ولد صلاحي في مقابلة مع الأخبار
أجرت صحيفة الأخبار إنفو في عددها 176 الصادر يوم الأربعاء الماضي 24 مايو الجاري، مقابلة شاملة مع المعتقل السابق في سجن غوانتنامو المهندس محمدو ولد صلاحي.
وتناولت المقابلة ظروف السجن الأمريكي واللحظات الأصعب والأكثر طرافة، إضافة إلى مشاريعه المستقبلية وطموحاته.
وتناولت المقابلة أيضا معاناة المنع من الحصول على الوثائق الثبوتية حتى الآن في موريتانيا.
وكذا التحديات التي واجهها في التعرف على أفراد عائلته ممن تغيرت ملامحهم من بعده والذين ولدوا أثناء وجوده في السجن.
وهذا نص المقابلة:
السؤال الأول: طلبتم من الصحفيين بعيد وصولكم لمنزل الأسرة أن يمنحوكم فرصة للتعرف على ملامح أسرتكم، هل تعرفتم على ملامحهم، وهل تعرفتم قبل ذلك على ملامح الوطن الذي يبدو أنه يرفض التعرف عليكم؟
ولد صلاحي: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
صحيح، كان عندي هاجس التعرف على العائلة، وحين أعلموني أني سأذهب، وأن هناك احتمال أن يطلق سراحي، أخذت كل الصور القديمة ووضعتها أمامي ثم قارنتها بالرسائل التي كانت ترسل وصرت أكتب الأسماء، وكنت أنظر إلى الصور خلال السنوات فلاحظت أن ملامح الوجوه قد تغيرت.. بعض الصور تعرفت عليها وبعضها لم أتعرف عليه.. فصرت أسأل بعض الحراس وبعض الناس الذين كانوا يشتغلون في السجن هل هذه الصورة هي نفس هذه الصورة ثم اتخذت نظاما ووضعت الصور كلها ثم صرت أوالي الصور..(يضحك) طبعا لما صرت إلى الذين ولدوا بعدي والذين تركتهم صغارا لم أتعرف على معظمهم وحتى الآن ما زالت عندي مشكلة في الأسماء، والمشكلة أيضا عندنا في موريتانيا أن كثير من الناس يقول لك: هل عرفتني؟
هذه محرجة جدا.
محرج أن يكون الجواب: لا، إنني لم أعرفك، هذا لا يعني أنك لست في قلبي، وأني لا أحبك، وإنما فقط الإنسان ينسى وهذا شيء طبيعي.
في الجواب على السؤال إنني الآن أفضل مما كنت عليه حين قدمت، ولكن لم أرجع بعد إلى الحياة 100%.
الأخبار إنفو: بخصوص الوطن، هل ما زال يرفض التعرف عليكم؟
ولد صلاحي: الوطن (صمت طويل مع مغالبة الدموع)، حب الوطن غريزة (يبتسم ويأخذ كوب ماء) لا تحتاج إلى جهد (عودة الصمت ومغالبة الدموع)، الوطن يجب أن يكون وطني، ووطنك، ووطن الحكومة الحالية، ووطن الحكومة الماضية ووطن الحكومة التي ستأتي، فهو هذا وطني أنا..
أنا جدي مدفون منذ حوالي 400 سنة، زرته قبل أسابيع، إذا هذا وطني أنا، والوطن بالمعنى هو الشعب، طبعا تعرف علي الشعب والأصدقاء والأسرة والأهل هذا شيء يعني تحصيل حاصل، ولكن أريد – لا زلت يعني أرجوا – من الحكومة أن تتشجع، وأنا أظنها ستتشجع، لأني سمعت سيادة الرئيس قال عدة مرات إنه لا يقبل الإملاءات من الخارج، والناس الذين التقوا به شخصيا أعادوا لي كلاما في هذا المعنى، والذي فهمته أن الإملاءات تعني المطالبات بحقوق الإنسان في هذا البلد، فما بالك بالمطالبات بانتهاك حقوق الإنسان في هذا البلد.
فهذا من باب أولى أن دولة تقول لك انتهك حقوق المواطن “الفلاني” طبعا هذا لا يقبل، أنا لن أقبله، والموريتانيون طيبون كل الموريتانيين طيبون، ولن يقبلوه، والحكومة أيضا، الحكومة – إن شاء الله – ستفعل ما يوافق القانون وما يوافق هذا الدستور الموريتاني وتلبي مطالبي.
الأخبار إنفو: هل هذا يعني أنك ما زلت تتهم أمريكا أنها تلاحقك في البلد، وأنها هي من يقف وراء حرمانك من وثائقك الوطنية؟
ولد صلاحي: شوف، يعني أخي الكريم وصديقي أنا لا أتكلم بالألغاز، مشكلتي مع الحكومة الموريتانية، ليست مع أمريكا مطلقا، أمريكا تطلب ما تريد، هذا من حقها، لأن أمريكا تريد أن تحافظ على بلدها، ونحن طبعا نرجو أن تكون أمريكا تحافظ على بلدها وعلى سلامتها في إطار القوانين الدولية التي وقعت عليها، وهذا ليس من اختصاصي كمواطن موريتاني، أنا اختصاصي كمواطن موريتاني أن أحصل على حقوقي في بلدي، لا يهمني ماذا تطلب أمريكا، لا يهني مطلقا؛ الذي يهمني أن موريتانيا هي التي تمسك بزمام السلطة، وهي التي تملك أوراقي وهي التي تستطيع إعطائي أوراقي، ليست أمريكا، أنا لا يهمني أصلا ماذا تقول أمريكا، أنا يهمني الحكومة الموريتانية، أنا تاريخي كله مع الحكومة الموريتانية، فهي التي سلمتني حين رفضت ألمانيا، وحين رفضت كندا.. وحتى بعد خروجي أيضا قبلتني ألمانيا، لكن الحكومة الأمريكية هي التي أصرت على أن أذهب إلى موريتانيا، لأنها تعتبر موريتانيا فوضى، وتعتبرها دولة ليس فيها قانون..
أنا أقول يمكن لنا كموريتانيين الآن أن نبرهن أننا دولة تحترم القانون، فأمريكا لا تستطيع أن تمنع مواطن أمريكي من الحصول على أوراقه، هذا مستحيل، هذا مهزلة مسخرة، فما بالك بسفير أمريكا يقول: “ولد صلاحي لا يحصل على أوراقه”، هذا أصلا مسخرة.. أنا أضحك منها..
أنا أظن أن الحكومة الموريتانية، وأقصد السيد الرئيس سيفعل الشيء الصحيح، الشيء الذي يوافق الدستور، ويوافق القانون، ويعطيني حقوقي، وهذا مجرد الكلام فيه يعني غريب (يضحك) واحد يتكلم، ويقول أنا أريد بطاقة تعريف.. هذا شيء غريب.
الأخبار إنفو: هل وافقت ألمانيا على استقبالك قبل موريتانيا؟
ولد صلاحي: نعم، ورفضت أمريكا، رفضت أمريكا، أنا أتذكر أنه في شهر أغسطس من السنة الماضية صادف أن كانت هنا في موريتانيا مظاهرات لا أعرف إن كانت مظاهرات حقوقية أو شيء من هذا القبيل وسجن فيها بعض الناس اتهمتهم الحكومة الموريتانية بأعمال شغب، وقد أغضب الأمر أمريكا كثيرا، وأصدرت بيانا شديد اللهجة قرأته، وعندما خرجت أخذت نسخة منه – وهي عندي الآن – وطالبت فيه موريتانيا باحترام القوانين، وألا تعامل الناس خارج إطار القانون وحقوق الإنسان.
وعودة إلى موضوع ألمانيا، أقول إنهم لما قالوا لي أنت لن تذهب إلى ألمانيا، ستذهب إلى موريتانيا، قلت لهم الحمد لله أنا جئت عندي البيان، أنتم تريدون من موريتانيا أن تحافظ على القانون، وأن تطبق القانون، أنا لا أريد غير هذا، وهذا طبعا أمر بسيط..
اتركونا نتكلم بصراحة، من البسيط أن نهجم على أمريكا، دعونا نفتح اليوتيوب الآن سنشاهد الهجوم على الرئيس الأمريكي دونالد اترمب، حلقات كثيرة تتحدث بكلام يعني جارح وقادح في الرئيس أوباما وهم في أمريكا، وفي التلفزيون الأمريكي وأوباما لم يتضايق منه، من البسيط أن نهجم على أمريكا ونقول إنها دولة تسلطية، لكن مشكلتنا الحقيقة في بيوتنا، وليست خارجية، ليست في أمريكا.
الأخبار إنفو: ضج الجزء من الحي من الضمير العالمي إثر إصداركم لـ”يوميات اغوانتنامو”، ومع ذلك من الواضح أن ما ظهر فيها لم يكن الجزأ الأسوء من الصورة، وإنما جزأها الأسوء هو ما تم شطبه وتغييبه عن الكتاب، هل تفكرون في كشف الجزء الآخر من الصورة؟
ولد صلاحي: نعم، سيصدر قريبا، بعد ملئ فراغاتها، فأنا أعمل عليها الآن، وسأريك بعضا منها، لكن لا يمكن أن تكون كثيرة حتى لا يغضب مني أهل الطباعة.
الأخبار إنفو: ما هي المعلومة التي فاجأك حجبهم لها؟
ولد صلاحي: صراحة فاجأني الشيء الكثير، ولكن الأكثر مفاجأة بالنسبة لي هو قطعة شعرية، لأني تساءلت بجد عن مشكلة هذه القطعة الشعرية؟
الأخبار إنفو: هل هي من إنتاجكم؟ وما هي لغتها؟
ولد صلاحي: نعم هي من إنتاجي، وكانت باللغة الإنكليزية، لأنني بدأت الكتابة باللغة العربية لكن فنزع مني كل شيء بعد ذلك، ولما جاء المحامون في 2005 طلبوا مني أن أكتب قصتي فقط هكذا، وعندما بدأت الكتابة تحول إلى كتاب، وفضلت الكتابة بالانكليزية لبساطة الاتصال مع المحامين، ولأنه أيضا لا يحتاج إلى ترجمة ستكلفهم كثيرا.
كما أن الكثير من المعلومات التي تمت تغطيتها كانت تتعلق أسماء وأماكن، والصفحات الكثيرة هي التي كانت عن تورط المخابرات الكندية مع المخابرات الموريتانية في قضية الاختطاف، وقضية جهاز كشف الكذب لأنهم أخضعوني للجهاز مرتين، فهم لما عذبوني كثيرا لأشهر عديدة عبرت لهم عن استعدادي لأعترف، فاعترفت لهم بأشياء لم أفعلها، وكان تحديا للمخابرات، لأن الإنسان إذا اعترف ينتهي كل شيء، ولكن الأمريكان أذكياء جدا، والمخابرات قالت: هذا غير صحيح، لم يفعل شيئا من هذا، بالنتيجة النهاية قالوا إذاٌ أخضعوه لجهاز كشف الكذب، وفي كل مرة أوضح الجهاز أنني لم أفعل هذه الأشياء التي اعترفت بها فمحوا هذا الشيء، ولكن أنا لم أرجع عنه بالطبع.
الأخبار إنفو: وما هي قصة جهاز كشف الكذب هذا؟ وكيف أخضعوكم له؟
ولد صلاحي: هو بسيط جدا، ليس هناك جهاز يكشف الكذب 100%، هذا لا يوجد على الإطلاق، أعطيك مثالا بسيطا، الإنسان المجنون لا يمكن أن تكشف كذبه، لأنه بالنسبة له لا يعرف الفرق بين الكذب والصدق، دعونا نقول ماذا يكشف الجهاز؟
الجهاز حساس، ويوضع على الكف، يكشف تصبب العرق، لأنه كلما تصبب عرق الإنسان كلما انخفضت درجة حرارته، فالجهاز إذا انخفضت درجة الحرارة يكشف ذلك، وأيضا الجهاز في نفس الوقت يوضع على البطن، ويرصد تحركه، لأن هذا كله لا إرادي، فالإنسان لا يتحكم أصلا في هذه الأشياء، فالجهاز يقول هذا الإنسان انخفضت درجة حرارته، ويعطيك مسار درجة الحرارة انخفاضا وارتفاعا، ويعطيك مسار الضغط خلال هذه الجلسة، ومسار تحرك البطن..
والنظرية التي يعتمدون عليها تقول إن الإنسان إذا كذب يتصبب عرقه، ويرتفع ضغطه، ويتحرك بطنه، فهذه الأشياء يمكن أن تقع كلها ويمكن أن يقع بعضها ويمكن أن لا يقع أي شيء منها، مثلا بعض الأشخاص المرضى نفسيا بالنسبة لهم الكذب عادي جدا، فهؤلاء بالنسبة لهم الكذب لا يغير أي شيء، أما الإنسان الذي لديه تربية دينية أو محافظة، الكذب بالنسبة له مشكلة حتى لو أراد أن يجعل الكذب عاديا بالنسبة له لن يستطيع، مشكلة ما دام هؤلاء الناس ظلمة لأن فيه شيء لا إرادي والعقل الباطني لا يمكن أن يتحكم فيه الإنسان، هذه هي النظرية.
الأخبار إنفو: ظروف السجن كلها صعبة في العالم كله، وخصوصا في سجن اغوانتنامو، لكن هل يمكنك وصف ظرف ما بأنه كان الأسوأ بالنسبة لكم؟
ولد صلاحي: هذا سؤال جميل، وأنا لا أعرف الإجابة عليه، الذي أعرفه هو أنهم حينما هددوني بتعذيب الأهل خصوصا الوالدة، وهددوا باعتقالها، كان هذا صراحة شيء صعب، لأني أعرف أن الحكومة الموريتانية متعاونة معهم.
هناك شيء يقال له الابتزاز، والابتزاز قاعدته بسيطة: وهي أن الإنسان إذا وجد عليك شيئا ما فضيحة مثلا – لا قدر الله – سيقول لك إذا لم تعطني عشرة آلاف أوقية، سأنشر هذه الفضيحة، وهنا سيكون أكبر خطأ هو أنك تعطيه ما طلب، هذا هو أكبر خطأ لأن الابتزاز لن ينتهي – حينها – ولن يتوقف.
أتذكر قصة جميلة جدا مع أخت سعودية تعيش في لندن مشهورة أميرة أكيد تعرفونها هي شهيرة تتكلم في الصحافة من الأميرات السعوديات، وعندها أفكار تحررية ولكن معتدلة، فهي مرة كان عندها حفل في منزلها، وكان أحد الحضور لديه نية سيئة، فأخذ صورا منها في الحفل وأرسلها إليها بعدما خرج على الخاص، وقال لها إذا لم تعطيني كذا وكذا سأنشر هذه الصور، فهي كانت ذكية، وقالت انتظر قليلا، ثم قامت هي بنشر كل صور الحفلة مباشرة، وكانت هذه ضربة قوية جدا للمبتز.
فالحكومة الأمريكية تبتز موريتانيا بأمور معينة منها مثلا قضية حقوق الإنسان، فهم أي شيء قالوه لتلك الحكومة آن ذاك فهي ستفعله وهذا أعرفه لأني عشته، إذا لحظة التهديد باعتقال الوالدة وتعذيبها كانت من أصعب اللحظات.
الأخبار إنفو: وهل مرت بكم لحظة يئستم فيها من الخروج من السجن؟
ولد صلاحي: لما كتبت ذلك الاعتراف، قالوا لي بدلا من الإعدام سنعطيك المؤبد، (يسكت هنيهة قبل أن يستأنف) ما أعرفه هو أن الإنسان معقد، جاءتني لحظات ظننت أن الخروج من هناك لن يقع أبدا، ولكن كانت لحظات تأتي وتذهب.
وعموما أكثر اللحظات كانت عندي أن الإنسان يعيش على الأمل، فأنا كنت أعيش على الأمل، وما أعرفه هو أنني لم أفعل أي شيء، ولم أظلم أحدا، أو “ما كبيت اميه إل حد” كما نقول بالحسانية مطلقا، هذا شيء كنت أعرفه.
الأخبار إنفو: كيف تواطأ المخابرات الكندية مع المخابرات الموريتانية في قضيتك؟
ولد صلاحي: بسيط جدا، الحكومة الأمريكية لما عرفت من أنا، عن طريق اتصال من ابن عمي من هاتف السعودي بن لادن، صنفتني..
الأخبار إنفو: متى حصل هذا الاتصال؟
ولد صلاحي: آخر سنة 1998، وقد أبلغوا به الحكومة الألمانية، فهي قالت لهم: نعم اتصل به، أو لم يتصل به! هذا واضح، ولكن هذا ليس جرما، هذا لا يعتبر جرما في ألمانيا.
في ألمانيا إذا أطلقت لحيتك، ودعوت إلى الله، أو إلى بوذا، أو إلى ما تريد، هذا ليس جرما، إذا وقفت وقلت ألمانيا دولة كافرة ومجرمة هذا ليس جرما “التطرف القولي لا يجرمه القانون” الذي يجرمه القانون هو أن تقتل أحدا أو أن تؤذي أحذا أو تؤذي السلم الاجتماعي هذا قانون ألماني واضح.
كندا أيضا قالت لأمريكا نحن لا يمكننا أن نسلم إنسانا أو نقبض عليه، القوانين واضحة وهذا الإنسان لم يقترف أي جرم، ولكنهم اتفقوا اتفاقا – وهذا أمر تحليلي وليس وقائع -، الوقائع هي أنهم ساعدوا موريتانيا في التحقيق، وهم الذين أرسلوا كل شيء إلى الكنديين، هذه وقائع.
التحليل هو أن أمريكا اتفقت مع كندا وموريتانيا على استدراجي إلى موريتانيا، وبعد الاستدراج إلى موريتانيا كانوا متأكدين أن كل الأمور ستحل بالنسبة لأمريكا، أمريكا كانت عندها شبهة، وبعد التعذيب أنا اعترف وتثبت علي الشبهة.
الأخبار إنفو: وكيف تم استدراجكم إلى موريتانيا من كندا؟
ولد صلاحي: الاستدراج، هو أن المخابرات الموريتانية تكلمت مع الأسرة، وقالت لها إن لدي مشاكل كثيرة، وحتى أستخدم نفس العبارة قالوا لها إنهم يريدون أن “يسلوني كما تسل الشعرة من الدقيق (يضحك)” أتذكر هذه العبارة، ويريدون من الأسرة أن تضغط علي لأنني إذا لم أرجع سأدخل في مشاكل كثيرة، كثيرة جدا، ولن تحلها إلا الحكومة الموريتانية.
أنا لم أكن أعرف هذه الأشياء، الأسرة اتصلت علي وقالت إن الوالدة مريضة جدا.
الأخبار إنفو: ألم يخبروك بالقضية؟
ولد صلاحي: لا، لم يخبروني بحديث الحكومة معهم، لم يخبروني به مطلقا، أنا أسرتي عادية، يعني أناس عاديون، نحن لا نعرف قضايا المافيا، وقضايا الخروج على القانون، واحتقار الشعب، واحتقار القوانين، نحن لا نعرف هذه الأشياء..
هم ظنوا أن كلام الاستخبارات صحيح، وقد فوجئت – وحتى الأسرة فوجئت أيضا – ولم تكن معهم معلومات أكثر..
اختطفت في مطار دكار، وبعد تحقيق من السنغاليين، قالوا نحن لا نريد هذا الإنسان، وأبلغوا الأمريكان أن بمقدورهم أخذي إلى أمريكا، فرد الأمريكيون: نحن لا نريده في أمريكا. نحن نريده في موريتانيا، والمحققون الأمريكيون هم من أخذني من السجن السنغالي إلى موريتانيا.
الأخبار إنفو: الأمريكان هم من سلموك إلى موريتانيا من السنغال؟
ولد صلاحي: نعم، نعم..
الأخبار إنفو: كيف تم ذلك؟
ولد صلاحي: العملية كانت فيها المخابرات الكندية، وحتى الآن مشكلتنا مع المخابرات الكندية هي أنهم لم يطلعونا على الملف، وهذه مشكلة كبيرة قانونيا، حتى الآن أنا أجاهد في هذه القضية، وعندي محام هناك..
وحول قضية اشتراك المخابرات الكندية في الموضوع أتذكر أن اثنين من الإخوة أعرفهم أحدهم كان معي في اغوانتنامو، والثاني اختطف وسلم للسوريين، وهنا أود التوقف قليلا: انظر إنهم العرب، دائما العرب يستخدمون في العمليات القذرة دائما، هو سوري كندي، ولكن كندا لا تستطيع أن تفعل له شيئا فاختطفته أمريكا وأعطته للسوريين..
دائما اللغة الخشبية والأنظمة التي تضاد أمريكا هذا كلام كله، أنا لا أريد أن أهاجم أي نظام، لأننا صراحة متقاربين جدا في الوطن العربي، ولكن الشيء الذين تعرفونه أنتم وأنا أيضا أعرفه هذا الكلام: نحن ضد أمريكا، وأمريكا الاستعمارية، هذا كله في الدول العربية، لا أريد أن أقول محور المقاومة لأظهر أنني أهاجم أحدا، أنا لا أريد أن أهاجم أي دولة، أنا فقط أقول إن الدول التي تقول علنا إنها ضد أمريكا استخدمت في عمليات التعذيب والعمليات القذرة، فهذا السوري أرسل إلى سوريا فهو سوري كندي، وبعد سنة من التحقيق أطلقوا سراحه فرجع، ورفع قضية ضد المخابرات الكندية وربحها، المخابرات الكندية قالت لا يمكن أن نريكم الملف، ولكن يمكن أن نعطيه 20 مليون دولار مقابل إغلاق الملف وقبل هو ذلك.
أنا لم أجد ملفي حتى الآن وهذه مشكلة، الحكومة الموريتانية السابقة أرادت أن تمحوا كل الآثار أخذت جوازي، وحتى ألغيت إقامتي الكندية، وحكموا علي بالإقامة الجبرية، حتى سلموني لأمريكا ولكن حتى لا تضيع الخيوط..
الأخبار إنفو: وهل حصلت على ملفك في موريتانيا؟
ولد صلاحي: لا، لا، (يهز رأسه)، صفر، صفر، كما قلت، أنا أعيد نفس الكلام أيضا، أنا أريد أن تكون عندنا دولة قانون ومؤسسات حقيقية، يمكن أن يذهب إليها الإنسان ويقول: أنا أريد كذا وكذا، وهذا هو الشيء الصحيح، وأن لا تكون فيها هذه المركزية، هذه الأمور لا تكون فيها مركزية، نحن كمواطنين يمكن أن نتكلم مع مؤسستنا الاستخباراتية، نحن كمواطنين في النهاية هم من ندفع لهم المال، وهم يخدمونا جميعا..
الأخبار إنفو: كيف أخذ الأمريكيون من السنغال إلى موريتانيا؟
ولد صلاحي: نعم، أخذ أمريكي جوازي، وكان هو من يقود السيارة، وأجروا الأمريكيون طائرة فرنسية لنقلي إلى نواكشوط.
الأخبار إنفو: صيد ثمين تؤجر له طائرة خاصة؟
ولد صلاحي: (يضحك) أنا أرجع وأقول أنا أحترم الأمريكان، الأمريكان لا يستطيعوا فعل هذا في بلدهم، ويستطيعون فعله في السنغال وموريتانيا، العيب فينا نحن أولا، أنا لا أقول أمريكا ليس فيها عيب؛ عيب على أمريكا أن تخترق القانون الدولي، وتحتقر القوانين التي وقعت عليها، ولكن من كبر المصيبة التي فعلنا نحن الموريتانيين أن نستخدم في احتقار مواطنينا وانتزاع حقوقهم، هذا صراحة مشكلة كبيرة.
الأخبار إنفو: من استقبلك في مطار نواكشوط؟
ولد صلاحي: استقبلني رجلان أحدهما كان الكاتب الخاص لدداهي (يضحك) كدت أقول رحمه الله – ورحمه الله طبعا رحمة الدنيا ورحمنا جميعا – والآخر كان مفتش شرطة تستخدمه المخابرات.
الأخبار إنفو: وهل ما زالا في الخدمة الآن؟
ولد صلاحي: لا، سمعت أن الكاتب الخاص توفي رحمه الله، والمفتش لا أعتقد أن له قيمة في الاستخبارات الآن، لأنه لا توجد استمرارية عندنا في المؤسسات عندنا، عندما يتغير الحكم يتغير كل شيء، رغم أن مؤسسة الاستخبارات مؤسسة مهمة جدا، وخبراتها تراكمية أيضا، ويجب أن تستفيد من الأشخاص السابقين، ولكن لأن الولاء للشخص وليس للدولة.
الأخبار إنفو: لنعد إلى السجن وظروفك فيه، متى علمتم بوفاة الوالدة – رحمها الله تعالى – وكيف تلقيتم الأمر؟
ولد صلاحي: تقريبا بعد أسبوع أو أسبوعين، لا أعرف لأن المحامية هي التي اتصلت بي، اتصالاتنا كانت محدودة جدا، كان أول اتصال تلقيته حوالي 2009 أول مرة، بعد ذلك كانت هناك اتصالات مرتين أو ثلاثة في السنة، ثم في الأشهر الأخيرة صار كل شهر أو شهر ونصف عندنا اتصال، فلا يمكن أن أعلم بالموضوع، لكن المحامية طلبت اتصالا خاصا وأعلمتني بالموضوع، عندها تغيرت حياتي، كنت مريضا، وقد أجريت لي عملية جراحية قبل ذلك بشهر، وكانت عملية انتزاع المرارة، فبدأت أختم القرآن، وكنت في السنوات الأخيرة معتزلا لا أكلم أحدا، ولا يكلمني أحد، طيلة اليوم عندما أستيقظ كنت أقرأ طول اليوم حتى أنام، حتى سموني في السجن بـ”الرجل الهادئ”.
لما توفيت الوالدة حزنت حزنا شديدا، وقد خاف الحراس علي أن أقتل نفسي، فجاءني كبير الحراس، وقال لي: نحن نعرف ما وقع لك، وأريدك أن تتكلم معي، فجاء بأكل وشرب وأوراق، وقال تفضل اقعد معنا لأيام، وكان يحكي علي بعض القصص، وقد خفف عني صراحة.
هذا هو الشيء الوحيد الذي رأيته منهم، السجين مشكلة كبيرة، ففي السجن وتيرة الحياة بطيئة جدا، وثانيا ليس معك من يتحمل معك الألم، أنت دائما تتحمل الألم وحدك.
الإنسان الآن، إذا أصيب بمصيبة هناك أسرة تتحمل معه، ولكن السجين يتحمل ألمه دائما لوحده، ثانيا: ليس هناك ما تستأنس به في السجن، لأنه ليس فيه أشياء أخرى، السجين يفكر في نفس الموضوع، أنت الآن مثلا مشغول جدا، وهذه المقابلة هي جزء من مقابلات ولقاءات وأشياء أخرى ستقوم بها، لكن في السجن لديك موضوع واحد، فإذا كان مفرح فهذا جيد، وإذا كان محزن سيبقى في رأسك لأشهر عديدة.
الأخبار إنفو: لأن الشيء يذكر بضده – كما يذكر بمثيله – هل تتذكرون موقفا طريفا، انتزع منكم بسمة من أعمال بحر الحزن هذا؟
ولد صلاحي: مواقف طريفة وقعت لي، لكن الذي أكثرها وقعا في سياق ثقافة مختلفة، لا أعرف إن كان هذا الموقف طريف، أو غير طريف، لكن أنا رأيته طريفا؛ مرة كان هناك شاب صغير في التاسعة عشر من عمره، شاب عسكري من حراسي قال لي: أنا أعرف لغتكم، اللغة العربية، أعرف أنكم تكتبون من اليمين إلى اليسار، فقلت له: هذا صحيح، قال: إذا أنا أعرف العربية، قلت له: صحيح فأنا صرت إذا كتبت له طلبا أكتبه من اليمين إلى اليسار، مثلا أكتب له كل طلباتي من اليمين إلى اليسار، وهو يظن أن هذه هي العربية، وصار كل الحراس يضحكون منه، واعتبروه موقفا طريفا.
الأخبار إنفو: متى علمتم بقرار الإفراج عنكم؟ وهل علمتم به بشكل تدريجي أم بشكل مفاجئ؟ خصوصا وأنكم تحدثتم عن قبول ألمانيا استقبالكم، ورفض أمريكا ذلك؟
ولد صلاحي: يجب أن تفهم السياق، المشكلة ليست في الدولة التي تستقبل، المشكلة هي الحكومة الأمريكية لأنها إذا لم تطلق سراح الإنسان، فالإنسان لا يمكن أن يذهب إلى أي مكان، والوحيد الذي يمكن أن يؤثر على الحكومة الأمريكية هو الدول ذات المصلحة في إطلاق سراح الإنسان، وهي الدول التي عندها مواطنون، الدول التي تحترم نفسها أخرجت مواطنيها مباشرة، والدول التي لا تحترم نفسها لم تحرك ساكنا، بالتالي الذين بقوا هناك هم اليمنيون والموريتانيون فقط.
الأخبار إنفو: كم بقي في السجن الآن؟
ولد صلاحي: الآن فيه حوالي 50 شخصا، أكثرهم يمنيون، ولدي تفاصيلهم، نحن كنا في الأصل حوالي 800.
المشكلة في أمريكا وليست في الدول، لأن أمريكا لا مصلحة لها في إطلاق سراح أي شخص، لأن حياتي أنا وحياة الآخرين لا تهمها أصلا، وبالتالي الدول التي تحترم نفسها لها المصلحة في إطلاق سراح مواطنيها، مثلا في 2004 رئيس الوزراء السويدي لما التقى الرئيس بوش أول طلب قدمه له هو إطلاق سراح مواطن جزائري يحمل جنسية السويد وقال له: هذا هو ما أريده منكم.
يا ناس، هذا لم يكن طبعا لأجل رفع مواطن جزائر سويدي كان في أفغانستان، بل من أجل رفع السويد كدولة، وهذه نقطة تحسب للسويد، فالذي يحتقر مواطنيه يحتقر نفسه.
أنا أعرف أن الدولة لم تكن تريدني أن أرجع لسنوات عديدة، لكن في السنوات، وفي الأشهر الأخيرة – والحمد لله – الرئيس بذل ما بوسعه بقبولي لأرجع إلى موريتانيا.
الأخبار إنفو: كيف علمتم بقرار الإفراج عنكم؟
ولد صلاحي: أذكر هذا جيدا، قبل خمسة أيام أو تسعة أيام لا أتذكر بالضبط، كنت في المعسكر السادس، كانت هناك عاصفة، ولم أخرج لأيام، كنت فقط في الزنزانة، فمرة جاءتني بنت، وكانت الضابطة المسؤولة، وهي كبيرة الحراس، وكانت برتبة نقيب، ولم أرها من قبل، فأطلت علي برأسها من الثقب الذي يدخلون علي منه الأكل وضحكت – سبحان الله ابتسامة جميلة في السجن – وقالت لي: هل ستعلم أنك ستخرج؟ قلت لها: كلا، لا أعلم، فقالت لي: أنت ستخرج قريبا، فلم أعرف بماذا أفكر وماذا أقول وما ذا سأفعل، أحسست وكأن قلبي سقط على معدتي، لم أكن أعرف هل سأفرح أم أحزن أو أبكي واختلطت المشاعر لأنني كنت قد مررت بأشياء قبلها كثيرة، فمرة في الأردن في يوليو سنة 2002 قالوا لي: أنت ستخرج، ودخل على أحد الحراس، ناولني كيس قمامة أسود، وخاطبني باللهجة الأردنية قائلا: “حط أغراضك” وظننت أنني عائد إلى البيت، فبكيت، وسجدت لله، وصرت أرجو وأنتظر… ولكن فجأة وجدت نفسي في طائرة لـ”CIA” متوجهة إلى أفغانستان، من هذه التجربة صرت أقتصد في الفرح والاستعداد.
الأخبار إنفو: أكدتم أكثر من مرة عفوكم عن كل من أسماء إليكم، ألا ترون أن حديثكم عن العفو عن كل من أساء إليكم يمثل تشجيعا لمثل هذه الممارسات خصوصا وأن أحدهم تحدث أخيرا، وقال إنه لا يرى أنه أخطأ في ملفكم؟
ولد صلاحي: صحيح، هذا كلام جميل، لعلمكم السؤال لم يطرح هنا فقط، الكثير من الصحافة الأمريكية سألوا هذا السؤال، لأنهم في أنظمتهم الديمقراطية يريدون المحاسبة، لا يرون في المحاسبة فعلا من أجلي أنا أو من أجلك أنت، بل من أجل إعطاء دروس تشكل ردعا لآخرين، من أجل وقف الأخطاء مستقبلا هذا يشكل ما نسميه المعضلة، والمعضلة في اللغة العربية، هي التي يكون حلها، وتركها مشكلة.
أنا مواطن موريتاني بسيط، الذي يمليه علي ديني وضميري وتربيتي هو أن أعفوا {وأن تعفوا أقرب للتقوى}، ولن أتراجع عن هذا، ولن أذل من عفوت عنهم، أنتم كمواطنين أو كأناس تحاسبون مسؤوليكم هذا حقكم، أنا كمواطن فرد رأيت هذا هو واجبي.
وقد سمعت فعلا كما سمعت أنت، [يشير إلى مقابلة لمدير أمن الدولة سابقا دداه ولد عبد الله أكد فيه أن لم يرتكب خطئا في ملفه]، وكان مستغربا عندي، لكن بصفة عامة تعرف أن المشكلة عندنا هنا في ثقافتنا هي عدم إلمام المسؤولين بمفهوم دولة القانون بشكل عام، وهذا عادي بالنسبة لهم، أنا كمواطن أستطيع أن أذهب إلى القاضي لطلب حقوقي، وأن أتكلم بالدستور والقانون، هذه المفاهيم لا توجد عندهم، أنا تحدثت مع عدد من المسؤولين لم يكن أحدهم يعرف مفهوم دولة القانون، وأن كل مواطن يستطيع أن يذهب لينال حقه، لا يوجد هذا المفهوم عندهم، وأنا لا أعرف كيف أفسر هذه المسألة، قضية أن القانون مقدس، وأن الدولة لا تستطيع أن تقول لك: افعل كذا خارج إطار القانون.
هذه المفاهيم لا توجد عند النخبة، وهذه مصيبة كبيرة، أنا استغربت فعلا الكلام الذي استغربتم أنتم، لكن لما نظرت فهمت أن الإنسان لا يمكن أن يحترم القانون وهو لا مفهوم لديه عنه.
أنا حياتي كشخص بالغ قضيتها بين ألمانيا واغوانتنامو، هذه هي خلاصة حياتي تقريبا، في ألمانيا القانون هو المهم، وهو فوق كل أحد، لا تحتاج أن تمدح أحد المسؤولين بقصيدة، ولا تحتاج أن تقول أنا أؤيد فلان هذه أساليب متخلفة أصلا، ونحن لسنا أقل شأنا من الدانمارك، ولسنا أقل شأنا من السويد، ولا من الألمان، أو الأمريكان، أذكر كلمة جميلة قالتها ألينور روزفليت – وهي زوجة رئيس أمريكي سابق – قالت: “لا يمكن لأحد أن يحتقرك دون أن تسمح له بذلك مطلقا”.
من غير العقول أن أطلب من شخص أن يحترمني أكثر مما أحترم نفسي، قضية أن تستغرب كل الاستغراب هو غريب فعلا ولكن أنا لا أرى هذا غريبا صراحة.
الأخبار إنفو: هل طلب منك أحد المتورطين في ملفك أن تسامحه بعد الإفراج عنك؟
ولد صلاحي: نعم، بعضهم طلب ذلك..
الأخبار إنفو: من هم؟
ولد صلاحي: هم على كل حال ليسوا كثيرين، وقد عفوت عنهم مسبقا، البعض منهم عفوت عنه، ثم طلبها بعد ذلك عن طريق الأسرة.
الأخبار إنفو: هل من بينهم الرئيس الأسبق اعل ولد محمد فال؟
ولد صلاحي: نعم، وأنا سامحته، وأبلغت أسرته أنهم لا يحتاجون طلب المسامحة له، هذا لا يحتاج، فهو ما يمليه علي ديننا وعاداتنا وتقاليدنا، يوسف عليه السلام لما قال له إخوته {تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} لم يذكرهم بما فعلوا به، بل قال {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} وانتهت القصة.
فالإنسان إذا استسمحك سامحه، ولا تخزه، ولا تذله.
أنا أتمنى أن يعود الرئيس معاوية، وأن نستفيد من تجربته السياسية، لأنها تجربة مهمة جدا، ولكن هنا أعود وأكرر نفس المشكلة عندنا في الوطن العربي، الدولة لا توجد بها استمرارية، كلما دخلت أمة لعنت أختها والدولة لا بد لها من الاستمرارية.
الأخبار إنفو: في مجال تختصصكم العلمي، ما هو أبرز ما لفت انتباهكم في التطور العلمي الذي حصل خلال العقدين الماضيين تقريبا؟
ولد صلاحي: ذهبت عن الناس وهم يشاهدون التلفاز، وشاشة الجزيرة والبرامج الحوارية، وكان حلمي أنني لما أرجع إلى موريتانيا تكون لدي كل القنوات العربية والأجنبية في التلفاز، وأن أشاهدها، هذا كان حلمي، وهو ما كنت أخطط له، فجئت هنا إلى المكتب ووضعوا لي التلفاز، وفيه كل القنوات العربية والأجنبية في “نايل سات” وعرب سات” – هكذا أعتقد أنهم يسمونه – لم يحدث وأن شاهدت فيه نشرة أخبار واحدة حتى الآن منذ قدومي.
مرة قلت لبنت أخي النجاح – عندما زارتني في المكتب – رتبي لي القنوات، فقالت: لا أعرف كيف أستخدم التلفاز.
هذا تحول كامل في طريقة سلوك الموريتانيين، وطريقة استخدامهم لهذه الوسائل، صارت هذه الصغيرة (يلوح بهاتفه الذكي) تجمع كل الناس، وحدث تغير مجتمعي، صارت العلاقات الاجتماعية كلها تحدث عن طريق “الواتساب” و”فيسبوك”، وتتم للقاءات والصداقات وغير ذلك عبرها، الموريتانيون أناس أذكياء.
كما لاحظت أنه يوجد فرق بين الشباب الموريتانيين الصغار ونظرائهم الأمريكان والألمان، نفس السلوك تقريبا، فالموريتانيون أناس أذكياء، هذا الجهاز (يلوح بالهاتف مرة أخرى) هو جهاز آمن، – يجب أن تفهم هذه الكلمة – ليس آمنا من المخابرات، ولذا أي شيء تكتبه هنا كن مستعدا لتقوله في الشارع، هذا هو مستوى الأمان عندنا، خصوصا في الدول العربية، لأننا في الدول العربية عبارة عن غابة، أمريكا تتجسس على كل شيء عندنا، وهذا شيء محزن، لا توجد لدينا حماية، أنا سأقول لكم شيء محزن جدا، في “اغوانتنامو” تعرفون ماذا كان يطرحون علي من الأسئلة، ستتفاجؤون، كانوا يسألون عن القبائل الموريتانية المتسلطة والمتحكمة في موريتانيا، والأسر المتحكمة، وطريقة المخابرات الموريتانية في أخذ المعلومة، طريقة التحقيق والأجهزة التي كانت إلى جانبي هذا أهم شيء.
أنا – ولله الحمد – لم أكن أعرف أي شيء عن هذا، لأنني لم أكن أهتم بالسياسية، وكنت جاهلا به تماما، ولم أكن أعرف ديناميكية انتقال الحكم، وبعد فترة جاءوا يضحكون معي وقالوا: “انتوم ازواية أخباركم كاع من السلطة والجهاد”.
النقطة التي أقولها هنا، نحن المواطنون هم الجبهة الأولى للأمن، واحترامنا يفيد الدولة، هذا الجهاز آمن، وأقصد أنك عندما تدخل في بيتك مع الجهاز تستطيع أن تكتب عليه كل شيء، لأنه لن يغضب منك، ولن يسبك، أو يعترض عليك، أنا قرأت دراسة في مجلة أمريكية اجتماعية تقول: إن المراهقين يفضلون أن يتكلموا عبر الجهاز مع أي فتاة بدل الحديث إلى نفس الفتاة مباشرة، فهذا آمن، أنت تستطيع أن تكلمها وتنطقها، أو تسكتها متى ما شئت ذلك.
الأخبار إنفو: هل تعتقدون أنكم قادرون على جسر الهوة التي حدثتم في مجال تخصصهم خلال سنواتكم في سجن “اغوانتنامو”؟
ولد صلاحي: السؤال جيد، ويناسبه جواب “بالانكليزية” يقول: نعم، ولا.
هناك أشياء ثابتة، المنطق الرياضي ثابت لا يتغير، ولو بقي مليون سنة يبقى هو نفسه، البرمجة نفسها، أستطيع برمجة كل شيء، فهي منطق رياضي متسلسل لا يتغير، وأنا أعرف لغتها، لكن هناك أدوات تطور حصلت بعدي، وهي أدوات تسهل وتختصر المسافة، هي تسهل فقط، فالكومبيوتر طبقات، وفيه طبقات صعبة جدا إذا أخطأت لا يمكنك إصلاحه، لنفترض أنك تتكلم الفرنسية، وفرنسيتك ضعيفة، إذا جاءك أستاذ يتكلم معك، هذا الأستاذ هو طبقة الجهاز ستتكلم معه، وأنت غير واثق من أن لغتك البرمجية ستصل، لأن لغتك البرمجية في هذه ضعيفة، لكن إذا استخدمت أداة تواصل معه، ستنجح عملية التواصل.
هناك قضية أخرى لا تتغير هي الأخرى، اختراق الكومبيوتر، أو أمن المعلومات، أي شخص يستطيع أن يخترق الكومبيوتر، الناس يعتقدون أن اختراق الكومبيوتر يحتاج برمجة قوية، وهذا صحيح في جزء منه، لكن هناك جزء آخر لا يحتاج برمجة، مثلا يمكن أن تتحدث معي وتأخذ مني كلمة السر، من خلال معرفة بأسرتي، وبأسمائهم، أو بعادات الموريتانيين في مجال ما، وهذه أمور لا تتغير.
الأخبار إنفو: هل حددتم برنامجا لعملكم المستقبلي؟
ولد صلاحي: الشيء الذي أخطط له هو أن أكتب أربعة كتب خلال السنوات الثلاثة القادمة، وقد كتبت مسوداتهم في اغوانتنامو، لكن تمت مصادرتهم مني، واستعدت منهم واحدا الآن، وهو بعنوان: “أحمد الزركة”، ويحكي عن قصة البدو وحياتنا وأيام الجفاف، وقد تعرضت مسودتها لعمليات شطب وهي مكتوبة 2015.
الكتاب الثاني بعنوان: “السعادة المحمولة” وتعني السجن، أي كيف تكون سعيدا مهما كانت الظروف، ومسودته بقيت في اغوانتنامو بعد مصادرتها، ولكني عكفت على كتابته، وسيكون أول كتاب يصدر من بين هذه الكتب.
الكتاب الثالث: “اللغة الإنكليزية الضعيفة” ويتناول حكايتي مع اللغة الإنكليزية وكيف تعلمتها من السجانين، وكيف تعلمت من أخطائي، هو عن حكاية تعلم اللغة الإنكليزية، فأنا مثلا ترجمت قصص شكسبير التي وقعت في يدي إلى لغة إنكليزية مبسطة، في متناول الناس، لأن لغتها الأصلية معقدة.
الكتاب الرابع بعنوان: “أزمة الهوية”، ويتناول أزمة الهوية عند شاب مغاربي عاش في ألمانيا، فلم يقبل كألمانيا، والعرب لا يقبلونه، فأصبح لقمة سائغة للحركات المتطرفة، الجماعات المتطرفة تعطيك وهما، أنك إنسان مهم، وأننا متساوون جميعا “لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”، وهذا بلغة مبسطة جدا إذا كان الإنسان بدون عمق فكري وفلسفي، فسيبتلعها بـ”زغبها” – كما يقول الموريتانيون -.
الأخبار إنفو: هل قلتم شعرا أثناء وجودكم في السجن أو بعد خروجكم منه؟
ولد صلاحي: الشعر الذي أقوله يتم التحفظ عليه، لأنني في بيئة لا تقبل إلا الشعر الراقي جدا، وقد قلت بعضه بالحسانية، وآخر بالفصيح، وقد بدأت قوله وأنا صغير جدا.
ومن الحسانية قلت “طلعة” من “امريميده”:
امنين يفتح مولانه *** والفتح فايدييه أو عند
إدور يفتح ملان *** وابواب لعدو ينهد
إلخ…
وهنا دعاء مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”، وقد قال هذا الدعاء أثناء عودته من الطائف لما أغروا به سفهاءهم.
وقد نظمت هذا الدعاء في نوع من الشعر الموريتاني الخاص، فلقت:
إلى العليي *** شكوت ما بي *** فهو وليي *** وهو حجابي
قلبي هداه *** حبا ملاه *** لما تلاه *** أهدى كتابي
أشكو إليكا *** كما نبيكا *** شكا إليكا *** حر المصابي
بعد الحبيب *** خوف الغريب *** بعد المغيب *** عن الترابي
ضعفي تراه *** جسم قواه *** تاهت فواه *** من العذاب
حيلتي قلت *** والنفس كلت *** لا، بل وملت *** من العتاب
مر الهوان *** أوهى كيان *** قسرا سقاني *** مر الشراب
ولا أبالي *** غدر الليالي *** لقاك فالي *** إلى غياب
لكن عفوا *** القلب يهوى *** يسير رهوا *** فوق الصحاب
الوجه نور *** يبقي سرور *** إلى حضور *** يوم الحساب
منه الثواب *** منه العقاب *** له العتاب *** حتى الرضاب
فهو القوي *** ولي ولي *** وهو الحري *** بفتح باب
الأخبار إنفو: هل هي محاكاة لـ”صلاة ربي مع السلام” لمحمد سعيد اليدالي؟
ولد صلاحي: نعم، بالضبط، وسأقول لكم السبب، فقد طلبت منهم كتاب “صلاة ربي مع السلام على حبيببي خير الأنام”، فقالوا لي إن الكتاب غير موجود في المكتبة، فقلت: أنا سأنظم “صلاة ربي” لنفسي.
ومرة كان معنا أخ من السعودية، هذا الأخ تعب كثيرا، ونحن عشنا مع الجدات، ودرسونا القرآن، أنا جدتي درستني القرآن، وعندما جئت ألمانيا كنت لا أعرف إلا الإسلام، ولا أعرف أي شيء آخر، وأول مرة سمعت شخصا يقول إن الإسلام ليس مهما عنده، ولا يهمه أي شيء آخر، كانت أول مرة أسمعها.. فالأمريكان كانوا أغلظ وأكثر جلافة من الألمان، فبعض الشباب صدموا بطريقة قوية، وسارت لديهم سؤال كبير عن الدين، وهذا شيء طبيعي، خصوصا السعوديين الذي كانوا في مجتمع محافظ جدا، والمرأة عندهم يسمونه “الحرمة”، يعني انغلاقهم الثقافي أقوى من انغلاقنا، وهذه مشكلة، الإنسان المنغلق ثقافيا من الصعب عليه أن يتأقلم، وأن يقاوم.
المهم أنه ترك الصلاة، وترك الصوم، وهذا – صراحة – كان عاديا عندي لأني لم أكن أريد إماما، كنت أصلي وحدي، وكان هو الوحيد معي في العنبر، ومرة تفاجأت به يسبني، ظننت أول وهلة أنه يقصد الحرس، كنت أمارس الرياضة، وأضع لثاما على وجهي، ثم اكتشفت أنه يقصدني، وطبعا لم أرد عليه، فواصل سبابه لي لأيام، أنا لم أعبئ لسبابه، لأن السب دعاء لله، وأنت إذا كنت لا تعترف بوجود الله فكيف تدعوه، وكان سبا لي وللعائلة، وقد حزنت له، والسجن مشكلة، فأنت لا يمكن أن تغادر، ولا أن تبتعد عنه، وبكل تأكيد لم أرد عليه، وكيف يمكن أن أرد عليه، وماذا عساي أقول، فقلت شعرا في ذلك، هو:
سبني الحليم من غير ذنب *** صارخا في نهاره والليالي
فهنيئا إن كان سبي بديلا *** عن صلاة وصومنا بالكمال
أو لثأر من مارد يتمادى *** أحمر العين جهوري المقال
غالب لي وللسيف سلم *** وأنا الصبر صابر كالجبال
سبني سبني ثم زد لي سبا *** هانت النفس في سبيل الغوالي
بيت شعر لعبقري يماني *** حكمة قالها في السنين الخوالي
تنسف الريح ما نطقت وقولي *** راسخ منك في العظام البوالي
الأخبار إنفو: هل من مقارنة بين إدارة الأمن أثناء التحقيق معك قبل تسليمك لأمريكا، وإدارة الأمن الآن؟
ولد صلاحي: أنا ما دخلت غرف التحقيق في موريتانيا مؤخرا، ولكن إدارة الأمن أصبحت كبيرة، ونظيفة الحمد لله، وهذا شيء جيد، ولكن أنا أخاف وخوفي مبرر، أنا البناية الجديدة، نحن عندنا في موريتانيا الصيانة صفر، يا ناس لا يوجد شيء لا يحتاج إلى الصيانة، لا يوجد شيء لا يحتاج إلى التنظيف، نظف، اغسل، استعمل الصابون، فالصابون رخيص جدا، الصيانة مشكلة..
إدارة الأمن مهمة جدا.
الأخبار إنفو: هل طلبتم تعويضا من أمريكا؟
ولد صلاحي: أنا حتى الآن لم أطلب أي تعويضات، وعموما أنا لا يمكنني أن آخذ حقوقي قبل أن أحصل على أوراقي، أنا الآن لا أعتبر إنسانا، مثلا: أنا لا أستطيع أن أفتح حسابا بنكيا، ولا أستطيع أن أذهب إلى المؤتمرات، ولا أستطيع أن أجيب الدعوات التي تأتيني، أنا واقعيا لست موجودا قانونيا إلى الآن..كل الدول التي تحدثت معها قالت لي نحن لا نعتبرك موجودا إلا إذا منحتك دولتك وثائق وطنية، بما فيها دول صديقة، وحتى تكون مواطنا لتطالب بحقوق المواطنة لا بد أن تحصل على الأوراق.
وحتى الفلم الذي يصور الآن عن قصتي، وتم كتابة “السناريو” الخاص به، وستنجزه هوليود، هؤلاء طلبوا مني الحضور لزيارة أماكن التصوير، وهيث في بريطانيا، وألمانيا، والمغرب، وهذا مهم جدا، لأن النساريو يحتوي الكثير عن حياة موريتانيا، وأنا أريد أن تصور حياة موريتانيا بشكل يفيدنا نحن كشعب، وحتى لا يتضمن تشويها لصورتنا، أنا لا أريد أن أعطي صورة مغلوطة، أنا لست من المطبلين لأي شيء صراحة، حتى لنفسي، أنا لا أطبل لنفسي، أنا هكذا، أنا أفتخر أنني أخطأ، وأدرك أن خير الخطائين التوابون، وهذا عادي جدا، ولكني كذلك لا أقبل أن تنشر صورة مشوهة عن بلدي.
هم دعوني، وقالوا لي تعال لتحضر للتصوير، قلت لهم ليس لدي أوراق، قالوا لي: كيف؟ هل عملت أي جرم، قلت: لا، هذا في الغرب غير منطقي بالنسبة لهم.
وقد راسلوا الرئيس حول الموضوع، شركة “هوليوود” راسلوا الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ولدي نسخة منه الرسالة، وهو يسألونه، كيف تمنعه من الأوراق؟
الأخبار إنفو: هل تفكر في أخذ جنسية دولة أخرى إذا أصرت السلطات على منعك من وثائقك؟
ولد صلاحي: أنا متأكد أن الدولة الموريتانية، وبعد صدور هذا المقابلة مباشرة – إذا كانت هناك معلومات لم تصلهم – أنا متأكد أن الرئيس، سيقوم بالواجب، ولما هو موافق للدستور، والقانون، وأن تمنح لي أوراقي، أنا لا أريد الذهاب إلى أي مكان آخر، هذا بلدي، هذا بلدي، فلماذا أذهب إلى أمريكا، أو ألمانيا، أنا أريد أن أفيد بلدي.