الإسلام والمنعرج التأويلي المعاصر
ندوة فكرية إسلامية مسيحية حضرتها مؤخراً بالقاهرة، دعوت إلى تجاوز نموذج «التفسير النصي» في أدبيات الحوار الديني التي تقوم عادة على «حرب النصوص»، وتبني «النموذج التأويلي»، الذي يخرج من وهم انغلاق النص في سياقه اللغوي الحرفي وسياق تلقيه التاريخي. لقد فهم البعض من كلامي أني أتبنى مسلك «القراءة التفكيكية»، التي تعلن «موت المؤلف»، وتكرس انغلاق المعنى في النص الذي ليس له سقف دلالي، بل هو مفتوح للتأويل المتجدد بما يلغي مضمونه الثابت، وهو ما يتعارض مع قداسة النص ووضوح بيانه.
هذه المقاربة التي انتشرت في الأدبيات النقدية العربية، منذ ترجمة وشيوع أعمال «جاك دريدا»، ليست هي المقصودة في ما دعونا له من نموذج تأويلي، لأنها تنتمي إلى ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي «بول ريكور» التأويليات «الاختزالية»، التي ترجع النص إلى محددات تشكله الاجتماعية والتاريخية، فتلغي سماته الإنشائية والإبداعية المفتوحة. وعلى الرغم من عمق وكثافة التراث التأويلي في التقليد الإسلامي، فإن الجهود التي بُذلت في السنوات الأخيرة في مسار تأويلية النص الديني لا تزال ضعيفة ضئيلة بالمقارنة مع التأويلية المسيحية في شقيها البروتستانتي (وهو الأهم) والكاثوليكي. ما يلاحظ مؤخراً هو اتساع حركة ترجمة الأدبيات التأويلية الفلسفية الغربية إلى اللغة العربية (خصوصاً أعمال غدامير وريكور وإلى حد أقل لفيناس)، التي واكبتها محاولات متعثرة في غالب الأحيان لنقل أدواتها المنهجية إلى الحقل الإسلامي. ما بدا لي أن المطلوب هو بلورة عدة منهجية تتناسب وطبيعة التقليد التأويلي الإسلامي، في مقابل النموذجين الكبيرين في التأويلية الراهنة: النموذج اليهودي الذي يركز على الكتابة في سمات الأثر والغياب والتشتت بما يرجع إلى لاهوت الاحتجاب والمغايرة والاصطفاء، والنموذج المسيحي الذي يركز على الكلام المرسل بما يحيل إلى سمات الإرادة والذاتية والاعتراف في سياق لاهوت التجسد.
في التقليد الإسلامي يمكن أن نميز بين مسلكين تأويليين مترابطين، يمكن أن نعبر عنهما بتأويلية الرواية وتأويلية الخطاب. تأويلية الرواية تتعلق بالأبعاد السردية في النص المنزل الذي يربط بين المعنى وسياق تشكله زمناً ومثالاً، الزمن بأبعاده المتنوعة في الماضي الوجودي ما قبل التاريخي وفي المراحل المحورية في تاريخ الإنسانية (زمن النبوة والرسالة)، وفي حاضر الرسالة الخاتمة (أسباب النزول بلغة علوم القرآن) انتهاء بزمن الانتظار، الذي هز أفق العدالة الإلهية المطلقة، والمثال من حيث هو من أدوات البيان والإبلاغ الذي يتجاوز الأشكال البلاغية المعروفة ليحيل إلى عالم وجودي كامل أطلق عليه «هنري كوربان» تسمية «عالم المثال»، استناداً للأدبيات الصوفية التي تجعله عالماً ثالثاً مستقلاً عن الواقع والخيال. أهمية تأويلية الرواية هو أنها تخرج النص من أبعاده اللغوية المنطقية الضيقة لتكشف عنه في مساراته الزمنية والتاريخية الحاسمة في إدراك معانيه وتنزيل دلالاته. ومن هنا ندرك المساحة الواسعة التي يخصصها القرآن الكريم للقصص والأمثلة المضروبة للتقريب والاعتبار والتوجيه، وهي أبعاد يتعين استكشاف آفاقها التأويلية الرحبة بدل التعامل معها، إما بمنطق البحث التاريخي التقليدي (على طريق اللجوء إلى ما يطلق عليه الإسرائيليات في كتابات المفسرين)، أو بمنطق التفسير البلاغي، الذي ينزع إلى إرجاع الأمثال القرآنية إلى المستوى الوصفي الأولي في اللغة.
أما تأويلية الخطاب، فتجمع بين بعدي المخاطبة والنص في الرسالة: المخاطبة بمعنى تجربة الوحي الإلهي إلى الخلق الذي لا ينحصر في رسالات الأنبياء وإنما هو شامل من المنظور القرآني إلى مختلف المخلوقات الطبيعية والحية بما يفسح المجال أمام استكشاف دلالات التجلي الإلهي الواسعة التي تتجاوز اللغة، وتحول الطبيعة والوجود إلى آيات للفهم والنظر. أما النص فهو المستوى المكتوب الذي يختلف عن النموذج «اللوحي» اليهودي (من اللوح الحامل للشرائع المنزلة)، وعن النموذج المسيحي للكلام بصفته مجسداً في وعي بشري ذاتي. الخطاب من منظور التأويلية الإسلامية هو آيات إلهية منزلة للبشر، فلذا ليس هو كلام الله المادي المباشر؛ لأن الخطاب الإلهي لا يكون إلا من وراء حجاب، ومن هنا ميّز المتكلمون بين الكلام الذاتي والكلام المخلوق أو الكلام النفسي والكلام اللفظي، كما أنه وإن كان موجهاً للبشر، فإن مصدره الإلهي يمنع إحاطة البشر بدلالته وفهمه، فهو نص متسع «حمال أوجه» كما كان يقول علي كرم الله وجهه، وقد «نزل ولا يزال يتنزل» كما يقول «الإمام زروق». ومن هنا فإن السياق الإسلامي يتمحور حول تأويلية الجماعة أي ارتباط المعنى بالمجال التداولي المشترك في تفاعله وتحاوره بدلاً من الوعي الذاتي، الذي يحمل عادة دلالات الإبداع النقدي، في حين أنه من وجه آخر يفضي إلى إفقار النص بإلغاء أبعاد الاختلاف والتنوع التي يتضمنها التقليد بدلاً من النظر إليه دوماً كسلطة معيقة ومقيدة
السيد ولد اباه