آستا لويغو.. إيلينا../الربيع ولد ادوم
تأخر الوقت ولم أنم بعد في تلك الليلة في مدريد.. كان الوقت شتاء، والهدوء يلف المكان، ونافذتي تمنح عذريتها للهواء البارد لينفخ في ستارتها البيضاء كأنها فستان زفاف.. قد يكون غريبا أن افتح النافذة في درجة حرارة توازي الصفر وتحت المطر..!! تأخرت “إلينا” في العزف في الليلة الممطرة.. أتطلع للنافذة بين الحين والآخر.. لا ضوء.. لا عزف.. لا شيء غير الصمت يقطعه ارتطام الماء بالبلاط في الأرض.. كل ليلة كانت تعزف.. ضوء واحد يبقى في العمارة بعد الثانية ليلا.. كأنها حورية من السماء كانت تحرص على ان تلبس فستانا فاخرا أبيض.. تترك أطرافه للريح، كانت نافذتي تتربع في مواجهة الشرفة.. في المبنى المقابل.. الثانية والربع تبدأ العزف الحزين.. مقاطع حزينة هادئة تمتد للروح. يتوقف ضجيج مدريد وتسكت البنادق الصوتية التي تطلقها شرطة البيئة لطرد الطيور إلى الغابات التي تشكل رئة تتنفس منها هذه المدينة المليئة بالضجيج حيث يدخن البشر والمصانع على حد سواء.. إنه وقتها، كما للشمس وقت.. لها وقت، تظهر فيه، فتدخل البهجة والحزن من نافذة القلب.. ويحضر الغائبون من الأحبة في مجلس رائع.. وجوههم تحدث بالنعمة.. ليس عليهم اثر السفر. لا زلت اذكر تلك الخيالات.. من مكان بعيد اسمه “الغابة” في ولاية لعصابة.. في الشرق الموريتاني حيث السماء مثقوبة تمطر باستمرار في الخريف.. جئت إلى الغابة أول مرة في عطلة الصيف عندما كنت في الخامس ابتدائي.. بهرني المكان الهادئ والبشر المسالمين.. وأصوات الطيور وقصص قتل الأفاعي كل ليلة.. مكان غارق في الرمل والحب.. تمتد الخيام ليلا كانها عائلة من البجع، تتبختر على أطراف الغدير.. رأيت الغدير، وتسللت مع 5 أطفال نشاهد النسوة عاريات من بعيد.. يتقاذفن بالماء، رأيت كيف انه يمكنك ان تمد بصرك فلا يجرحه حديد ولا خشب ولا نتوءات.. فقط خضرة مسالمة طيبة تمتد الى ما لا نهاية.. كانت السويلمة عبدة لابن عمي.. سمراء لها وجه طفولي حزين.. من سلالة عبيد لم يرفعوا رؤوسهم أبدا.. ظلوا طيبين ويخدمون في صمت وورع.. لا يعصون سيدهم ما أمرهم، وازدادت ثروتهم شيئا فشيئا.. ظن السالك ذات يوم انه بات رجلا من أغنى اغنياء الغابة.. بعد ان قارب الخمسين بصحة جيدة وله 10 أولاد وستة احفاد.. كان مزروعا في الغابة كشجر “آمور” والطلح قرب الغدير.. الوحيد الذي لا يغادر “الغابة” في الشتاء ولا في الخريف، جلس يوم العيد جنب الإمام.. مزهوا بالسلامة والصحة.. همس له الشيخ عبدو الرحمن: “السالك.. تأخر كما أخرك الله”.. يومها بكى كثيرا بعد الصلاة.. ومسح دمعه في دراعة “الشقة” الجديدة سماوية اللون.. بكى لأنه تجاوز امر الله.. وطلب المغفرة ومنح بقرة لسيده “محفوظ”.. وبقرة للشيخ عبد الرحمن.. وطلب الله ان لا يذهب نعمته عليه لأنه جلس إلى جانب الإمام مزهوا..!! كانت السويلمة من سلالة السالك.. تغني كل مساء، صوتها الناعم ياتي مع دخان الحطب .. كانت تطبخ وتغني.. لا يبكي الأطفال الصغار وقت غناء السويلمة، يتعظ الورعون، وتخفق قلوب العشاق، انه وقت خارج الوقت.. وموعد مع ريح الشمال حيث تنتصب الخيام كتماثيل على شكل طيور تفرد أجنحتها في السماء.. الخيام تطير عندما تغني تلك العبدة النحيفة المستديرة الوجه.. بيضاء الأسنان.. وتواصل الغناء ليلا في “الشنة” حيث يجتمع الشباب والفتيات الجميلات ينشدون شعرا من الغزل المحلي مرتجلا تحت ضوء القمر.. سمح الشيخ عبدو الرحمن بان تغني سويلمة، قال بأنه طرب حلال لا مزمار فيه.. رغم انه عورة.. سمح لها ان تغني لأنها عبدة تمرض عندما لا تغني.. “لا باس أن تغني” قال الشيخ انها ليست حرة: ان الامر تقريبا أشبه بالعلاج.. وكان العالم “ابن سينا” رجلا فاضلا ومخلصا من الأوجاع فأوصى بالاستماع إلى الغناء لأنه يسكن الوجع وينشئ الفرح في الروح.. كان الأهالي يمنعون الأطفال وقت الغروب من اللعب.. انه وقت صعود ملائكة ونزول آخرين، يجب ان نجلس في أحضان الجدات ليرتلن على رؤوسنا أدعية الخير والرحمة، انه وقت توديع الملائكة الذين رافقونا طيلة اليوم، والترحيب بالملائكة القادمين من السماء.. من لم تكن له جدة كان يذهب الى عمته او أمه.. كانت السويلمة التي لا تميز بين الألف والباء ترحب بالملائكة على طريقتها.. كانت كأنها تبكي، تنطلق من حنجرتها العبارات.. كان غناؤها جزءا من وجودنا.. تسكت الضفادع لتغتي تلك العبدة المكبلة بالغربة.. ماتت امها وهي صغيرة وبقي لها شقيق واحد، غادر الى المدينة ليسكن هناك ويعمل بياع خبز.. ويعود ليأخذها.. رحلت السويلمة ذات صباح بعد ما أصابها مرض غريب في عز الشباب.. ظلت تغني ثلاثة أيام في فراشها.. كان الناس يقومون بعيادتها جميعا.. لعلهم كانوا يرغبون في ان يشحنوا ذواتهم بصوتها قبل ان ترحل.. وعادها الشيخ عبد الرحمن، وقرأ على راسها آيات بترتيل عظيم يهز ركائز الخيمة المصنوعة من وبر الابل.. لم يكن العبيد وقتها يؤخذون الى المستشفى.. لعل الله يريدهم ان يخدموا في النار او الجنة، كأن يزودوا النار بالفحم والخشب او ينظفوا اسرة الجنة ليخلد إليها المؤمنون ويطوف عليهم ولدان مخلدون.. فكان لا يتم علاجهم.. عندما يريدهم الله.. يجب ان يستغني البشر عن خدماتهم.. الأتقياء والمطيعون منهم يكونون خدام الجنة.. والمغضوب عليهم يخدمون في النار.. فيزداد عذابهم عذابا.. ظلت السالمة تغني.. لا احفظ الكلمات.. لكن ذلك الصوت محفور في أعماقي، كان يخفت ويخفت.. حتى سكتت للأبد.. لكنها استيقظت منذ شهر جنوب مدريد.. ان هذه الاسبانية تعزف لها.. تعزف لذلك الغناء اليتيم في الأرض البعيدة.. تعزف نفس الروح بعد صمتها ب 20 عاما في مكان بعيد.. بعيدة “الغابة” من مدريد.. لكن غناء تلك العبدة لا ينقطع.. كأنها وضعته أمانة في الذاكرة.. أمانة في الريح.. لحظة عمرها 20 عاما.. كانت السالمة ترحب بعزرائيل – كما تعودت ان ترحب بملائكة الليل- وهي تغني.. لم تكن تحفظ الشهادة، فلقنوها لها.. بكيت مع عشرات الأطفال تحت خيمة مهترئة.. ونحن ننزع اشواك “إنيت” من سراويلنا.. لا أعرف لماذا بكيت.. ولماذا لم أبك بعد ذلك في مواقف وجع كثيرة..!! لكن مناخا من النحيب، كان يكفي لتجييش العواطف.. فبكينا كثيرا.. كانت السالمة تنتظر.. كانت تنتظر شقيقها ليعود من المدينة ويأخذها الى هناك.. حيث يمكنها ان تعمل وترى نور الكهرباء، وتشتري الحلويات، لكنه لم يعد.. قال ورزك حلاب البقر ان البقر لم يعد يدر الحليب بعد رحيل السالمة.. البقر كان ينتظر الغناء، هو نفسه كان يحلب البقر على صوتها.. فيداعب ثدي البقر في رحمة.. ويضرب ضرع “التوس” كانه ينبهها الى جمال الكون.. ونعمة البذل والعطاء والخير. ساد هياج في البقر، وتم استدعاء “مبارك” من مخيمات بعيدة ليؤدب البقر.. كان ينفخ البقرة من مؤخرتها بشفتيه.. وكان يدفع قبضته مليئة بالملح في مؤخرة البقرة حتى المرفق فيصل بطنها فيرمي الملح ويسحب يده .. السالمة كانت تغني فقط.. كانت تؤدب البقر بالغناء.. لكنها رحلت.. لم يعد هنالك من يغني.. عادت الضفادع لتنعق ليلا.. ولم يعد من حل إلا ان يتم استدعاء مبارك ليؤدب البقر الهائج.. لعله يعود ليمنح الخير.. لكن البقر ظل هائجا.. والسماء لم تعد تمطر.. هذه الاسبانية مجنونة.. وعزفها متمرد.. انها تعزف “التشيللو” عند نافذة رجل من ابناء الصحراء والريح.. ابناء الشمس الذين جاؤوا من بعيد.. “التشيلوا” آلة رهيبة كانه يعزف على أوتار قلبي.. اعرفه جيدا عندما يبكي هذا الوتر.. لقد تم صنعه بإلهام من الربابة.. يوجد به وتر واحد يعزف بالقوس وأصابع اليد.. يرمز للوحدة والانتظار، انتظار شيئ قادم.. نصف آخر أو.. وتر آخر.. شيئ ما واقف على ناصية الزمن ينتظر الفرح.. أميرة مدريد البيضاء التي تأتي في الليل لتعزف هذه الآلة المنقوشة في الروح.. إنها لا تعلم ما تفعل.. وتر مارد يعزف عليه بقوس من الخيزران.. عليه خصلة من شعر الخيول..في اسبانيا دائما شيئ للعرب.. ذكريات او شعر خيول.. او قصور عدى عليها الزمن. انتظرت كثيرا.. لم يحدث النور.. ولم يحدث العزف.. سرقني النوم واستيقظت على صحف الصباح مع كأس ليبتون، والخبز والمانتكيا.. “إيلينا سيزار” رحلت البارحة.. لقد حضرت كل شيئ عندما كنت في انتظارها البارحة.. لبست فستانها الأبيض.. وماتت أمام مرآتها بعد نوبة بكاء.. أعقبها توقف القلب.. لا يزال كأس النبيذ الأخير فوق المنضدة.. لا تزال علبة البودرة الصغيرة مفتوحة.. مفتاح نور الشرفة ينحني كأنه في انتظار أناملها ككل ليلة.. “التشيلوا” على السرير الأبيض.. قوس الخيزران مربوط بشعرة خيل يرابط عند قدميها كأنه حصان عربي أصيل فقد فارسه في معركة.. تظل الخيول وفية دائما.. بدون إيمان برب السماء تطمع في عودة الفرسان الذين يرحلون وهم في طريقهم لتحقيق انتصارات..
مدونات تقدمي