الربيع ولد إدومو يكتب النص الأخير من ثلاثية “دار السلام”
وكان ان سقط الشيخ عبد الرحمن.. وشكل ذلك صدمة كبيرة، فكاننا أمة تيتمت، وعلى غير انتظار سكن الحزن حينا، فلم يبق صغير ولا كبير الا زاره، فامتلأ حوشه بالزوار، الذين سكن الرجل قلوبهم وعقولهم.
وكنا نسأل: أيمرض الشيخ عبد الرحمن وتنوبه النوائب؟ قيل: بلى.. ويفنى، فكل من عليها فان. وكنا نعجب، فقد كنا نظن انه لا يمرض ولا يشيخ، وسيبقى صوته وهيئته كما كانا منذ الازل والى الابد. وكنا على ايامها نقول والله ما يرحل عبد الرحمن، حتى يلعن الله هذه الارض ومن عليها فتغدو يبابا. وقلنا: ايمكن للشيخ ان يرحل وفي عنقه يتامى وارامل وخلق لا يعلم امره الا الله والشيخ عبد الرحمن؟ قيل: الباقي هو الله.
ونقل الشيخ الى “مستشفى الصين” فحجزوه في غرفة وقالوا لا يدخل عليه الا “شنوا” نفسهم او من يقوم مقامهم من الاطباء، وظل يومين قبل ان يعيدوه الينا اضعف مما كان. وقبل نقله بثلاثة أيام اليهم نام الشيخ عبد الرحمن ظهرا في “محمل في الحوش” واستيقظ مستغيثا بمن ياتيه بشربة ماء، وقال انه يعاني من صداع لا قبل له بتحمله. ومع الألم الشديد “حسنو رأسه” ووضعوا عليه الحناء فخف وجعه ولكنه استمر، وما كان يقوم الا ليعود منهكا متعب الملامح، وكل مساء يزداد عليه السقم فيمتص منه العافية والصحة، حتى ارهقه المرض واتعبه، فكان يئن ولا يكاد يفتح عينيه.
وعندما جئته وقت صلاة المغرب يومه الثاني كان يودع ملائكة النهار ويستقبل ملائكة الليل، وقال لي همسا وكان يضع يده على ركبتي: – لقد انتظرتك طويلا اين كنت؟ قلت وقد صعد الدمع الى عيني وغصت كلماتي بالوجع: – انا هنا.. كنت عند أهل الحاج ولد زيدان، فقد جاءهم ابنهم “اببا” من ساحل العاج وجاء معه بامراة منهم وابناءه لا يتكلمون كلامنا. قال في عتاب: – يوم كامل وانا مريض ولا تزورني. فاوغل الاسف في قلبي حتى هز العروق، وكنت اطالع ملامحه المتعبة وجسده النحيل وشعره الذي تعبث به الريح، وكان لا يشرب الا ماء “تقليت” التي طبخت مع قطعة لحم حمراء، ولا يأكل الا قليلا من “بلخ” فينقبض قلبي عليه.
وقال قائل: انه لا يكلم الكثيرين فلا طاقة له بذلك، وقيل: انت اول من كلمه هذا المساء. فزادني ذلك بؤسا، وانا الذي ابتعدت كثيرا عن شيخي حتى كدت انساه، فاذا به لا ينساني واذا به يجاهد المرض كي يكلمني ويلومني. فقلت: والله يا شيخ ما قصدت، ولكنها الدنيا تاخذك هنا وهناك، وللأمانة فقد سمعت انك مريض فغالبت نفسي في المجيئ اليك، وانه ليحزنني ان اراك مريضا فكنت كلما اقتربت من حوشك انقبض قلبي فعدت ادراجي. فلاح على ثغره طيف ابتسامة.. وقال: – جهز نفسك. فقلت: لماذا يا شيخي؟ قال: “شنوا” يقولون انه لا أمل في العلاج هنا، فالامر له علاقة بالدماغ، وانه يلزمنا الذهاب على جناح السرعة الى نواكشوط، حيث علينا إجراء فحوصات هناك والتداوي عند الأطباء، ومالي قدرة على السفر دونك، فانني اسعد بك وافرح بحضورك، فتكون الى جانبي في هذه الرحلة الصعبة. وقال كلاما آخر.. ثم سكت لبرهة.. وقال في ضعف: لعلي بحاجة الى الراحه.. ومال على جانبه الأيمن ونام..
وفي الأيام القادمة سمعت الكثير عن العاصمة نواكشوط، وقيل يمكن للواحد ان يذهب الى السينما، ويمكنه ان يدخن مع ناس اكبر منه، وقيل يمكن للواحد ان يواعد “ديسكتات” ويركب تاكسي و”وتير” ويمكنه ان يذهب للبحر. وقيل “دار الشباب” مليئة بالمراهقات النحيفات فتحصل الصداقة و”الضحك” و”الملاحة”، ويمكن ان “يتسدر” الواحد ضحا امام ابواب “المدارس الحرة” فيجد من يهمه الامر، ومن باب الشهرة والثقافة يمكن للواحد ان يكتب رسالة للاذاعة فتسمعها البلاد في كل المدن، وقيل الملاهي كثيرة وهنالك “البيسات” و”تكسيات” و”انبورو بير” و”مارو والحوت” وماشاء الله من الخير، وهنالك “حمامات” فيستحم الواحد وينزعون عنه كل غبار الريف والبوادي الذي علق به منذ ولدته أمه.
ولم اعرف هل افرح بنواكشوط وملاهيه ام احذر من “المعاصي” التي تنتظر الواحد في كل شارع وكل ساحة، ام اترك ذلك كله واحزن على شيخي الذي يزداد نحافة كل يوم ويذبل في ايدينا.
وبعد أيام كنت أعيد “خوصة” لفتاة نحيفة من أهل التميشة، لأنني سأذهب إلى نواكشوط فجر اليوم الموالي، ومن يذهب الى نواكشوط لا يعرف متى يعود، ما يستدعي من باب “الوثقة” ان تستعيد البنت “خوصتها” قبل الانصراف.