“الأدب في خدمة الميزانية” (زاوية أخرى للصورة)

أحمد الأمين السالملا تهمني ميزانية “الاتحاد” وهل أنجز مهرجانه بالملايين أو بالآلاف مع أنني لا أخفيكم أنه خيل إلي أن منظمي المهرجان لم ينظموه إلا لينال كل منهم من ميزانيته – قلت أو كثرت – نصيبا مفروضا أو ليتحدث الناس أن الاتحاد نظم مهرجانا للأدب وفي حب الظهور والبطون معا للأدباء سلف صالح وعرق ينزعهم كل حين..

 

ما أعرفه أنني حضرت في المتحف أمسية أكثر جمهورا وأمتع وأليق بمقام الأدب وكانت ميزانيتها أقل من 30 دولارا..

 

ولأنني لست صندوقا لأحد فسوف أقص عليكم وأغلبكم غاب عن المشهد – وحق له – أحداث أكبر مهرجان للأدب ينظمه أكبر اتحاد في بلد “المليون شاعر”!

 

على أنني للأمانة العلمية حضرت الليلة الأولى بصفتي مهاجر أم قيس والثانية لأنني سألقي قصيدة كرهت اليوم الذي قلتها فيه..

 

كنت أقول لإحداهن في الخاص إن مهرجان الاتحاد مناسبة كبيـــــــرة يسمع المرء فيها مختارات الأدب والشعر  لكنني اكتشفت أن كل ذلك ما هو إلا شحة من شحاتي غفر الله لي!

 

الليلة الأولى كانت سَلَماً لاستقبال معالي الوزير الذي أعلن على بركة الله انطلاق المهرجان..

 

واكتفي فيها بكلمات للكبار فقط! تحدث فيها والدنا أحمدو ولد عبد القادر عن “الأسماء المتغيرة” للاتحاد منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى يومنا هذا وتكلم الخليل النحوي نحو كلامه..

 

لا ضير أن نسمع تاريخ الاتحاد أو على الأقل أن نسمع كلام آبائنا في الأدب أيا كان موضوعه فهم المرشدون والموجهون ولو تترسوا بجيش من المصورين واكتفوا باستماع الصفوف الأمامية لهم وظل الجمهور مشرئبا ينتظر من يسقيه كأس الأدب التي صبر من أجلها الساعات.

 

انسحب الوزير وانسحب معه ثلثا القاعة وبقيت خمس صفوف من المقاعد خاوية تقريبا مع أن كل واحدة منها تعتمُّ بكلمة “محجوز”..

 

قال صاحب الربط موعدنا غدا عند “تمام” الساعة السادسة.. ولأن التمام لله وحده فقد أتيت في الليلة الثانية السابعة تقريبا ووجدت أمامي محاضرات أكاديمية كان عنوانها “الحس الفكاهي في الشعر الموريتاني” استمعت للمحاضر فوجدته يتكلم عن الثقلاء..

 

كان الجمهور قليلا جدااا أغلبه ينتظر في الأمام لعل حديث “الثقلاء” ينتهي..

 

خرجت ودخلت وحضر وقت الصلاة وصلى الناس ورجعت فإذا بنفس المحاضر يتكلم عن الحس الفكاهي..

انتظرت بفارغ الصبر لعل نقطة نهاية كتابه تحين..

 

وحين حانت عقب له متدخلون استعرض كل منهم محفوظاته من الشعر الفكاهي وإن غاب في بعضها الشعر وتبرأت من بعضها الفكاهة..

 

قالت امرأة تقف على المنصة إن المحاضرة الأدبية انتهت فتنفستُ الصعداء وعدلت من جلستي قبل أن تعطف بأن المحاضرة القادمة هي عن الأدب الفرنسي في الشعر الموريتاني..

 

لم أفعل “ما فيه الباس” فخرجت مسرعا من باب القاعة وركبت أول تاكسي تبعدني عن تلك القاعة المحجوزة من قبل المحاضرين الذين يستعرض كل منهم تصانيفه خلال العقدين الماضيين والمجاملين الذين يعنيهم الاتحاد ولا يستطيعون إلا أن يكتموا أنفاسهم في انتظار نقطة نهاية أخرى، والشعراءِ الذين ينتظرون اللحظة التي يربح فيها بيعهم وينادى عليهم بأعلى الصوت هلموا إلى المنصة..

 

كنت أقول في نفسي إن على أهل الاتحاد أن يميزوا بين جمهورهم: فهنالك جمهور للأدب يحضر ليسمع طلعة أو قصيدة وهنالك جمهور للثقافة وتلك “لَحرفْ” ولا ينبغي دعوة أمثالي من من لا تعنيه الثقافة في شيء لحضور تلك المحاضرات الطويلة الرتيبة المنوِّمة مغناطيسيا..

 

اتصل بي أحد الأخلاء ليخبرني أنني من الشعراء المقرر إلقاؤهم الليلة!

 

سألته هل انتهت تلك المحاضرات المفيدة فأجابني متفائلا: نعم!

 

شددت الرحال قافلا إلى دار الشباب وحين دخلت مع الباب كانت نفس المرأة تقول : والآن مع محاضرة أخرى عن دور “ش ما نعرف شنه” في الأدب الموريتاني!

 

مرت الدقائق بطيئة جدا كليالي العاشقين وهو ليل يعرف الشعراء تصويره لكنهم لم يكونوا يتصورون أن تكون ليالي اتحادهم مثله!

 

كان منتصف الليل يقترب بهدوء وقد بقي في القاعة الشعراء المقررون ومن جاملهم من أصدقائهم وأقربائهم..

 

وبعدما قضى المحاضرون وطرهم، واستنفدت الكاميرات بطارياتها مشكورة على الاستماع والإنصات (فربما كانت الوحيدة المستفيدة من المحاضرات الأدبية).. حانت اللحظة التاريخية التي انتظرها عشرات الشعراء وبدأ كل شاعر ينتظر اللحظة التي يفوز فيها بعناق منصة دار الشباب ليسجل اسمه في التاريخ..

 

وقف أحدهم على المنصة خالَ الناسُ أن مهمته الربط لكن مهمته الأساسية كانت تعجيل الشعراء ومدح من اختصر منهم وتأنيب من ألقى “قطعته كاملة”..

 

كان ينادي بأسماء الناس في عجالة..

 

خيل إليّ أن اللجنة المشرفة على دعوة الناس للمنصة تتهلل وجوهها حين تنادي باسم شاعر غائب وكنت أطرح على نفسي أسئلة غبية:

ما الغرض من المهرجان الأكبر الذي ينظمه اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين؟

وما الغرض من مشاركتي أنا و89 شاعرا وأديبا إن كان الوقت المسموح به لكل شاعر أقل من دقيقة وإن كان غيابه أحلى من حضوره وإن كان إذا زاد على البيتين تعقبه “الرابط” مؤنبا له ومتمولحا فيه أحيانا!؟

 

سوف أنقل لكم صورة الخلفية:

الجمهور الذي يلقي أمامه الشاعر هم: الشعراء الذين سيلقون بعده في تلك الليلة ومن جاملهم بإحسان فهؤلاء فقط هم من يستطيع الصبر حتى الواحدة ليلا لا استمتاعا بما يلقى بل في انتظار الدور..

 

حتى إنّ مَن كان في ذيل اللائحة ألقى أمام أقل من 10 أشخاص بينهم أعضاء الاتحاد المشرفون

 

لا أنسى لحظة طلب مني أحد الشعراء بعدما ألقيت قصيدتي وجمعت علي دراعتي استعدادا للخروج بأقصى سرعة أن أنتظره حتى “أجمل عليه” بعدما خرج امكاطيع النعايل الذين صبروا مشكورين حتى سمعوا مشاركتي!

 

حين وقفت على المنصة قال لي الرابط اختصر!

 

لكن شيئا من طبيعتي في الثقل والغسلة كان يمنعني من الاستماع له فألقيت قصيدتي بالعرض البطيء غير متجاوز منها كلمة ولا “مَحْصَة”

 

لا أظن أنه كان يستمع إلي إلا جدران القاعة أو أصدقائي أو اللجنة التي تنتظر مني البيت الأخير فقط لتناديَ بالاسم الموالي!

 

كنت أقول في نفسي هل يستطيع “صالون مامون الأدبي” أن يجمع للشعر جمهورا يستمع له ويطرب معه ويتفاعل مع الملقي أكثر من اتحاااد وزارة الثقافة!

 

ختمت الأمسية “الرائعة” حوالي الواحدة ليلا وهو وقت من المعروف أن ذواتِ الخال لا يمكنهن انتظاره ومن انتظره من ذوي “المداخلات” فسيرهقه التعب ويضنيه السغب ويكره اليوم الذي قال فيه قصيدته!

 

الأمسية الثالثة كنت مساءها عند دار الشباب وللأمانة أيضا فقد قدمت لأقضي حاجة في نفسي وحين رأيت الأجواء مشحونة بأنفاس المحاضرين الذين يتأهبون لقراءة مجلداتهم أمام الناس سحبت قواتي وندمت على المجيء وأقلعت عن الذنب ونويت أن لا أعود!

 

 

ثم نمَّ إلي الواشون أن المشرفين على المهرجان قاطعوا أحد الشعراء بعد أن انتهك “علمنة الأدب” ومبدأ فصله عن السياسة وامتدح دولة قطر.. وهو شيء يعقر “دبو” وغير متناسق ولا متجانس مع “فاقو” الذي كان يعزف فيه المتحدث باسم الحكومة في خطاب الافتتاح..

 

قال الاتحاد إنه يشترط في القصيدة أن لا تكون في السياسة! وسمح لإحداهن أن تمدح فخامته وتتغنى بأمجاده وذلك طبعا ليس من السياسة المذمومة بل من “السيااااسة” بالحسانية والتي من شأنها أن تزيد الميزانية! وتلك جائزة باتفاق الشعراء والغاوين!

 

أظن أن تمجيد قطر بدعة وضلالة ومحدث جديد على مسامع الأدباء الموريتانيين فالأصل أن نمجد الإمارات كما يفعل موفدونا الطامعون في “سلهام” أمير الشعراء حين يمجدون خليفتها الذي بنى سبع إمارات فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها وأبا ظبي بعد ذلك دحاها كما يقولون!

 

عزز الاتحاد لياليه الثلاثة بليلة رابعة لعل بعض الكتب التي لم تقرأ تنتهي..

 

ولعل بعض ألسنة الشعراء التي لم تنطق تقف على المنصة فتنقطع حججهم بذلك..

 

وقد حضرت الليلة الأخيرة وكانت كسابقاتها لا جديد يذكر ولا يشكر..

 

التقطت بعيني مشهدا لصاحب الربط ينادي على أحدهم ويستعجله ولعل صاحبنا يعرف قيمة ما يلقي فوقف على المنصة وقال ما معناه: إن من قطع الفيافي كي يعرض بنات فكره عليه أن يعرضها بصفة لائقة أو يتركها في خدورها ثم استشاط غضبا ونزل منسحبا هو وأنصاره..

 

أسدل الستار البارحة على “المعيديّ” الذي كنت أنتظره ونثر اتحاد الأدباء كنانته في العراء وتفرق الشعراء بين من كان يعبد “طرنيشة” لا يعنيه إلا أن يجدها ويمضي إلى سبيله يغني “عاش الاتحاد”..

 

وبين من كان يظن أن “سلكا” من الأدب “سيحرك” فخاب ظنه وعلم أن “مان” لا تنجب “التركة” كما يقال!

 

وأن الحركة التصحيحية التي قام بها شباب كتلة الإصلاح (الذين كنت من ضمنهم) لم تخرج لنا إلا نسخة من المهرجان عجزت على الأقل عن فصل ثقافة “المحاضرات” ومتعة “الأماسي الشعرية”..

 

وجعلتْ آمّي الأماسي يسجنون خلف أئمة المحاضرات الطويلة الذين لا يتقنون التخفيف ولا يعرفون أن أمامهم النساء والعمال الذين لا يستطيعون انتظار بزوغ نجم الصباح في انتظار القصيدة التي جاءوا من أجلها..

 

إن نظرية المهرجان من أجل المهرجان ما زالت مسيطرة!

 

وإن الجعجعة التي تدعى اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين تخرج الطحين لكنها ترميه في الهواء وتستضيف الشعراء لكنها لا تحب إحراجهم بل تتركهم يتعلمون فن الإلقاء أمام المقاعد الفارغة ولكن أيضا بشرط أن لا يلقنوا تلك المقاعَد السياسة فالأدب هو ثلاثون ألف أوقية نعطيها للشاعر فيخرس وينقطع لسانه وموعدنا بدر من السنة القادمة وهكذا دواليك..

 

يخطر ببالي أن الأفضل لو ظل الاتحاد منشقا كما كان قبل سنة تقريبا حين كانت هنالك كتلة الإصلاح التي شهدت فيها سهرات أدبية ممتعة بجهود بسيطة..

 

أو لو منح الاتحاد عُشر ميزانيته لنادي التألق أو صالون مامون إذاً لكنا رأينا أماسي كبيرة لها جمهورها ولها ضيوفها ولها قيمتها.

 

وليحتفظ الاتحاد بتسعة أعشار الميزانية ليمنحها لمحاضريه ومناضليه.

 

وإني لأعجب من اتحاد يستظل بقلم الكاتب الكبير محمدو ولد احظانا والظاهرة أحمد ولد الوالد ويمد جذوره من بحار الأدب من أمثال ول النحوي وول عبد القادر وول أحمدو ويضم التقي ولد الشيخ وبودربالة وعشرااات المبدعين الذين لا يجارون ولا يبارون ثم يخرج نسخة من أكبر مهرجان له في مثل هذه الرداءة والضعف وكأنه ناشئ أمس أو يشرف عليه أدعياء الأدب!

 

كلما كان قدرك أكبر كان الطلب منك أكبر

 

على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم

 

رحم الله أبا الطيب وودت لو جلست في بيتي طيلة المهرجان واكتفيت بقصيدته الميمية ووقفت عند قوله: هذا عتابك إلا أنه مقة .. قد ضمن الدر  إلا أنه كلمُ.

 

كانت تلك خواطر منتسب للاتحاد كتبها في عجالة لعلها تجد أذنا صاغية بين سادته وكبرائه الذين قد يكون جزء من الصورة فاتهم.

ويبقى الود ما بقي العتاب.                                                                                                                                                                                           أحمد الأمين السالم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى