من أجل أيديولوجيا وطنية…
الزمان انفو ـ عرفت بلادنا حركات أيديولوجية متعددة كان لها الفضل في نشر الوعي السياسي في صفوف الشباب قبل الاستقلال وبعده. استلهمت تلكم الحركات أفكارا تتجاوز الإطار الوطني الذي عدته مرجعياتها الفكرية ضيقا. فكانت “حركة القوميين العرب” التي نشأت في الجامعة الأمريكية في بيروت! على يد ثلة من الشباب العربي المشرقي عام 1948، وتمزج بطريقة عجيبة بين التنظير الماركسي والفكر القومي الأوربي، أول الحركات السياسية التي عرفتها بلادنا. بعد نكسة 1967 حددت الحركة خياراتها الفكرية بشكل واضح فتبنت الفكر الماركسي في صيغته الراديكالية.
نتج عن ذلك تحول القوميين العرب الموريتانيين إلى “ماويين”، وتسموا “الكادحين”… ثم تتالت الحركات الأيديولوجية ذات التنظير القومي والأممي؛ فجاء الناصريون، والبعثيون، ثم الإخوان المسلمون… ما يجمع هذه الحركات الأيديولوجية جميعا هو أنها تَنظر إلى موريتانيا بصفتها جزءً من كل تطبق عليها مساطر فكر لم يفكر فيها منظروه عند صياغته. فكان أولئك الذين تبنوا تلكم الأيديولوجيات، الأممية والقومية، من الموريتانيين يحددون انتماءهم الوطني من خلال انتمائهم الأيديولوجي. بمعنى أن موريتانيا التي حلموا بها صورة ذهنية مستمدة من الأيديولوجيا، بعيدة الصلة بالواقع. ظل تأثير هذه الحركات في الحياة السياسية هامشيا في سنوات الاستقلال الأولى إلى أن دخل نظام المختار ولد داداه رحمه الله في حوار مع جناح من “الكادحين” تحت رعاية حرم الرئيس التي كانت شريكته في السلطة إلى حد ما. أسفر “الميثاق” عن إدخال “إصلاحات وطنية” على النظام، ودخول “الميثاقيين” إلى أجهزة الحكم… لكن التجربة ما لبثت أن راوحت مكانها عند اندلاع حرب الصحراء التي عطلت الإصلاح وفرضت على النظام أولويات جديدة… بعد سقوط نظام المختار ولد داداه عام 1978 تعاقبت على السلطة أنظمة اكتفت بإدارة الشأن اليومي للدولة دون أن تمتلك مشروعا وطنيا، ولا رؤية سياسية واضحة وهو نفس الإرث الذي استلمته من نظام الجمهورية الأولى. وهكذا، انقسمت الطبقة السياسية فئتين تتنافران غالبا، وتلتقيان أحيانا؛ فئة أصحاب السلطة، وفئة المثقفين الإيديولوجيين. كان همّ الفئة الأولى تسيير الشأن اليومي والمحافظة على النظام، أما الفئة الثانية فكانت تتوق إلى استلام السلطة لتطبيق برنامجها الأيديولوجي المتجاوز لحدود الوطن. في كلتا الحالتين لم تكن الدولة الموريتانية والمجتمع الموريتاني على رأس أولويات الطبقة السياسية الحاكمة، ولا النخبة المثقفة الشريكة معها، أو الطامحة إلى الحلول محلها. وبذلك ظل هناك انفصام بين المجتمع والدولة التي عجزت عن بلورة مشروع وطني يحس المواطن العادي بالانتماء إليه، فيعمل على إنجاحه، وهذا ما ولد ضعفا ملحوظا في الروح الوطني لدى بعض الموريتانيين، (قارن التظاهر أمام سفارة أجنبية تنديدا بقرار سيادي وطني)!!! فلم تشأ، أو لم تستطع، الجمهورية الأولى تبني “أسطورة مؤسسة”( بناء شخصية وطنية بالاعتماد على إعادة صياغة أحداث تاريخية، حقيقية كانت أم مختلقة، ضمن سياق يعزز الانتماء إلى الوطن)، حين تبنت الوصف الوظيفي الذي تصوره المستعمر لبلادنا: همزة وصل بين شمال إفريقيا وغربها. فهذا التصور الوظيفي لا يمكن أن يكون “أسطورة مؤسسة” لأنه يُفرّغ الدولة والمجتمع من أي قيمة ذاتية يمكن أن تكون مشتركا يتقاسمه أفراده. وبذلك ظلت موريتانيا المستقلة، في نظر أبنائها “صناعة فرنسية” (أنظر مذكرات المختار ولد داداه رحمه الله) حمتها، ككل صناعاتها، حتى أصبحت “قادرة على المنافسة”. لقد وُضعت أسس الدولة، كما تُدق أوتاد الخيمة، وحوت الشعارات والرموز المرفوعة الكثير من التناقض. سميت الدولة “الجمهورية الإسلامية”، لكن دستورها نص في ديباجته على أنه “يستلهم روح دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة”، وهي جمهورية علمانية!!! ولم يكن العلم الذي اختير للجمهورية الوليدة يرمز إلى معاني واضحة يمكن للمواطن أن يجد ذاته فيها، وجاء النشيد الوطني نشازا بين الأناشيد الوطنية في العالم كله؛ فقد خلا من أي شحنة عاطفية، ولا صلة له، في تاريخه وكلماته، بالوطن!!! لقد خطونا اليوم، بعد إقرار الشعب الموريتاني للإصلاحات الدستورية، خطوة جبارة على درب إعادة تأسيس الدولة والمجتمع على أسس وطنية تقدم الانتماء إلى موريتانيا على الانتماءات القومية والأممية، التي فقدت إغراءها منذ انتهاء الحرب الباردة. فلدينا اليوم فرصة فريدة لبناء “أيديولوجيا وطنية”(الأيديولوجيا مفهومة في سياقها المعرفي، السابق على القدح النابليوني الذي تبناه التنظير الماركسي) تتيح لوطننا تحقيق نهضة شاملة كافة المستويات. فالقيادة السياسية اليوم تتمتع بكاريزما حقيقية، وشعبية كبيرة، وتمتلك مشروعا وطنيا واضح المعالم، وتعيد اكتشاف مقاومتنا الوطنية المجيدة بصفتها “أسطورة مؤسسة” للمجتمع الموريتاني الذي انخرط فيها بكافة فئاته. فلم تكن المقاومة الوطنية مقاومة “أمراء وعلماء”، وإن نهضوا فيها بالدور القيادي، وإنما كانت مقاومة شعبية اتخذت أشكالا مختلفة تضافرت كلها لرفض الجسم الغريب. إن توفر العناصر الثلاثة الضرورية لقيام “أيديولوجيا وطنية” (القيادة الكاريزمية، المشروع الوطني، الأسطورة المؤسسة)، تفرض على نخبتنا المثقفة، وطبقتنا السياسية التعاون على صياغة “الأيديولوجيا الوطنية” على مستوى التنظير، وتجسيدها في الواقع. فلم تتحقق نهضة الأمم إلا بالتعاون الوثيق بين الطبقة السياسية والنخبة المثقفة لتكامل الأدوار بينهما. فقد حرصت الأنظمة الوطنية، في مرحلة الاستقلالات على التحالف بين المثقف والسياسي، بل كان المثقفون الوطنيون في طليعة العمل السياسي. لكن الدعاية الاستعمارية ما لبثت أن بثت روح الشقاق بين المثقفين والسياسيين، نافخة في “أنا” المثقف، ومعززة شعور الريبة لدى السياسي. وبذلك أفلح المستعمر في دق الإسفين بين الفئتين فتبادلتا التنابز بالألقاب. فغدا السياسي بالنسبة للمثقف مستبدا، والمثقف بالنسبة للسياسي عميلا، وعززت الدعاية الاستعمارية كلاً في قناعته، فوصمت الأنظمة الوطنية بالاستبداد، وخصصت جوائز “رفيعة” لا يحصل عليها إلا “المثقفون المعارضون، والمنشقون”. وبذلك رسخت في أذهاننا “حتمية” الصراع بين المثقف والسياسي. لقد استخدمت هذه الدعاية ضد الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية وجُند لها مثقفون غربيون وجامعات ومراكز أبحاث احتضنوا المنشقين وبالغوا في مديح أعمالهم. فكان لذلك تأثير عميق على الأنظمة الاشتراكية التي وصمت بقمع الفكر والعداوة للمثقفين! في نفس الوقت تعززت الصلاة بين المثقفين الغربيين والسياسيين؛ فجاء الدكتور كيسنجر من الجامعة الأمريكية ليصبح مستشارا للأمن القومي، ثم وزيرا للخارجية في عهدي نيكسون وفورد. ثم أصبح بريجنكسي منظر “الاحتواء المزدوج” وتفكيك خارطة “سايكس-بيكو”، مستشار الأمن القومي في عهد كارتر. وفي أوربا أحاط ميتران نفسه بريجيس دوبريه، وجاك آتالي الذي أوحى إليه بالهرم الزجاجي في باحة اللوفر. وسواء في أمريكا، أو في أوربا ظلت الجامعات ومراكز الأبحاث معملا تُصنع فيه النخبة المثقفة الطبقةَ السياسية ليحل التكامل عندهم محل الصراع الذي يراد له أن يسود عندنا. بل إن النظريات “العلمية” التي يراد منا تبنيها، بصفتها حقائق موضوعية، ينتجها “مفكرون” على صلة بالدوائر الأمنية، والسياسات الخارجية في بلدانهم! فقد كان هنتغتون، صاحب نظرية “صراع الحضارات”، ” بالإضافة لعمله في هارفارد، مخططاً أمنياً في إدارة الرئيس جيمي كارتر، وشارك في تأسيس مجلة فورين بوليسي، وترأس عدة مراكز دراسات بحثية. كان ديمقراطياً وعمل مستشاراً لنائب الرئيس ليندون جونسون…” ونفس الشيء ينطبق على فوكوياما، منظر “نهاية التاريخ”، الذي ” بالاضافة لعمله الجامعي، عمل في قسم العلوم السياسية بمؤسسة راند… وعمل في هيئة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية في الثمانينيات.” إن الوعي بأهمية التكامل بين النخبة المثقفة، والقيادة السياسية التي تمتلك مشروعا وطنيا ورؤية سياسية واضحة، يدعونا إلى دعوة المثقفين، في الموالاة والمعارضة، إلى تجاوز الخلافات والإسهام الفعال في بناء موريتانيا الجديدة، استجابة لإرادة الشعب الموريتاني التي عبر عنها بوضوح في استفتاء الخامس من أغسطس…
من صفحة الدكتور محمد إسحاق الكنتي على الفيس بوك