هل قهر دفين بين عهدين؟الولي سيدي هيبه
عندما يرى بعض أصحاب الشوكة يهرولون وراء الكتب الصفراء يبتلعون حبرها الرمادي الباهت ليداووا وساوس الخذلان و يصنعوا من أوراقها المتكسرة قوارب أشرعة للنجاة من الغرق في يم الذهول تحت أمواج النسيان، و عندما يرى على المقيض بعض أصحاب احتراف الحرف المنحوت من عود القتاد الذاوي المُحبّر بسحيق الفحم و الكندري يحملون ألوية النصر إلى قمتي الدرهم و السهم و ينصبون على أعالي سطوح العمارات الشاهقة مدافع القوة و قاذفات الهيمنة فاعلم أن جَمَلَ عهد ولى بما حمَل و أن آخر قد أقبل، و لكن شيئا بالمقابل في مسار الظلم لم و… لن يتغير.. خلع ثوبا و ارتدى ثوبا محله لتظل نفوس أصحاب البرزخ المترهل عامرة بمرارة القهر بين عهدين و… بالترقب. سجن التحجر صحيح أننا نعيش في عصر باتت فيه، و بفضل السياسات الدولية المتقاربة و يقظة المنظمات العالمية، و كثرة فائض الإنتاج من الأغذية، المجاعات الكبرى من ذكريات الماضي ( مجاعات الهند 44/66/76، جفاف الساحل 1970، إثيوبيا 1973 ومنتصف 1980، السودان في أواخر 1970 و 1990 و 1998، مجاعة 1980 في كاراموجا)، و تراجعت الحروب الشاملة الدامية بين الدول التي اختلط فيها الحابل بالنابل و احترقت ثم غابت الحدود مثل (حرب الأغوادين بين أثيوبيا و الصومال 77/78، حرب الصحراء 75/78، الحرب الأوغندية التانزانية 78/79). و لكن غير صحيح أن هذه الدول لم تأخذ العبر منها، فدولة السودان اليوم رغم الحصار هي سلة للحبوب معتبرة، و أثيوبيا و رواندا و أنغولا دول تنعم بقدر كبير من التقدم الاقتصادي و الثقافي و الرقمي، و غير هذه البلدان في القارة تحسنت أحواله و دخل بإرادة قوية عصر التكنولوجيا و الصناعة التحويلية لموارده الأولية.أما موريتانيا فلم تحفزها سنوات الجفاف القاسية و لا تجربة الحرب الضروس على الإقلاع في أحضان السلم المتوفر على هشاشته و وفرة الخيرات رغم سوء استغلالها و ما يكون من الفساد و سوء التسيير ذلك بأن عقلية أهل البلد المعادية لعقلية التحول و التطور ما زالت سائدة تمسك بتلابيبه، تشده إلى الأسفل و تشل حركته عن الانطلاق و التطور.. فهل ترى ينبري جيل يأبى ذلك و يحاربه؟ وِدان لا وَادان ابتعدت قليلا عن جهاز التلفزيون و هو يبث من محطة الـ “بي بي سي” برنامج “أنا شاهد” بحيث لم أكن أرى الصور و لكن أسمع قراءة التعاليق. و فجأة طرقت مسامعي عبارة مهرجان “ودان” فعدت مسرعا إلى أمام الشاشة. لكنني استغربت من حسن المشاهد المعروضة و مدنية المشاركين في الزي و الحركة و الهدوء و الانضباط فاقتربت أكثر من الشاشة لأتفاجأ بأن المدينة غير المدينة التي أعرف و أن الناس في لبسهم و نطقهم غير الناس الذين أعرفهم، و من بعد إلى المتحدثين مع الصحفيين أصحاب التحقيق فإذا بهم هادئين و مثمنين بدراية كاملة و إلمام شامل و تجرد رفيع للمدينة و تاريخيها بلا ادعاء عنها أو لها بالتاريخ الخارق أو الاسم الذي لا يعني سوى أنها الود بين الأهل و الود بينهم مع الزوار و الضيوف الذين يصلون إليها..لا أكثر. أصبت بخيبة و صدمت من غير متوقع بعدنا كنت شاهدت قبل ذلك تحقيقا مريعا من موريتانيا عن الطريق الرابط بين روصو و نواكشوط تحت عنوان “طريق الموت”. مهزلة عجز النخب عن فعل التغيير و تستمر مهزلة عجز النخب عن مسايرة مقتضيات العصر و تتوالى فصول مسرحية افتعالها المفضوح عكس ذلك من خلال المشاركات الكثيرة ـ التي تحصل على إثر الدعوات (مصر، تونس، المغرب، قطر، الكويت، دكار، جنوب افريقيا، إلخ…) و من الجمعيات و الجهات التثمينية اللا متناهية (مؤسسات و مجامع و مكاتب دراسات و نوادي فكرية في المشرق و المغرب العربيين و بعض الدول الإفريقية الرائدة بحيوية ساحاتها الفكرية و العلمية كجنوب إفريقيا و السينغال) في المنابر من دون أن تثمر عودة أفرادها ميمونَ التحصيل أو علميَّ التطبيق لصالح التحول و التغيير إلى فضاءات التميز و الإنتاج الفكري و الثقافي و العلمي.. حقيقة تبروها جلية الأوضاع السائدة بطابع التأخر المزمن و الكساد المعرفي الشامل الذي تترجمه حالة نضوب المُخرج و جفاف ساحة العطاء. و لو اكتفت لنفسها هذه النخب، “المتألقة..؟!” في الخارج و “المكفوفة المشلولة” في الداخل، تكتما بالوقوف عند هذا الحد لهان الأمر و لكنها تُتبع غياب المساهمة في رفع شأن الثقافة في البلد ضجيجا أدعائيا صاخبا و تأففا استعلائيا على الأنام مهينا.