أوراق من ذاكرة محمدفال اباه
الرئيس علي كافي بدوره، أدلى بدلوه، ولو بصورة غير مباشرة في الجدل. لقد اختار مناسبة رمزية مهمة هي ذكرى ثورة أول نوفمبر، وافتتاح السنة القضائية الجديدة ليعلن أمام القضاء أن تكوين المحاكم الاستثنائية لا يعني بأي شكل من الأشكال أن المجلس الأعلى للدولة تخلى عن اختياره الأصلي الرامي إلى بناء دولة القانون الضامنة لاحترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان. عبد السلام بلعيد، رئيس الحكومة أسمع صوته التميز، هو الآخر، في هذه المناسبة، إذ لم يتردد في الاعتراف بأن حكومته تقوم بلا شك بخرق الدستور لكن لا خيار أمامها، سوى ذلك. وكان مسك الختام، في هذه الضوضاء كلها، هو إقالة وزير العدل، بتلك الطريقة المسرحية غير المألوفة.
فلماذا احتلت الإشكالية القضائية كل هذه المكانة، وأصبحت في غضون أيام معدودة الشغل الشاغل للدولة وللمجتمع المدني وللإعلام؟ هناك، بداهة مشكلة الإرهاب وحالة الطوارئ غير المعلنة، والضرورة التي تبيح المحظور، وتفرض على الدولة أن تتسلح بالأدوات المتوفرة لديها لمواجهة خصومها. لكن هناك أيضا أشياء أخرى، مسكوت عنها، هي تلك الملفات المتراكمة، المتخلفة عن العهدين السابقين، عهد بومدين، وعهد الشاذلي بنجديد، والتي ما تكاد بعض الأصابع تقترب منها، حتى تنفض الأيدي وتبتعد خوفا من الاحتراق. ومما يسترعي الانتباه، أن هذا الجدل حول المؤسسة القضائية انطلق مع تجدد الحديث عن احتمال فتح بعض هذه الملفات القديمة التي تتعلق بالفساد والرشوة. والكلام عن محاربة الرشوة، ومعاقبة المرتشين، خطاب قديم في السياسة الجزائرية، دشنه الشاذلي بنجديد، في مستهل حقبة الثمانينات، ولكنه لم يذهب بعيدا في تطبيقه. حقا إنه أحدث ديوانا وطنيا للمحاسبة، وقدم بعض الرموز، التي اعتبرها الرأي العام في حينها مجرد «أكباش فداء» لقد اتخذت المحاكمات الخاصة آنذاك صورة تصفية حسابات سياسية كان الغرض منها إبعاد الخصوم من المسرح نهائيا أو إسكاتهم. أما الأسماك العملاقة، فقد بقيت تسرح وتمرح في بحار الثروة الحرام التي جمعتها من الصفقات الكبرى. ومثلا، فإن الرأي العام الجزائري كله، يتحدث عن تلك المحاكمة، التي بدأت بسرعة وانتهت بسرعة، دون أن يقيم أي تفسير مقنع لذلك. يتعلق الأمر بالمدعو رشيد زكار المعروف برشيد كازا. لقد كان هذا الرجل تاجرا عاديا قبل قيام الثورة، وعندما اندلع الكفاح المسلح، في الخمسينيات، التحق بصفوف جبهة التحرير، وجاء إلى المغرب، ليتخصص في تزويد جيش التحرير الوطني الجزائري، بالأسلحة الأمريكية وأجهزة الإتصال التي كان يشتريها من السوق السوداء أو من القواعد الأمريكية في القنيطرة والنواصر وبن جرير. ولأنه كان يقيم كثيرا في العاصمة الاقتصادية المغربية، فقد أصبحت شهرته في الوسط الجزائري، «رشيد كازا». خلال حرب التحرير توثقت صلات رشيد كازا، بشخصيات مدنية وعسكرية جزائرية سوف تكون لها مواقع مؤثرة في صنع القرار بالدولة الجديدة. قد أصبح صديقا شخصيا لبومدين بعد أن كان صديقا لبوصوف. وعندما استعادت الدولة الجزائرية استقلالها، في بداية الستينيات، عاد رشيد كازا، إلى حبه الأول، أي التجارة، وتمكن بواسطة شبكة المعارف والأصدقاء الذين احتلوا في الكيان الفتي للدولة مناصب هامة، تمكن من أن يصبح أحد المتعهدين الأساسيين للصفقات الكبرى، خاصة العمليات الإستراتيجية المتصلة بتجهيز الجيش. كان رشيد كازا، بحكم علاقته الوثيقة مع هواري بومدين، «المهندس-الظل» للسياسة النفطية الجزائرية. لأنه هو الذي فتح أسواق الولايات المتحدة أمام النفط والغاز الجزائريين، وهو الذي أبرم الصفقات الخاصة بطائرات البوينغ لحساب شركة الخطوط الجوية الجزائرية. وفي منتصف السبعينات، أي في أوج الطفرة النفطية، أصبحوا يطلقون عليه داخل الأوساط المالية «خاشقجي الجزائر». بيد أن دور الرجل لم يقتصر على الاقتصاد، ولكنه تجاوزه إلى السياسة والسياسة الإستراتيجية العليا. إنه هو الذي كان وراء زيارة عدد من الشخصيات الأمريكية إلى الجزائر، وكان وراء تعريف بومدين بعدد من الوجوه الأمريكية المؤثرة مثل روكفلر وكيسنجر، وهو الذي وضعت في مكاتبه بنيويورك الخطوط الكبرى لذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه بومدين في الإجتماع الشهير للجمعية العامة للأمم المتحدة، حول «النظام الاقتصادي العالمي الجديد». هذا الرجل، لم يكن معروفا كثيرا لدى الرأي العام الجزائري، ولا كان معروفا، رغم خطورة الأدوار التي قام بها حتى لدى الرأي العام الخارجي، لقد احتفظ من تجربته في الثورة، بنفور مرضي من الواجهات المتلألئة. ولم يخرج اسمه عن الدوائر الضيقة إلا عندما قرر المرحوم قايد أحمد، المسؤول السابق لجهاز حزب جبهة التحرير وبعد دخوله المعارضة، وسفره إلى الخارج، أن يكشف أمره للصحافة الدولية. لقد حدثنا عنه كثيرا، أثناء لقاءات جرت بيننا وبينه في باريس، ففي منتصف حقبة السبعينات، أعطانا، وغيرنا من الصحفيين، نسخة مصورة، عن حساب بنكي، أكد لنا أن رشيد زكار، فتحه باسم هواري بومدينن في فرع بنك أمريكي بنيويورك. وكشف قايد أحمد، في تلك الأيام وجود حسابات سرية في سويسرا، باسم المسؤولين الرسميين، لكن هذه «الفضائح» بقيت محصورة التداول، ولم تنشرها الصحافة أو تروجها، بما فيه الكفاية، لأن الدولة الجزائرية، كانت آنذاك، أي في منتصف السبعينات، في أوج مجدها الاقتصادي والسياسي والإعلامي، وكانت «قيادتها الثورية» تتمتع بما يشبه «العصمة» في نظر صناع القرار الدولي. ومع ذلك، فقد مست تلك «الكشوفات» وترا حساسا عند الراحل بومدين، الذي اعترف أمام «أطر الأمة» في أحد اجتماعات نادي الصنوبر بوجود أموال أودعت في حسابات مصرفية خارجية. قال إنها «مرصودة للثورة». وكان لابد من أن تحدث فضيحة من نوع آخر، ليطفو اسم رشيد كازا على السطح، ويخرج من دائرة المجالس والمحافل الضيقة إلى الفضاء الإعلامي الواسع، وجاءت الفضيحة عندما قرر الرجل أن يخطف ابنة أخته دليلة، من مونتريال في كندا ليمنع زواجها من شاب فرنسي أشهر بعد والده إسلامه، ليتمكن من الإرتباط شرعيا بحبيبته. إنها قصة بوليسية، شغلت الصحافة يومها [في بداية الثمانينات]، وكانت بمثابة غلطة الشاطر، التي دشنت مرحلة بداية النهاية بالنسبة لمرتكبها. اختطف رشيد كازا الفتاة المتمردة، بشكل مثير، إذ نقلها في طائرة بوينغ خاصة من عاصمة الكبيك إلى الجزائر، ومنها إلى مدينة العلمة، موطن أسرته، في الشمال القسنطيني، وأخفاها عن الأنظار. وانفجرت أزمة قضائية-سياسية بين كندا والجزائر، ووجد الشاذلي بنجديد، الذي كان يبحث عن وسيلة ملائمة للتخلص من مراكز القوى البومدينية، فرصة ذهبية لتصفية الحساب مع أحد رموز العهد القديم. هكذا وضع رشيد كازا في الإقامة الجبرية، وتطورت الإقامة الجبرية إلى إجراء تحقيق قضائي وأمني، والمحاكمة انتهت بالبراءة وبدأ الرأي العام يتحدث كثيرا عن الموضوع لأن رشيد كازا، هدد بكشف أوراق وقضايا انفجارية، قال حسب ما روي لنا أحد عارفيه يومها إنها ستؤدي إلى زعزعة النظام بأسره. وانتهت الحكاية بإطلاق سراح الرجل، ومغادرته للجزائر، وكان ختامها أنه وجد ميتا ذات يوم (بداية 1983) في غرفة بأحد فنادق مدريد، بسبب «جلطة» كما قيل. محاكمة ثانية، لم تحصل تحدث عنها الرأي العام كثيرا ولكنها لم تقع حتى الآن. وهي، كما سنوضح، تتصل بقصة رشيد كازا، وتلقي بعض الضوء على أزمة القضاء الجزائري، بما هي إحدى تجليات المأزق السياسي والاقتصادي العام، لهذا البلد. إنها القضية المعروفة بستة وعشرين مليار دولار. لقد انفجرت هذه الفضيحة في شهر مارس 1990، عندما أعلن السيد عبد الحميد الإبراهيمي، أمام طلابه، أن المبالغ المالية التي حصلها بعض الأفراد من الصفقات والعمولات المختلفة، تتجاوز رقم المديونية الخارجية للجزائر. وكان من الممكن أن يمر ذلك التصريح، أو يضيع، بلا عواقب تذكر، لولا أنه وجد بين المستمعين صحفي من جريدة المساء نقل الكلام، واعتبره خبرا جديرا بالنشر. وكان ذلك التصريح قنبلة الموسم السياسي والإعلامي، لكونه صدر عن رجل معروف لدى الخاص والعام، برصانته واعتداله، وقلة أحاديثه المثيرة. كان عبد الحميد الإبراهيمي، قد تولى منصب الوزير الأول في الفترة ما بين 1984 و1988، ولم تصدر عنه طوال تلك السنوات، أية تصريحات أو تصرفات مماثلة أو حتى قريبة من تلك المفرقعة الحارقة. لم يكن الرجل من فئة كبار اللاعبين في المسرح السياسي. لقد كان ضابطا في جيش التحرير، تولى بعد الاستقلال منصب والي مدينة عنابة، ونقل بعد انقلاب التاسع عشر من يونيو 1965، إلى أحد الأقسام الإدارية لوزارة الدفاع الوطني، ثم بعد ذلك إلى مكتب شركة سوناطراك [المشرفة على شؤون صناعة النفط والغاز]، نقل إلى مكتبها في واشنطن، وأرسل قبل وفاة هواري بومدين، تقريرا مفصلا عن «التلاعبات» الحاصلة فيه، ولعله أشار، في ذلك التقرير إلى رشيد كازا، وغيره من كبار الوسطاء. وقد أبعد عبد الحميد الإبراهيمي من العاصمة الأمريكية فور انتشار الخبر عن تقريره، وانتقل إلى لندن لاستئناف دراسته، وبقي ينتقل بينها وبين باريس، لإعداد أطروحته عن الوحدة الاقتصادية العربية. وبقيت الوثيقة نائمة بين أدبيات كثيرة مماثلة لها، إلى أن سمع الشاذلي بنجديد بها، فاستدعى كاتبها وعينه وزيرا أول، خلفا لوجه معروف من وجوه الفترة السابقة، هو العقيد عبد الغني. ثم كانت أحداث خريف الغضب الدامي (1988) التي تألفت بعدها وزارة جديدة برئاسة العقيد قاصدي مرباح، مدير الأمن العسكري السابق. وعندما أدلى عبد الحميد الإبراهيمي، بحديثه حول ذلك الرقم الخرافي، قامت القيامة في الوسط السياسي والإعلامي. كانت البلاد يومها مقبلة على أول انتخابات (بلدية) في ظل التعددية السياسية الجديدة، وبدا أن الوزير الأول السابق، رغم أنه كان [وما يزال] عضوا في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، أي الحزب الحاكم آنذاك، يقدم خدمة مجانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ. بل إن شائعات قوية، راجت في تلك الفترة، تؤكد أنه استقال من عضويته، والتحق بحزب عباسي مدني، وقد نفى لنا الرجل تلك الإشاعات أثناء لقاء صحفي أجريناه معه في تلك الأيام، ولكنه بدا لنا كما لو كانت تجوز تماما، بالعاصفة التي فجرتها كلماته. لقد قامت جبهة الإنقاذ بطبع آلاف النسخ من ذلك الكلام، ووزعتها في منشورات وملصقات إعلامية عبر مجموع التراب الوطني، وجعل منها خطباؤها في المساجد والمهرجانات موضوعهم المفضل، أثناء الحملة الانتخابية. كما أن الصحافة، بمختلف قطاعاتها. [المقروءة، والمرئية والمسموعة] حولتها إلى مادة لتعليقاتها، وتساؤلاتها. ولم تبق أية شخصية سياسية جزائرية، في تلك المرحلة، صامتة أمام هذه الفضيحة [ابن بلة، آيت أحمد، يوسف بن خدة وآخرون] فطالبوا بإجراءات تحريات عاجلة لمعاقبة المرتشين. أما عبد الحميد المهري، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، فقد أنحى باللائمة على الوزير الأول السابق، واعتبر أن كلامه يدنس سمعة الجزائر بكاملها، مجتمعا ودولة، وطلب منه أن يضع النقط على الحروف، ويخرج من التعميم إلى التخصيص. المجلس الوطني الشعبي [البرلمان]، شكل آنذاك وبمبادرة من رئيسه عبد العزيز بلخادم، المعروف بقربه من التيار الإسلامي لجنة تحقيق برلمانية، عقدت جلستين مغلقتين، استمعت خلالهما إلى إفادات رئيس الحكومة السابق. ويومها، قالت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أنها إذا وصلت إلى السلطة، فسوف تكشف الحقيقة، وتحاكم المسؤولين على أساس مبدأ «من أين لك هذا؟» وكان أنصارها أثناء دعايتهم الانتخابية للبلديات في ربيع 1990، وحتى في تشريعات خريف 1991، يكررون «وشهد شاهد من أهلها» ولما جرى إبعاد الشاذلي بنجديد من منصبه، وحلت محله رئاسة جماعية في صورة مجلس أعلى للدولة [في عهد بوضياف]، ثارت من جديد خصومة علنية بين رئيس المجلس الشعبي السابق، ووزير العدل، في حكومة سيد أحمد غزالي، حول الجهة صاحبة الصلاحية في الإحتفاظ بملف الستة عشرين مليار دولار! أخيرا، وبحكم قوة الأمر الواقع، أصبح الملف بين أيدي العدالة، والعدالة وحدها، لأن المجلس الوطني الشعبي، السابق لم يعد موجودا، والمجلس الوطني الشعبي الجديد، أُجهض في المهد، ولم يرى النور [بسبب الانقلاب] حتى يستمر في متابعة القضية. وعندما جاء الرئيس محمد بوضياف إلى رئاسة مجلس الدولة، وضع على رأس جدول أعماله مهمة محاربة الفساد والرشوة، باعتبارها رسالة عاجلة لإعادة الثقة المفقودة بين المجتمع والدولة. ولكنه في نفس الوقت، حذر الرأي العام، من مخاطر تخول المحاكمات المنتظرة إلى تصفية حسابات، وأصر على ضرورة إعداد الملفات والوثائق والمستندات حتى يجرى كل شيء في شفافية كاملة.وكان أول ملف جدي، يتصل بالرشوة، عولج في عهده هو موضوع العميد المتقاعد مصطفى بلوصيف، الأمين العام سابقا لوزارة الدفاع الوطني. وبمناسبة، البدء في تقديم ذلك الملف إلى القضاء، سربت، معلومات عنه إلى الصحافة، في محاولة بدت، كما لو كانت مقصودة، لتلميع المؤسسة العسكرية، وإبعاد الشبهات عنها، ويبدو أن تلك «التسريبات» هي التي شجعت الصحافة على إثارة قضايا أخرى جديدة، قديمة، من جملتها مسألة الستة وعشرين مليار دولار وقضية الغرفة الوطنية للتجارة. ثم تدخل عبد السلام بلعيد في النقاش وأعطاه بعدا جديدا حين دعا علنيا الوزير الأول السابق عبد الحميد الإبراهيمي للعودة إلى الجزائر، لأجل تقديم معلومات تفصيلية عن التهم التي سبق له أن وجهها، وبقيت عامة وغامضة وحسب المعلومات المنشورة في الصحف الجزائرية، فإن الملف الموجود الآن رهن إشارة أحد قضاة التحقيق بالعاصمة، حول الستة وعشرين مليون دولار، يتضمن ثمانية وعشرين قضية كبرى تتصل بصفقات عقدتها الدولة مع شركات ومؤسسات أجنبية بهدف إنجاز جملة من المشاريع الإستثمارية. من بين هذه الصفقات، مشروع بناء معهد باستور الذي توقفت الأعمال الخاصة بإنجازه عام 1985، بعد أن كانت الدولة خصصت له غلافا ماليا، يبلغ مئة وعشرين مليار سنتيما من الفرنكات الفرنسية. ثم هناك ما يسمى بملف «الغرفة الوطنية» للتجارة، وهو يضم حوالي 2400 طلب رخص استيراد موجة للإستثمار. ورخص الاستيراد كما هو معروف تعطى للذين يحصلون عليها الحق في الحصول على مبالغ معينة من العملات الأجنبية، تقدمها الدولة لمن يسمون في المصطلحات المحلية «المتعاملين الاقتصاديين» بهدف توريد أجهزة ومعدات ومواد أولية. والأسئلة المطرحة الآن هي : هل وصلت تلك الأشياء إلى الجزائر، وهل كانت مواصفاتها مطابقة لما قدم عنها من معلومات؟ وهل مازالت تعمل؟ وهل أن قيمة البضائع المستوردة مساوية للمبالغ التي سمحت بها الدولة؟ وهل أن المستفيدين من رخص الاستيراد متوفرون على الشروط القانونية المطلوبة؟ أما السؤال السياسي الكبير، الذي غطى ويغطي على غيره من الأسئلة، فهو: ما علاقة ذلك كله بإقالة وزير العدل، السيد عبد المجيد الماحي؟ أولا من هو هذا الرجل الذي وضعته الظروف على رأس هذا القطاع الإستراتيجي، في هذا الظرف الدقيق من تاريخ الجزائر؟ لقد كان عبد المجيد الماحي، تلميذا في ثانوية فرنسية. بمدينة وهران أيام الثورة التحريرية، وعندما دعا الاتحاد العام للطلاب المسلمين الجزائريين، إلى الإضراب عن الدراسة (يوم 19 مايو 1956)، أشرف بنفسه على العملية الإضرابية في ثانويته بعاصمة الغرب الجزائري. بعد ذلك شارك في عدة عمليات فدائية، قبل أن يلتحق مع عدد من زملائه التلامذة بوحدة من وحدات المقاتلين بالولاية الخامسة، ثم بمدينة وجدة، مقر قيادة جيش التحرير الوطني. قام عبد المجيد الماحي بعدة مهمات في الخارج في نطاق بعثات مكلفة من قبل وزارة التسلح والمواصلات، بجلب الأسلحة لحساب الثورة. وكان واحدا من مئات الأطر الجزائرية الذين يتنقلون بجوازات سفر مغربية. وعندما استقلت الجزائر. وضع السلاح وعاد إلى مقاعد الدراسة، فشارك في المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للطلاب الجزائريين (1963) وعين مسؤولا عن فرع وهران، وعن مجلة «الطالب الجزائري» التي ظل يديرها إلى أن اختفت عام 1964، بعد انقلاب 19 يونيو 1965، انضم عبد المجيد الماحي، إلى «منظمة المقاومة الشعبية» التي كانت ثمرة تحالف بين الحزب الشيوعي الجزائري ويسار جبهة التحرير الوطني، بقيادة المؤرخ الكبير محمد حربي. ثم عاد الماحي إلى جبهة التحرير، بمناسبة المؤتمر الرابع الذي عقد غداة وفاة هواري بومدين، عاد وشارك في تلك التظاهرة بصفته منسقا لقسمه [فرع] مدينة سيدي بلعباس التي ينتمي إليها. وكان الرجل قد أكمل دراسته الجامعية في الحقوق وأصبح قاضيا بوهران 1967، ثم انتخب عام 1990 نائبا لرئيس النقابة الوطنية للقضاء وهي واحدة من الروابط المهنية العديدة التي أفرزها خريف الغضب الدامي، في عهد الشاذلي بنجديد. الأشخاص الذين يعرفون الوزير السابق يصفونه بأنه «أصغر صديق» للرئيس الراحل بوضياف، ويذكرون له من جملة المناقب التي يذكرونها، أنه معتز جدا بشخصه ولا يقبل أن «يدوس أحد على قدميه». ويذكرون تأكيدا لهذه الصفة، الموجودة عند كثير من الجزائريين، أنه كان يوجه انتقادات عنيفة للحزب الحاكم سابقا، وذلك ما دفع قيادة الجبهة إلى فصله من مسؤولياته التنظيمية، ثم طرده نهائيا من الحزب. ذلكم باختصار هو الرجل. فأية صلة يا ترى، بين إقالته وبين إشكالية القضاء المثارة هذه الأيام؟ هل اقترب هو الآخر من الملفات واحترقت أصابعه فأبعدوه، قبل أن يخطو خطوة أخرى، تؤدي إلى إشعال الفتيل؟ الملاحظ أن هذه الإقالة تزامنت مع اقتراح تقدمت به السيدة فتيحة بوضياف، أرملة الرئيس، الراحل، تدعو فيه إلى تحويل البحث بخصوص اغتيال زوجها إلى العدالة، بدل إبقائه بين أيدي لجنة التحقيق المكلفة بالإشراف عليه من طرف المجلس الأعلى للدولة. والملاحظ كذلك أن الوزير «المقال» كان قد انتهى من وضع قائمة بعدد من القضاة ورؤساء المحاكم لإبعادهم، وأنه كان -كما ذكر لنا أحد أصدقائه- يريد أن يشرف على كل شاذة وفاذة في وزارته، ولا يقبل أن «يتجاوزه» أحد أيا كانت رتبته، للإتصال بالأجهزة القضائية التابعة له، والملاحظ أخيرا أن الرجل أبعد من منصبه، في وقت ينتظر فيه الرأي العام في الداخل وفي الخارج، صدور نص القسم الثاني من التقدير الذي أعدته اللجنة المكلفة بتقصي الحقائق حول ملابسات اغتيال الرئيس محمد بوضياف. فهل يكون إبعاد الوزير جزءا من تصفية الحسابات التي حذر منها الراحل والتي ربما يكون الفقيد نفسه ذهب ضحيتها؟ سؤال مطروح في الجزائر، والجواب عليه، قد يأتي قريبا في فصل جديد من فصول الدراما الحالية، أو يبقى مدفونا، محصورا في صدور المطلعين، العارفين بأسرار وخبايا وزوايا لعبة السياسة في المغرب العربي الأوسط.. إلى أجل غير مسمى. الفهرس أولا : المغرب الكبير 2 – باقي المغرب العربي وإفريقيا الجزائر مفاجأة غير مفاجئة في فترة شك عميق دسمبر جزائري ودسمبر فلسطيني حكاية الموت المعلن والاحتضار الطويل للقوة الثالثة خريف الغضب الجزائري : خطاب غاضب للشاذلي بنجديد ضد الدولة والحزب والشعب قطيعة عميقة بين الدولة والشعب لكل دولة جيشها وللجيش الجزائري دولته عاشت فرنسا أحداث الجزائر كما لو كانت مأساة فرنسية العقيد قاصدي مرباح من الأمن العسكري إلى الوزارة الأولى وجوه قديمة ورموز جديدة في حكومة قاصدي مرباح حكاية ميلاد معلن حديث مع حسين آيت أحمد أقدم معارض جزائري هذه قصة علاقتي مع أحمد بن بلة… الغاز والمساعدة مقابل الديمقراطية الجزائر في مفترق الطرق مشاهدات ومسموعات : التطور الموازي بين الجزائر والمغرب نهاية عهد المحرمات والطابوهات بلد المليون ونصف مليون متظاهر تفسيرات شريف بلقاسم ومحمد الصالح اليحياوي لهزيمة الجبهة (الحلقة الأولى) مساجد الشعب والمساجد الحرة والمساجد الخاصة ودورها السياسي (الحلقة الثانية) جبهة التحرير تصل إلى ذروة مجدها وانهيارها في عهد بن جديد (الحلقة الأولى) كيف استُعملت المسألة اللغوية في الأزمة السياسية (الحلقة الثانية) غياب بومدين كان مناسبة لخروج السلفيين من السرية للعلنية (الحلقة الأولى) ثلاثة آراء لتفسير هزيمة واحدة (الحلقة الثانية) جريدة المجاهد تشرح التزوير ودور السلطة في هزيمة جبهة التحرير الوطني (الحلقة الأولى) صيف إسلامي ساخن وكئيب (الحلقة الثانية) صيف إسلامي ساخن وكئيب (الحلقة الأولى) الفتنة في وادي ميزاب… (الحلقة الثانية) الفتنة في وادي ميزاب… (الحلقة الأولى) الشاذلي بنجديد أو الرجل الثالث (الحلقة الثانية) الشاذلي بن جديد.. أو الرجل الثالث (الحلقة الأولى) كيف عاد القدماء إلى الحزب (الحلقة الثانية والأخيرة) كيف عاد القدماء إلى الحزب أحمد بن بلة العائد إلى الجزائر بعد رحلة قام بها إلى بغداد الجزائر من الشاذلي بنجديد إلى محمد بوضياف أو شتاء الديمقراطية في الجزائر : انتصار السوق على الإيديولوجيا!.. محمد السعيد : من الدعوة لانتصار الشيوعية إلى الدعوة الإسلامية كيف تمرد الوزير الأول قاصدي مرباح على بن جديد؟ الإنقلاب السري ومحاولة الإنقلاب العلنية هل دبر الشاذلي بنجديد حوادث أكتوبر 1988؟ إشكالية القضاء في الجزائر