الكلمة الختامية في حفل اختتام مهرجان الادب الموريتاني الثامن
الليلة ننهي حوارا إبداعيا دام أربع ليال مع القمر الضاحك والكلمة الساحرة … ننهي فورة من القبلات طبعناها معا على خد الزمن … وكأي منحوتة قُدّر لها أن تحكي عن زمن الأساطير والمستحيل ستبقى تلك المواجد الشعرية التي بثثتموها هنا … حكاية لا تروى وإنما هي مجرد شاهد على أن عشاقه صلى الله عليه وسلم مروا من هنا يوما .
إن بين الكلمة النافرة من القيود ودمعة شاعر أو كاتب هارب من عذابات الخيال و التخييل أواصر قربى … إننا نتخيل في اللحظة التي نشعر فيها أن هاتفا ما يصيح بنا : لا للتبتل في محراب القديم … الإبداع لا ينجب تحت القيود والوأد والألم فحسب … الإبداع كزهور بنيفيست لا تنبت في السماء .
أيها الأعزة : لا أريد أن استرسل قبل أن أعيد قناعة إبداعية لدي طالما كررتها :
لست هنا لأقدم موعظة أدبية عن تاريخ الأدب وكيف استطاع أن يبعث الحياة في عتمة العدم واليأس والضياع .
لست هنا لأدعم الجاحظ في قولته أن الشعر خاصية عربية صرفة، ذلك أننا نعيش زمنا يولد فيه الشعر من رحم الأشياء غير المتناسقة، فنسمة الهواء القادمة من الجداول شعر … وحفيف أغصان الطلح و القتاد شعر، وابتسامة طفل في صباح عربي صادم شعر، وبندقية في يد مبتورة على جنبات الشارع الثوري شعر .
وبين اليقظة والسبات قصيدة طويلة نسميها الحلم وهي في الحقيقة مجرد رؤيا شعرية لآلاف الشخوص المتوارين خلف أحاسيسنا .
لست هنا أيها الأعزة لأسائل الشعر عن لغته عن وجوده عن ماضيه المليء بالانتصارات والانكسارات، ذلك أن تاريخه هو الصورة القلمية لتاريخنا جميعا . شئنا ذلك أم أبينا .
الشعر يا سادتي عصي على التعريف .
هل تعرفون أن كل تعريفاته القديمة لم تتجاوز الشكل الخارجي ؟
هؤلاء لم يدركوا أن دمعة عاشق مهجور أكثر شعرية من كل دواوين الغزل العذري و الإباحي العربي؟ لم يدركوا أن انتشال الأطفال من تحت الأنقاض في الحروب التي صنعها الكبار أكثر تعبيرا من كل مجلدات الرثاء العربي منذ حرب البسوس وحتى سقوط بغداد في القرن العشرين.
لم يدركوا أن ابتسامة متسول في وجه محسن على قارعة الطريق أكثر بلاغة من كل قصائد المدح . الشعر يا سادتي سينفونية تخترق الزمن ولا تؤمن بعازف واحد ولا بجوقة واحدة، فلماذا نكبت حرية كلمة هي نفسها ترفض الكبت … هي نفسها ثائرة على واقعنا المزكوم بالطقوس والأحكام الجاهزة . هنا وفي مكاني هذا وحيث أقف سمعنا معا هديل الهائمين في حبه صلى الله عليه وسلم .. سمعنا أهازيج المتصوفة ومواعظ الدراويش وحِكم الزهاد ومن كل ذلك انتشينا طربا وشرق البعض بدمعه … لكننا في الوقت نفسه لم ننتبه إلى أن هذا هو الشعر … فحين يخترق احدهم أفق انتظارنا ولا نجد أمام لحظة التجلي تلك سوى القفز طربا أو السكرة انتشاء فمعناه أن الكلمة تمكنت أخيرا من التعرف على ذاتها في زمن تفقد فيه الأشياء سيرتها والأفكار أنسابها .
أيها الأعزة :
عندما قال الأصمعي إن اشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه، فهو لم ينتبه إلى أن عجلة الصور والأخيلة تدور … نحن اليوم أمام ذائقة متمردة وثائرة … عصية على التصنيف ولكنها تريد أن تعيش زمنها دون أن يعتقد الأصمعي ومريدوه أنها تضيق ذرعا ب (مستشزرات) الملك الضليل أو (شلول) الأعشى أو ايروسية (ابن أبي ربيعة) أو (بوذية) المعري … أبدا – أيها السادة- ذائقة اليوم لا تريد أن تعير عمرها الافتراضي لمن عاشوا أعمارا وشبعوا حياة حتى في القبر . ذائقة اليوم تريد لزمنها هذا أن يبلِغها ما ليس يبلغه من نفسه الزمن .
باختصار تريد الحياة .
أيها الأعزة :
شكرا لكم جميعا على وفائكم للكلمة، شكرا لكم على ذلك الخيط الرفيع الذي ربطتم به بين الماضي والحاضر … شكرا لكم على كل أنة طرب منحتمونا إياها طيلة الليالي السالفة، شكرا لكم على كل هزة نفضتم بها عنا غبار الصمت والهوان … لقد أعدتم ألينا الأمل في انه وبرغم الموت الماحق فينا ليل نهار … برغم شحوب الأصيل … وكدرة الصباح .. هناك أمل وقت السحر … وانتم وحدكم من يعرف السحر . شكرا لكم .
الليلة ننهي هذا المهرجان الذي تبادلنا فيه البسمة مع القمر وعذرية اللقاءات، ننهيه وفي خلجاتنا أمنيات ومطامح كثيرة للأدب وأهله .
لهذا نشكر كل من ساهم معنا في انجاز هذا الحدث، يستوي في ذلك الجنود المجهولون وأصحاب النياشين والرتب .
أيها الإخوة :
لا ندعي إننا وقفنا في كل شيء ذلك أن من حكمة الله أن يبقى البشر دون الكمال، ولكن حسبنا إنكم لن تتركوا المثالب تقلل من قيمة ما قمنا به جميعا نحن وإياكم .
اعذرونا وتجاوزوا عنا وعن لحظات الضعف الإنساني فينا… فأنتم تدركون أن هذا الفضاء لا يسع غير الإحساس المرهف والقلوب الشفافة … وإلا فما معنى أن يكون الشعر أصلا .
أصدقائي حكيت ما ليس يحكى === وشفيعي طفولتي والنقاء
إنني قادم إليكم وكفي === فوق قلبي حمامة بيضاء
افهموني فما انأ غير طفل === فوق عينيه يستحم المساء
أنا لا اعرف ازدواجية الفكر === فنفسي بحيرة زرقاء
لبلادي شعري ولست أبالي === رفضته آم باركته السماء
شكرا لكم وكل عام والأدب في موريتانيا بألف خير .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأمين العام لإتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين الدكتور الشيخ سيد عبد الله