الإدارة بين تخلف المنهاج و الاكتظاظ السلبي
ومرة أخرى تكشف الإدارة في مجملها عن حالة قصور لا نظير له حيث يتم التعاطي في كل دوائرها بأساليب بالية ولغة مجترة مبتذلة لنتائج هزيلة غير مقنعة.. لا المكاتب في تأثيثها وغياب تكاملها تستجيب لأي معيار من تلك المتعارف عليها عالميا.. فمكاتب الوزراء منعزلة عن قلب الوزارة النابض والأمين العام في ركن قصي تطبع محيطه العملي فوضى عارمة.. وأما بقية الموظفين السامين و رؤساء المصالح والأقسام فشتات في فضاء متشابك، مكتظ، متناقض، غير مؤهل و لا مجهز لأداء المهام القطاعية. و الأدهى و الأمر أنه في الغالب الأعم تتقاطع المسؤوليات الغير محددة، داخل هذه القطاعات، بإتقان في تناقض الضعف و عدم الإحاطة و الكسل و الغياب و اللا مهنية المطلقة في صمت التواطؤ على المصلحة العليا للبلد و كأن الأمر ضرب من المسرح الهزلي.
هل تراجع القوالب؟ و من يفعل؟ لا طعم و لا كبير صيت أو مردود علمي أو مادي لقليل المؤتمرات و الندوات و اللقاءات ذات الطابع الإقليمي و القاري و العربي و الإسلامي التي تعقد في هذه البلاد بشق نفوس أفراد يكادون يعدون على رؤوس الأصابع في الوقت الذي أصبحت فيه عواصم الدول من حو لنا منابر ذائعة الصيت و مكان مورود لاجتماعات كبرى و اتخاذ قرارات جلى و تزكية عالية لعلماء و خبراء و منظري و مرجعيات و قادة رأي في هذه البلدان. هل نضبت في حقل الكلام ادعاءاتنا أم أنن سلمنا مرغمين ألسنتنا النارية لقطط الهوان و هوان النسيان. و مهما يكن فإن ما يعقد فينا من هذه اللقاءات تحت عديد العناوين البالية و المواضيع الخاوية ضرب من الحركات البهلوانية اليائسة في قالب انتهازي صارخ؛ لقاءات لا تلبي في عمومها أي مطلب للفكر أو حاجة للثقافة أو غاية للعلم و لا تحقق للدولة أي مكسب.. فهل تراجع القوالب؟ و من يفعل؟ غياب الصفاء الروحي عندما اطلع يوميا على حراك الشعوب و تقدمها إلى آفاق المستقبل الواعدة، و لو بتفاوت في جميع المجالات، ينتابني شعور مزدوج عارم من الغيرة و الحزن بسبب ما نعانيه من تأخر شديد عن ركب الأمم يكاد يلامس حد الغياب و كذلك بُعد فهمنا ماهية العصر الذي يطوقنا من كل جانب و يبعث إلينا بإشارات الخطر المحدق من جراء تعطل نبضنا عن مصاحبة دقاته المنتظمة السريعة… شعور أخطر منه أننا مصابون بالشيزفرينيا… فعلى قدر واقعنا المرير تعيش في أذهاننا و تتمثل في سلوكنا ـ على الأغلب ـ نزعة الاستعلاء الحضاري (البداوة العالمة) و جنون العظمة المعرفية (نبوغ الشناقطة) و ادعائية التدين الأعلى الذي يخفي في حقيقة الأمر نزعة التستر المغالط و الصارخ على الهفوات (التكيف مع السيبة) الكابحة جماح قيام مجتمع متوازن يعيش في دولة مزاجها الروحي يطبعه الصفاء و تحظى بحكامة بناءة. درسان مؤلمان من الغير مهندس غيني شاب يشيد بمجهوده الخاص و طموحه الفردي سدا لتوليد الطاقة الكهربائية لسكان قريته البالغين أزيد من مائة أسرة تستخدم لإنارتها مصابيح البطاريات و زيت محروق البترول. الأمر و ما فيه أن المواطنين الغينيين الذين حصلوا معارف علمية و طوروا قدرات هندسية يحملون هم مواطنيهم في قلوبهم و عقولهم و يضعون معارفهم في خدمة الرفع من مستواهم في كل المجالات. و على قناة فرنسا 24 تابعت رحلة شبان من أحياء الضواحي الباريسية المضطربة إلى قرية نائية في الشرق الموريتاني لحفر بئر ماء شروب و إنقاذ سكانها من مخاطر الماء القليل الملوث الذي يستخرجونه بشق النفس و ضعف الوسائل.. كيف لا نخجل من وضع متعلمينا النفسي المضطرب، و من سوء ثقافتنا الاجتماعية الهابطة المطبوعة بالكسل و الهوان و غياب اللحمة و انعدام الإنسانية، و من عسف حكاماتنا الهزيلة الفاسدة منذ الاستقلال و غياب التخطيط و التوجيه الإنمائي المحصن بالرقابة الصارمة؟ هل غابت مناهج الفكر السياسي المحكم؟ هل جبن من بقي من الحركيين الفكريين التحرريين – المتمردين على قوالب النظام الطبقي القبلي الإثني و الفساد المؤسسي ـ عن التشبث بقناعاتهم الثورية القديمة التي حملوها في عز شبابهم و قبلوا في سبيل نشرها لرفعة الوطن ذلَّ السجن و مرارةَ الإقصاء؟ ألم يصبح من بقي منهم ينتظر ـ و قد اختاروا على هرم التمترسَ الانتكاسي وراء أحزاب هلامية ـ مُنَظِّرُو شؤم لسياسة بيع الذمة بالقطعة؟ ألم يُعلموا الجيل الحاضر الذي يتمتع بحيوية الشباب و الذي قبله من الكهول السيرَ على هذا النهج دون الأول حتى باتت السياسة عنده صنو التملق و التزلف و الترحال الطمعي و المؤامرات و الغدر و فساد الضمائر؟ هل ولى عهد الشعر و صفد الشعراء؟ أين الشعر المجلجل الهزاز و أين الشعراء الخناذيذ الذين يوقظون نائم الشعور بالعزة تحملها الكلمة القوية، و المحبة تنساب بها الجمل الندية إلى أشغفة القلوب و أعماق الأرواح، و يمتطون خيول الخيال الجامح يسابقون الحروف المجنحة يقتنصون منها حبيبات النور و ينثرون الضياء؟ فهل ولى عهدهم و أفل نجمهم و تحول صوتهم إلى رغاء في صحراء النسيان؟ فلا اليوم شعر وهاج يُنشد على منبر فيشد الانتباه أو يوخز الضمائر التائهة الخائبة المصفدة بأغلال الإحباط عند عتبات بلاط المادة و مسرح السياسة الهابطة. الفشل بالجدل و المنع من العمل” عجيب أمرنا مع السياسة.. في حين توحد أحزاب الدول في كل أرجاء المعمورة صفوف جبهتها الداخلية لمواجهة كل أزمة تشب مع دولة أخرى جارة أو بعيدة ليتمكن البلد من كسب المعركة، تزداد أحزابنا انقساما و يغلب حب الإضرار بالآخر على مصلحة الوطن الكبرى.. فإجماع الأحزاب في الدول من حولنا لحظة الأزمات لا يعني أنها متفقة بالضرورة و لكنها وحدة الصف الحتمية على خلفية المواقف الإيجابية من قضية الخلاف سعيا إلى مراعاة حق الوطن و منعته و هيبته و كأن أصحاب هذه الأحزاب يعملون بمقتضي الإسلام في نصرة الأخ ظالما أو مظلوما، فيما يَصدُقُ فينا بما نبين عنه من صدع و شروخ من محض أملاءات “سيبتنا” التي تلامس لب “الجاهلية” أنه : “إذا أراد الله بقوم الفشل منحهم الجدل و منعهم العمل”.