. ـ ومن الظواهر الصحية أيضا التي ردت بها السلطة على تصويت الشيوخ “غير الصحي” هو أنها أطلقت مبادرات ذات طابع قبلي وجهوي للترويج للاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية، بل إنها أكثر من ذلك فقد سمحت لبعض كبار الضباط أن يطلقوا مبادرات خاصة بهم أو أن يدعموا مبادرات يطلقها مقربون منهم. فهل سيمتلك أولئك الذين تعودوا أن ينتقدوا المعارضة بإقحامها للجيش في خطابها السياسي أن ينتقدوا الآن السلطة لأنها أقحمت الجيش في العمل السياسي؟ خلاصة القول، أن القاموس الرسمي يعتبر بأن تحكيم الشيوخ لضمائرهم، وتصويتهم ب”لا” على تعديلات دستورية لا يرون لها أي فائدة على المواطن والوطن، بأن ذلك يعتبر ظاهرة غير صحية، أما إطلاق المبادرات القبلية وإقحام كبار الضباط في العمل السياسي، فإن ذلك يعتبر ـ حسب القاموس الرسمي ـ من أكثر الظواهر صحية، ومن أكثرها نفعا للديمقراطية ولبناء دولة المؤسسات. حفظ الله موريتانيا..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى